الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بحجم اللحظة .. بل أكثر .. - قصة قصيرة -

أماني فؤاد

2014 / 3 / 1
الادب والفن


بحجم اللحظة.. بل أكثر ..
د. أماني فؤاد

ــ غادرت غرفتي بالفندق في تمام الثانية بعد الظهر ، مع كل خطوة قطعتها من القاهرة حتي باريس شعرت أني مبحر لعينيها الدافئتين ، اللتين وقعت في شركهما حتي قبل أن أراها في الواقع ، هل يمكن أن تتعلق حياة رجل بامرأة إلي هذا الحد ؟
هل هي مجرد امرأة ؟ أم أنني فيها عثرت علي ذاتي ، الحلم ، تعرفت علي قلبي عندما وجدتها تجتاح مشاعري وتُقطّرها ، الحب الخالص المنقي من كل أوجه الأنانية ، هي فقط لي في اللحظة التي تخصني بها .
كان كياني ممتلئ بها ، يتقافز شوقا إليها ، حتي أنني أهفو إلي مجرد رفيف عطر ملابسها وهي تخطو بجواري ، إلي لون الليل الحالك في شعرها القصير ، بخصلاته المتهدلة علي جبينها المشرق ، إلي تلقائيتها وهي تفترش سجادة غرفة مكتبي ، تُخرج من حقيبتها قهوتها الخاصة وتبدأ في إعدادها لنا ــ أنا وهي وجلسة الصدق ــ ثلاثتنا كما كانت تطلق علينا . تبدأ مسترسلة في حكاياتها التي هي مزيج من السخرية والتأمل في كل تناقضات البشر التي تتعامل معهم ، وتلمس عجائبهم ، وتتعايش مع أطماعهم .
كم كنت أشفق عليها ، ولا استوعب كيف لهذا الكائن المرهف الجميل أن يحتمل أحلام ورغبات كل هؤلاء الناس المعلقة به ، يحبونها ويستخدمونها في الوقت ذاته .
ترمقني بنظرة جانبية وتصمت لأدرك حينها أن هناك شيئا تتخوف من حكيه ، فأقترب منها قائلا : "سما" هاتِ ما عندك ، أستغرق في عمق هذه العيون التي تحكي الشجن الهادر، والصخب الرائق ، وتحتضن الحياة .
تتململ ساحرة القلوب .. نجمة النيل ، وتبعث ملامحها أعقد المشاعر الدرامية ، لتبوح بضعفها أمام أحد نزواتها ، تتعجب من ذاتها .. كيف تفقد سيطرتها علي ما يتملكها اليقين من خطأه ؟ لكنها تفعله ، ثم تبكي .
كم من مرة سألتُ ذاتي ما هذه التوليفة الحارة التي امتزجت في هذه المرأة ، لتجعلها بكل هذا الجمال والقوة والصدق ، الضعف والجنون ، تقمص كل هذه الأقنعة في آن واحد ؟
ــ استلمتُ من موظفة الاستعلامات باقة الورود التي اخترتها بنفسي قبل ساعات ، ووقفت أنتظرها أمام باب الأوتيل كما أتفقنا في المكالمة الأخيرة ، حين أخبرتها بحتمية احتياجي لرؤيتها .
كنا معا قبل أن أعرف من الأصدقاء أنها سافرت في رحلة علاج غير مفاجئة ، وأنها قد تمكث أسابيع بعيدة عن مصر ، احترت لماذا لم تبلغني ، رغم أننا تحدثنا طويلا ، وظلت ملتصقة بصدري لأكثر من ساعات ، لم تذكر شيئا عن سفرها أو مرض ألمَّ بها ، فقط شعرت أن عينيها تسرحان بعيدا عني لوهلات قصيرة ، ثم ما تلبث وتتأملني كعادتها الأثيرة وهي تقول : "أحبك ، عشقي لك لم أعشه من قبل ، ولن يتكرر مع سواك " ، تبحر بعيني وتستقر بشراييني ، لم أدرك وقتها أنها ترتب لأمر ما .
كانت حين تريد أن تخفي عني شيئا تتحاشى النظر إلي ، تهرب بنظراتها بعيدا ، فأعرف أن هناك ما يقلقها ، فأتوجه مباشرة إليها وأنظر في عينيها ، فتبدأ كعادتها بهلاوساتها المحببة إليّ ، تشكو من خشونة كوعها التي تستعصي علي أجود الكريمات ، او سيارتها التي ينبغي أن تظل مشوهة ، كأنها قد خرجت من فم كلب بعد معركة غير متكافئة القوي ، معاناتها مع قيادتها بنفسها عشقا للحرية التي لا تنالها إلا معي ، أو بمفردها ، قلقها من التجاعيد الطفيفة التي بدأت تظهر حول فمها.
السيارة غير اللائقة بأميرة القلوب ، مع النظارة الشمسية الكبيرة ، يحجباها نسبيا عن المعجبين ، رغم أنها تضيق بالاثنين .
أظل صامتا إلي أن تنفذ طاقاتها علي الثرثرة والمراوغة ، ثم تنكس ذقنها الدقيق إلي أسفل ، وتبدأ تحكي انسياقها مضطرة كالعبة بيد الآخرين ، مبررة ما لا ترضى عنه بجنونها ، وقسوة الواقع ، رغبتها أن تحيا كل ما يمكن أن يعشه الإنسان بالحياة ، بكل غرائبها و نزقها ، كأنها تريد أن تقتنص قمم اللذة ، المقامرة بكل ما تملك : جسدها ، ومالها ، وعمرها ، انصياعها لضغوط لا تملك فيها اختياراتها .
اعتدت بعد جهد .. أن أطوع نفسي ، فأُظهر أني تخليت عن غيرتي عليها حتي لا أفقدها ، وأنني أكتفي من حياتها بمساحة الصدق والحميمية التي تخصني بها ، دون أن أسأل عن تفاصيل حياتها التي كانت تُشعل في قلبي النار.. وتُذهب عقلي ، فأنا عاشق لهذه المرأة ومتيم بها لأقصي الحدود ، كانت كل مواجهة مستحيلة ، بل وتحكم علي علاقتنا بالبتر الجالس علي مقعد الاحتياطي المتحفز دائما ، فهي ليست مجرد فرد ، بل كيان براق ومؤثر تحركه مؤسسات متعددة ، موغلة في تشابك القوى .
لمَ يظل الحب علي قوة تأثيره في المحبين كيانا هشا ؟ عند الاختيار يصبح هو هذا الثقل الأول الذي يُلقى به من سفينة الحياة ؛ استحقاقا لكيانات تبدو أرسخ حتي لو لم تكن أصدق .
ــ ظللت لأيام أبحث عن هاتفها في باريس ، وعلمت أنها فضلت الابتعاد لفترة ، أصرَّت أن تظل بمفردها دون أن يشعر الأخرون بلحظات ضعفها ، ذبول وهجها الذي حاربته بإصرار ، اتصلتُ كثيرا ولم أجد ردا ، لم ينتابني اليأس ، شعرت بتوق غامر يأخذني إلي صوتها الذي طالما شعرت فيه أني أسكن بحجرة واسعة الأركان ، لها شرفة ممتلئة بالزهور والأراجيح ، معلقة علي جدرانها الوردية كل اللوح التشكيلية التي عشقتها ، يتوسط نبراتها مدفأة ، وفي جنباتها أرفف من الكتب الناطقة المتشابكة المتصالحة ، العميقة والسطحية .
تملكتني أسطورتها ، هذا العشق الناري الذي صفعت فيه وجهها ذات مرة ، بكل ما أوتيت من غضب وحيرة ، بعد شهور من الهجر والفراق ، كان الابتعاد عنها قرارا اتخذته مرات من قبل ، حسمت أمري لا عودة للجحيم الذي أحياه مع هذه المرأة ، " سما " التي أبدا لم تكن مجرد أنثي تعشقها ، تحيطها بحبك ، فتأتيك قطة تسكن ضلوعك وتستقر ، تأمن وهي في أحضانك .
كيف تحتمل عشق امرأة يتجسد فيها حلم الملايين ؟ أصبحت ــ بداخلي ــ وشما محفورا داكنا ، دقته الأقدار علي بصمة عيني وأصابعي ، وشم لم استطع أن أمحوه .
تُحبك هي في مساحة خاصة ، تصفها بأنها أصدق ما فيها ، لكنها لم تستطع أن تقاوم صخب طموحاتها ، زهوها بألقها في عيون عشاقها ، شهوتها لكل ما في الحياة ، عملها الذي كانت تعبده وتخلص له ، في محرابه لا تشرك معه شيئا ، النجاح الذي اقتنصته من بين أنياب الحياة ، وروضت عفويتها من أجله ؛ لتظل علي عرشه .
مزق أضلعي الشوق ، بعد أن عصف بي حضورها الساحر علي الشاشة ، كانت ترتدي أحد تصاميمي لها ، ونادتني إطلالتها ، وجدتُني أقود سيارتي نحو بيتها ، فتحت الخادمة الباب فتوجهت إلي غرفتها مباشرة ، لأجدها كما توقعت وحيدة .. تجلس علي الأرض كعادتها ، بجوارها الكأسان : أحدهما ممتلئ بالنبيذ ، والآخر بالثلج ، هي ذات الطقوس التي علمتني إيها في ليالينا الرائعة .
حين رأتني همت تقف ، فألتقطتُ يديها وجذبتها إلي صدري ، لم تكن تحتاج جوازَ مرور لتدخل أعمق حناياي ، قواي التي خذلتني ثانية ، وعدت بعد فراق منذ أكثر من خمسة شهور كاملة ، تمنيت أن تنسحق اللحظة التي فيها ضَعفتُ .
حين انتبهت لذاتي و قد عدت إليها ، أقف علي نفس فوهة البركان ، قبضت علي ذراعيها ، وأبعدتها عن صدري ، وصفعتها بكل ما أوتيت من حنق عليها وعلي ذاتي ، فإذا بها ترتجف ، وترتمي في صدري ثانية ، ولا تنطق سوى اسمي .
ــ انشغلت وأنا أمام الفندق الأن كيف ألقاها ؟ هل احتضنها بمجرد نزولها من السيارة ، أضمها بين ضلوعي ، لأنتزع منها آلامها ، سحقا لمرضها ، وحزنها ، ونجوميتها ، وكل القلق الذي يعشش بروحها ، ويأخذها بعيدا عني .
هل ألتقط يديها وأقبلها ، إلي أن نصبح وحدنا دون عيون تراقبنا ، لا أحد هنا من المارة سوف يعرفها ، أو ربما يعرفونها لا أدري ، لا يعنيني الآخرين سأختطفها من المكان ، و المرض ، وهواجسها .
ــ تأَخرت كثيرا .. لم أستطع أن أفسر لماذا طلبت أن تمر عليّ بالفندق ، رغم أني عرضتُ عليها أن تعطيني عنوان المنزل الذي تقيم به ، قالت أنها في أشد الشوق لرؤيتي ، لن تستطيع الانتظار ، ستأتي لتملئ عينيها بحبيبها .
أسعد لحظات عمري تلك السويعات التي كنت أجدها أمامي بمرسمي دون موعد ، لم أشعر بهزة فرح علوي إلا وأنا أسكن في روحها الدافئة المثيرة ، الغامضة البكر ، كنت أغرق في عذوبة لقائنا الحميمي الغامر حتي العبادة والابتهال ، أتمثل جميع أحلام المحيطين بها ، والبعيدين عنها ويتمنونها ، وأعيشها استحواذا و تصوفا رائقا .
لن أنسى ذات ليلة كنت منشغلا بإتمام إحدى لوحاتي ، مستغرقا في رتوشها الأخيرة ، وإذا بي أجد "سما" أمامي ترتدي بالطو من المنك الأسود ، تبدو فيه مثل ملكات القياصرة ، ثم تنضوه عن جسدها في دلال لتتراقص عيني من تلك الموسيقي التي أنبعثت من الوجود الطاغي ، العاري تماما ، قمر أنزله الله معلقا في غرفتي ، في سمائي ، أقف مشدوها فتقع بالتة الألوان من يدي ، يجتاحني الجمال والرغبة مثلما لم اشعر طيلة حياتي ، تهمس شفتيها أحبك ، هل لك أن ترسم هذا المرمر الذي يعشق لمسات أصابعك وفرشاتك ، أستدير لأزيح لوحتي ، وأضع توالا آخر أبيض ، وإذا بقلبي لا الفرشاة يتراقص علي اللوحة ، لم أكن أدرك أن قوس قزح فرشاة تسكن بداخلي .
أكاد أجن ، لمَ لا تكون لي وحدي تلك الشفتان المكتنزتان الشهيتان ، نعم كنت ألتهمها حين تتباطئ وهي تهمس في أذني : "أحبك" ، تقسَّم حروفها كأنها تتذوقها بفمها قبل أن تتلفظ بها ، لمَ لا تقذف عالمها وتأتيني خالصة ؟
أغادرها حين أتذكر شيوعها لغيري .. أغادرها لمرات ومرات .. ثم تـعود وأعود .. لأتساءل مرارا لمَّ ترض أن يقتصرعيشك لها للحظات فقط ، ودون خصوصية ؟
تنسفني ألغامها دون قدرة علي تغييرها ، سياق حياتها المدمرلأعصاب أي رجل ، ما بالك بعاشق ، لكنها تبقي بعيني دائما امرأة الحلم ، منذ أول لقاء لنا قالت : " كأنك بقدميك تدخل حقل صبار مغلف بالورود الصفراء" .
ــ لم أبرح مكاني عند مدخل الفندق .. والدقائق تمر تباعا ، و"سما" لم تأتِ ، ماذا حدث ؟ بدأ القلق يساورني ، مرت ساعة .. واثنتين .. ولم تظهر، .. انسحبت أحلامي تجرجر أذيال المشاهد التي عبأتها بالشوق ، وصممتها بخيالي مشمسة دافئة ، فانسحبتُ داخل البهو ترافقني الغربة والبرد .
هاتفتها قالت : كم كنت أفتقدك ..، جميل أنك فقدت كثير من وزنك ، كنت ترتدي الأزرق الذي أعشقه ، كم احببتك واحتضنتك عيناي لأكثر من ساعة .
عذرا .. ذكرت لك أنني أشتاق إليك ، وأنني من سيراك ، لم أكن أحتمل أن تراني وأنا علي هذا الوهن ، أردت أن أظل لديك "سما" ، الحلم الذي كان .
أرسلت لها بعد عودتي رسالة مع إحدي صديقاتها ، بعد أن وجدت أنه لا جدوى من بقائي ، استجدي أن تحيد عن قرار اتخذته ولا تلين ، قلت فيها : " بَلّغِي توحّدَك سُخطي ، قولي له أنه حرمني الحياة ، تذكري دائما أن حضورك في الغياب أشد اكتمالا ، وأشد عذابا ، لا يعنيني أن تكوني أجمل نساء العالم ، عشقتك أنت ، أتمني أن أكون بجوارك لحظات ضعفك ، لماذا تسلبين مني حبيبتي ؟ أنت بحاجة إليّ ، وَهَنُك يحتاجني ، هل تحتمل الحياة كل هذه الغربة والقسوة والضياع التي فرضِتها علينا ؟ لأجل ماذا تسرقين منا الحياة ؟ "
وصلني ردها مقتضبا بعد أسابيع : "هناك الأصعب من المرض والوهن ، كفاك تورطا فيّ .. أعشقك.." سما .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا