الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حرمان وحنين....

عائشة مشيش

2014 / 2 / 27
الادب والفن


حرمان وحنين ...
فتحت صندوق الرسائل الموجود أسفل العمارة التي تقطن فيها ، وجدت عدة رسائل أخدتها وهي تنظر إليها بترقب ، لمحتها ، كانت هي التي تنتظرها وتتوجس منها في نفس الوقت ، أخذت طريقها الى درج العمارة فلم يكن لديهم مصعد وهي على كل حال تسكن في الطابق الأول .
فتحت الباب بمفتاحها ، ثم دخلت وهي في غيبوبة لا نهاية لها بعد تسلمها لتلك الرسالة التي لم تفتحها بعد ، لكنها كانت تحس أن فيها ما تنتظره وما لاتريده ، كيف وصلت إلى هذه النهاية بهذه السرعة ..؟ لم تحس بما مضى من الأيام ، كانت الأيام تطحنها ثم تعيدها ثم تعيد الكرة مراراً وتكراراً ..لم تحس إلا والأيام قد انقضت وتسربت لتجد نفسها في الأخير تنتظر حكماً بطيئاً بالموت وهي التي لم تتعود انتظاره ، بل كانت تفكر فيه كشيء يتعلق بالآخرين وليس بها ....فهي في شغل دائم ولا وقت لها للتفكير فيه ...
الرسالة مفادها أنك لم تعودي صالحة للعمل وبالتالي جاء وقت ركنك على جنب أوانتظري ما كنت تهربين منه ... ( الموت ) ..!
حين كانت تعمل ، كانت تنتظر العطلة بفارغ الصبر لكي ترتاح وتجلس في ركنها المفضل في غرفة المعيشة لتشاهد فيلماً أو مسلسلاً أو أخباراً عن بلدها وعن العالم المليء بالصراعات والإخفاقات ولا شيء عن الإنتصارات ...
لكنها اليوم ، لا تريد تلك العطلة ، فهي عطلة طويلة مملة بطيئة خالية ممن كانوا يملأون حياتها بهجة وفرحة وحماساً للعطاء وأيضاً أعصاباً وانفعالات وغضباً.... ، لكنها حياة ...!!
جلست على الأريكة وأخذت تتأمل تلك الرسالة ، ثم رحلت إلى أيامها الأولى حين استلمت وظيفتها ، كانت الفرحة تقفز من عينيها لتنتشر عبر البيت، ووالدتها فرحة لفرحها ...
وكل مَنْ في البيت يهنئها ، فقد كانت الوظيفة شيئاً بعيد المنال بدون وسائط أو تفوق متميز ، كانت تقديراتها عادية لكنها لم تكن تفتقد الذكاء والفطنة ، وكانت رافضة مبدأ الحفظ والتلقين لكي تتميز ، وإنما تهتم بكل شيء وتفهم حركات الأشياء دون أن تضطر الى حفظها .. كانت عائلتها متوسطة الحال لا هي بالفقيرة ولا هي بالغنية ، لكنها عائلة معروفة في مدينتها ...
كانت فتاة شابة مقبلة على الحياة ، جميلة برصانة ، واثقة من نفسها ، ذات ثقافة متوسطة ، فلم يكن لها صبر على الكتب الطويلة العميقة الجادة ، لكنها في نفس الوقت كانت تلتقط من محيطها ما يعطيها سلاحاً في وجه الجهل والتخلف ..
تزوجت عن قصة حب لم تَطُلْ طويلاً ، كان صديقاً لأخيها وكان يزوره في البيت ، فتم تعارفهما ، وبعدَ أنْ استلطفا بعضهما ، تحول ذلك الى حب توجاه بزواج في حفل عائلي صغير ....
فقد كان من عائلة غير ميسورة ، وهو حديث العمل بعد تخرجه من الجامعة كان منطوياً ، أصدقاؤه بعدد أصابع يده ، كتوماً قليل الكلام ، ورغم ذلك أحبّته ..
كانت نقيضه، اجتماعية تحب الحديث ، مقبلة على الحياة بغير تحفظ ، متعاونة نشطة وهذا ساعدها على عمل نوع من التوازن في حياتهما ، كان معجباً بنشاطها وحماسها و وحركتها ، لكن ذلك انقلب إلى اتكال كلي عليها ..مما جعلها تدور في ساقية واحدة دون أن تعطي لنفسها فرصة للتفكير، أو أن تمنح جسدها حقه عليها من الراحة والاستمتاع ..
هزت رأسها في حزن دون أن تدمع ، فهي قليلة البكاء لأنها الأقوى دائماً هذا ماكانت تقنع نفسها به ..قائلة : " نعم أنا التي كنت مثل نبات بري لم يلمس روحي أحد ، وأنا من كنت أجاهر بالتمني مثل حال الآخرين جميعاً الذين لا يتردد أحدٌ منهم في اغتنام الفرصة المجنونة أمام تحف أزلية تعبت الأرض في صياغتها وفي صقلها ...كيف ضاع مني شبابي ؟! كيف أمحو ذاكرتي بصرخة ألم و ندم ؟! ..
إن وقفته الآن قبالتي تخزُّني بإبر قاتلة كثيراً ما شعرت بها أنا المرميةُ إلى جوار الحائط الإسمنتي المهمل أمام رغباتي المحبطة تجاه تلك الأحلام المترفة .. جاهرتُ كثيراً في الحديث عن صفات جميلة كنتُ أتمناها فيه عوض طبيعته المميتة هذه ، المتجاوزة للحد المقبول لرغبات إنسانة مثلي ، والتي تقتلها قبلة او كلمة حب ..
لقد ارتكبت إحدى الحماقات الكبرى في حياتي حين ارتبطت بإنسان يناقضني ولا يحمل ما أحمله من الانتباه ولم أدرِ أنّ الأمور ستصل لهذا الحد من الجدية ......
أحسَّت انها كمن أصيب بسرطان الحرمان ، رغبت بأشياء كثيرة لم تستطع الوصول إليها ، كان مكتفياً بركنه ، معتمداً عليها في تصريف أمور أبنائه ، حتى أشيائه ... كانت هي من تعتني بها ، كانت طموحة ، وكان عاجزاًَ عن الطموح، حتى الحلم كان يعجز عنه ...
البيت الأول والحب الأول .. كم كنتُ أراقب حلمي وهو ينهزم أمام الزمن ، حملته وأبنائي مع حلمي ومضيت مجبرة على طويِّ الطريق لتحقيق أحلامهم هم ، بينما سقط حلمي في الطريق ، لا أستطيع حتى أن أتذكر حلمي بالدقة التي حققت بها أحلامهم ..!!
والغريب أني كنت أتصور أنّ حلمي هو ذاك الذي يتحقق لهم وأحاول مراجعة الحلم معجبة بنصف عمري الذي أنجزته في الظلام ، حين أعي أني نسيت حلمي ....
أبدأ بمراجعته مرةً واثنتين ....ولكني في كل مرة كنت أصحو فتتبخر الأحلام كصورة على شريط حساس تعرض للضوء قبل تظهيره....
قذفت بي السعادة بعيداً ، ولم يبقَ في حياتي إلا طعمٌ مالح للحسرة والإحساس بالخديعة الذي لا تُلَطِّفه إلا نية التربص بحلم جديد..
أقنعته بالدراسة لكي يرتقي بوظيفته ، وتوقفت هي عنها ، تحملت غيابه ثلاث سنوات للدراسة في مدينة أخرى تحتوي على تخصصه ، وبقيت والأبناء الصغار في مدينتها تنتظر عودته غانماً ليساعدها كمن يتعلق بقشة في نهر جارف منحدر ....
مضى الزمان بحركاته السريعة لا ينتظر من يبحث عن عشبة الخلود، ودون أن يقف ليلبي سلسلة من أحلام المحرومين ....
فتحت الرسالة ...
" بعد التحية ، نعلمك أنك وقد بلغت سن التقاعد نشكرك عل ما قدمتيه وما أنجزتِه وقد آن لك أن ترتاحي ، مع تقديرنا ، نمنحك وسام التقدير لنهاية الخدمة ."
حين رجع إلى بيته انشغل بعمله الذي ترقى فيه وبمكتبته ، وانشغل بعوده الذي كان يضمه إلى صدره عوضاً عني ، وكنتُ منشغلة بتهيئة الجوِّ الهاديء له ولأبنائه ....
لم أحلم يوماً بأن تكون مكتبتي أكبر مما هي عليه ! كنت أحلم فقط بأن أجد وقتاً للعيش فيها أطول مما هو متاحٌ لي الآن ... أنْ أقرأ ما أشتريته يوماً بغرض القراءة ، وليس لصنع متاهة، لكن ما أصعب أن تكون زوجة وأمّاً وعاملة وتنسى أن تكون حبيبةً وإنسانة في هذا العالم الثالث..
هنا حيث العدالة لا تأخذ مجراها الطبيعي ، تسربت حياتي دون أن أنتبه ، ذهب الأبناء إلى حياتهم ، وازداد هو صمتاً وانطوءاً وتفرغاً لعوده ، وفجأة وجدتُني أمام الحقيقة الموجعة ، والتي لن أستطيع أن أتخفف منها ، أنني لن أعيش ماكان يجب أن أعيشه ..
في كلِّ مرة كنت أهم بالعيش لنفسي كنت أشعر بالضيق للتقصير ، كنت أنتظر الحياة أن تتلطف وتنظر في أمري وها قد نظرت فأحالتني على التقاعد من كل شيء إلا نفسي التي لم يبقَ منها الا اليسير ، فهل سيمهلني الوقت لاستعادة ما ضاع مني ...؟!
هل بقي من الزمان ما أستطيع به أن أقرر مصيري ....؟!
نظرت إليه وهي تتمتم : " يداي مغبرّتان ، عقلي مشوش ، ولا أتمنى الآن إلا شفتيك . " ....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مخرجة الفيلم الفلسطيني -شكرا لأنك تحلم معنا- بحلق المسافة صف


.. كامل الباشا: أحضر لـ فيلم جديد عن الأسرى الفلسطينيين




.. مش هتصدق كمية الأفلام اللي عملتها لبلبة.. مش كلام على النت ص


.. مكنتش عايزة أمثل الفيلم ده.. اعرف من لبلبة




.. صُناع الفيلم الفلسطيني «شكرًا لأنك تحلم معانا» يكشفون كواليس