الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هناك .. حيث لا احد سوى القبور

سعدي عباس العبد

2014 / 3 / 4
الادب والفن


قصة قصيرة __ .. هناك حيث لا احد سوى القبور __

** ظل بدني الضامر يزداد ضمورا وشحوبا .. يزداد احتضارا فوق السرير , السرير الذي بقي يحملني طوال سنين المحنة او المرض وهو يئن متناغما مع أنيني . ظل طوال اوقات المحنة يصدر ذلك الصرير الفاتر ابان تقلّبات بدني يمينا وشمالا . كانت الاوجاع تتفشى في نمو متصل , تحفر في بدني دون هوادة طوال سنين لم يلتفت ليّ فيها احد .. سنين اندثرت خلالها اهتمامات العائلة بي . فلم يعد حد من افرادها يوليني اهتماما , بل غالبا ما كانوا ينهرونني . كانت اصواتهم الساخطة تأتيني عبر الغرف العديدة , غرف المنزل الكبير , محمولة على رياح من الشتائم . شتائم تتصاعد ناقمة .. وفي الاوقات الشحيحة , النادرة التي كنت المح عبرها ظلالهم او اشباحهم وهي تمرّ على مقربة من السرير , كنت في تلك الاوقات الحرج من الوجع , الوّح اليهم بيدي الرخوة الخاملة شاكيا عاجزا مستغيثا .. كانت يدي الخاملة هي التي تبوح بالشكوى والوجع , بيد إنها عبثا كانت تشكو . فتذهب تضرعاتي ادراج الفراغ والصمت . فابقى وقتا عصيبا لم تمسك خلالها اوجاعي عن النمو والانتشار , تبقى تتدفق باطراد , ..
في اوّل الامر كنت اندهش لكل هذا الذي يحدث ليّ . فلم استطع انّ اصدّق ما اتحسسه من جفاء وصدود . جفاء جعل يطبع سلوكهم المشين حيالي . كان جحودهم يصيبني بالذهول في اوّل شهور المرض , سيما سلوك زوجتي التي قلما اراها تمرق على مقربة مني !! لقد تبدّلت كثيرا وحتى اولادي تغيّروا فباتوا لا يكترثون بي . ولا بمتطلباتي . عدا ابنتي الضريرة التي غالبا ماكانت تبكي وهي تتفقدني بروحها السمحة . كنت ارى إلى عينيّها الغاطستين في الظلام . فاشعر بالوجع يحفر عميقا في روحي , ارى لدموعها وهي تنسكب في جريان متصل . دموعها التي كأنها تسيل على خدودي الناتئة وروحي واوجاعي , كنت الاحق دموعها بعيوني ودموعي وظلوعي .. كانت ابنتي الضريرة الودودة الوديعة , ترشح رائحة الفة حميمة عجيبة , فجعلت تحلّق بي وانا في ذروة هذياني في فضاءات رحبة خضر تنضح جمالا ساحرا ..وعبر تلك الفضاءات المتألقة كان يأتيني صوت زوجتي راعشا مخذولا خائفا , فارى اليها عبر مديات من الاخضرار والهذيان . فاكتشف انها لم تعد تلك المرأة الجاحدة فقد نال منها التغيّيركثيرا كما نالت منها السنوات !! فاضحت خاوية يحفر في بدنها خراب مهوّل وباتت تحبو على حافات شيخوخة مبكّرة , .. كنت انصت اليها وهي تحتضر في نزاعها الاخير تردّد اسماء غامضة , ترد على لسانها في حمى من الهذيان , لم ارَ احدا من العائلة ينصت لما تقول . ففي هذا المنزل المدهش في غرابته لا احد يعبأ باحد .. لقد اصاب التبدّل اشياء عديدة . فأبننا البكر بات في عداد الموتى قبل سنوات عديدة حافلة بالهذيان والغياب !! .. كنت انا قد سبقته في الرحيل بسنوات مهوّلة حافلة بالصمت والنسيان .. وولدي آخر العنقود قد غدا عجوزا يتوكأ بظهره المحدودب على سنين طوال من الشيخوخة والضّياع . وابنتنا الاخرى الحسناء الطاعنة بالجمال قد واتتها المنية بعد ما بلغت من العمر عتيا , كان عمرا حافلا بالسحر والجمال .. فبقيت زوجتي وحيدة تحاصرها العزلة والاوجاع , لا تقوى على الكلام , كانت تفكّر فيَّ في اوج مرضها وشيخوختها العتيدة , تستعيد طيفي عبر مخيّلتها المنهكة . طيفي الذي كان هنا قبل سنوات عديدة خلت , تتذكّرني وتجهش في بكاء طويل . ولاوّل مرة بعد كلّ تلك السنين العجاف تهتف باسمي وكأني اقول لها _ : اين كنت في تلك الاوقات العصيبة . اوقات الاوجاع والاحتضار , ؟ كم افتقدتكِ انذاك ..وكم كنت بحاجة ماسة لرعايتك ووجودكِ وحنانكِ ... ثم لماذا لاتحملي نفسك وتتعنين قبري ولو لمرة واحدة ..
تصيبكِ الدهشة لئن احدا لا يتفقدكِ طوال كل تلك السنوات , سنوات الشيخوخة والمرض .. ولاحد ينصت لما تقولين , فتنذهلين .. كيف كيف لا يتفقدكِ احد من تلك العائلة العديدة الافراد . عائلتكِ !! , .. ينهرك احد احفادكِ , الاثر الوحيد المتبقي من آثار تلك العائلة الغاربة وانتِ تتضرعين بكامل دموعكِ .. فلا الدموع ولا الذكرى ولا الاسى ولا حبّنا القديم في اوّل عهدنا بالجمال يستطيع انّ يقهر سنواتي الخالدة ابدا في قبري __ اتراءى لكِ اوهكذا ابدو __ مثل شبح يتوغل في برّية خضراء . ترين إلى وانا اتوغل في جزر فسيحة مكتظة باطياف موتى .. فتجرين هلعة ناحية ابنتي الضريرة , تكون هذه الاخيرة قد تحولت منذ زمن بعيد إلى مخلوق غير منظور . ترى اليكِ بتلك العينين المنطفئتين . العينين اللتين باتتا من شدة وهج البرّية الخضراء , تريان كلّ شيء قد غدا اخضرا .. فتمتلئين بالندم والقنوط .. كانت ابنتي تجري وهي تتفادى الاقتراب من شبحك . تجري وسط الاخضرار , بينما انتِ تغطين في برّية من البكاء ودموعكِ تلاحق ابنتي , تظنين باننا سوف نتفقدك هنا . في الجنّة الخضراء . او نتفقد الاولاد اولئك الذين اهملوني طوال سنين الاحتضار , حدث ذلك قبل سنوات عديدة , تتذكرّينها تماما , فتندهشين لهذا التحول الذي اصابني . فتجهدين للامساك بما في حوزتي من سعادات نادرة افتقدتها في حياة الدنيا ..ولكني كنت اقرب ما اكون إلى كتلة من الاثير فلم تستطعِي انّ تنوشي سعادتي . فتنكفئين مرتدّة إلى حيث كنتِ , في هذا الوقت الذي كنت فيه بمنأى عن متناولك تكون ابنتي تتملى شبحكِ وهي لا تصدّق ماآلتِ اليه , او ما انتِ عليه من دمامة وقبح . كانت ترى اليك من على شاهق .. وانتِ تلبثين كما انتِ مداومة على اجترار الذكريات البعيدة . فخيّل اليك انني ما زلت اتطلع لايامنا الغاربة بشغف .. كنت ميتا هكذا ابدو لك وما ترينه سوى طيف الميت الذي هو انا ..بينما كنت مترسبا في برّية خضراء .. / انتهت








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المراجعة النهائية لطلاب الثانوية العامة خلاصة منهج اللغة الإ


.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين




.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ


.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت




.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر