الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لو أن كل وزير كان مثقفا؟

نوال السعداوي
(Nawal El Saadawi)

2014 / 3 / 5
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


فى طفولتى سمعت أبى يقول أنه يفضل أن يكون كاتبا مبدعا عن أن يكون وزيرا، وأسأله لماذا؟ فيقول هذه العبارة التى انحفرت فى ذاكرتى: الوزير يعين بقرار ويخلع بقرار لكن المبدع لا أحد يعينه ولا أحد يخلعه.
كلمة الوزير تحتل مكانة مرموقة فى الوجدان المصرى العميق، ومهما بلغ الشخص درجة عالية من الجاه والمال، فإن خياله يهتز وقلبه يرتج لسماع لقب الوزير وقد عرفت عددا من وزراء الصحة بحكم كونى طبيبة، ومنهم أطباء بارعون فى مجال تخصصهم، الا أن الواحد منهم يتلعثم مرتعشا أمام رئيس الوزراء فما بال أمام رئيس الدولة وينتفض قلبه رعبا من أى تغير وزارى قد يخلعه عن الكرسى، كما أن بعضهم كان يرسل تقارير للدعاية عن إنجازات خيالية وكان الصراع يدور بينى وبين بعض هؤلاء حتى تمت إقالتى أو الأصح استقالتى لأحصل على حريتى مثل طائر ينطلق من القفص. وكان أبى يقول انه رهين المحبسين، الوظيفة الحكومية وقفص الزوجية، وقد مات قبل الأوان مثل الجواد المربوط من عنقه بالحبل وكان من عادة حكام مصر السابقين توزيع المنح والجوائز على الكتاب والصحفيين وما يسمونهم المثقفين، مقابل الطاعة والولاء، وتدبيج المقالات وقصائد المدح، أو على الأقل الصمت على ما يحدث من القمع والبطش، وكان الحاكم منهم يعقد الاجتماعات الدورية مع هؤلاء المثقفين تحت اسم الحوار الديموقراطى فى أمور الثقافة والإبداع.
وقد حدث أن أدعيت (مرة واحدة لم تتكرر) لاجتماع من هذه الاجتماعات، وراعنى ما رأيت، فقد كانت الصفوف الأمامية مقاعد وثيرة ذهبية وكلها محجوزة للوزراء والموظفين الكبار فى الدولة وأجهزة الإعلام والصحافة والقنوات الفضائية، أما الأدباء والمبدعون فقد خصصت لهم المقاعد الخلفية وكلها من الخيرزان أو القش الهش، وكادت الدنيا تنقلب رأسا على عقب حين جلست فى مقعد الوزير الذهبى فى الصف الأمامي، وطلبت منه أن يجلس فى المقعد الخلفى من القش وقلت له: هذا اجتماع للحوار مع الأدباء وليس للحوار مع الوزراء، وحذف اسمى بالطبع من سجل الأديبات بوزارات الثقافة المتعاقبة، لكنها كانت لحظة فارقة فى حياتى أخرجتنى من حظيرة المثقفين إلى الحرية والإبداع.
المهمة الأولى لوزارة الثقافة كانت ترويض المثقفين والمبدعين ليكونوا موظفين مطيعين بالوزارة والمؤسسات الثقافية التابعة لها ومنها المجلس الأعلى للثقافة ولجانه وشعابه ومؤتمراته داخل الوطن وخارجه، ومراكز الترجمة ولجانها وفروعها التى تصدر الموافقات على ترجمة أى كتاب من العربية إلى اللغات الأخرى خاصة الفرنسية والانجليزية، وأصبح من الصعب على كاتب مبدع أن يحصل على جائزة تقديرية أو تشجيعية وإن لم يكن على علاقة طيبة بوزير الثقافة أو من يمثله.
والسؤال الوارد هو: من هو المثقف؟ هل وزير الثقافة مثقف لمجرد أنه وزير؟ هل الطبيب مثقف لمجرد أنه طبيب أو جراح ماهر؟ هل رئيس الحزب السياسى مثقف لمجرد أنه رئيس حزب؟ هل الأديب مثقف لمجرد أنه يكتب القصص والروايات؟ هل الرسام مثقف لأنه يرسم اللوحات؟ هل أستاذة الجامعة مثقفة لمجرد أنها درست القانون أو التاريخ أو الجغرافيا أو الكيمياء أو غيرها من العلوم؟ هل المحامى الدارس لغرات القانون ويستطيع تبرئة المجرم هل هو مثقف؟
تقودنا هذه الأسئلة إلى الاقتراب من معنى الثقافة، فالثقافة تعنى التهذيب الأخلاقى وامتلاك القيم الإنسانية العليا، ومنها الصدق والشجاعة والعدالة والكرامة والحرية والعمل الفردى والجماعى المبدع، وهى القيم والأهداف ذاتها التى تنشدها أى ثورة شعبية ضد الظلم والقهر والفساد والازدواجية والكيل بمكيالين والتفرقة بين البشر بسبب النوع أو الجنس أو الدين أو الطبقة أو القبيلة أو العشيرة هذه القيم الثقافية تنغرس فى الطفولة المبكرة عن طريق التربية والتعليم لهذا تلعب الأم المثقفة والأب المثقف الدور فى تثقيف أطفالهما، أو غرس بذرة العدل والمساواة بين البنات والأولاد والأم والأب وإعلاء قيمة الكرامة والصدق والشجاعة على الخضوع والنفاق والجبن.
الثقافة ليست صفة خاصة بوزير الثقافة أو أى مهنة أو حرفة، لابد لكل إنسان أن يكون مثقفا، أى يكون متمسكا بقيم العدالة والشجاعة والصدق والكرامة، وقد كانت جدتى الفلاحة أكثر ثقافة من العمدة بهذا المعنى الجوهرى للثقافة ولو أن كل وزير كان مثقفا لتحققت أهداف ثورة يناير ويونيو ويوليو وأى ثورة أخري.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لو كنت وزيرة
عبد الله اغونان ( 2014 / 3 / 5 - 18:56 )

لنفرض أنهم -أقصد الانقلابيين - اختاروك وزيرة صحة أو ثقافة ماهو البرنامج الذي ستقدمينه ويكون فعالا وفيه منفعة؟

انهم في هذه الأيام أطلقوا فضيحة من العيار الثقيل

بشرى لكم مرضى مصر والعالم كل كمان وقع اكتشاف عظيم لشفاء السيدا والكذب عفوا الكبد والسرطان جائكم العلاج المعجزة من الجنرال كفتة

يأمة ضحكت من جهلها الأمم

كم ذا بمصر من المضحكا ** ت ولكنه ضحك كالبك

أما استوزار المثقفين فقد ثبت أنهم أفشل الناس في السياسة من طه حسين فما بعده


2 - أستاذه نوال السعداوي
عبد الحكيم عثمان ( 2014 / 3 / 6 - 15:44 )
تحية واحترام لشخصك
لهذا تلعب الأم المثقفة والأب المثقف الدور فى تثقيف أطفالهما، أو غرس بذرة العدل والمساواة بين البنات والأولاد والأم والأب وإعلاء قيمة الكرامة والصدق والشجاعة
هذا هو اس المشاكل التي تعاني منها مجتمعاتنا العربيه وهي انها لم تؤدي دورها التربوي الموكل اليها كما يجب وخاصة في النواحي التي اشرت اليها اعلاه
بعد ان اطلعت على سيرتك في صفحة الوكيديا طبعا المشرفة ارغب في ان اتحاور معك عبر مقال حول ارئك عن بعض الامور في الدين ان سمحت انتظر سماحك لااشرع في كتابة مقال حولها ولك التحية والاحترام


3 - ما المقصود بكلمة الثقافة؟
باسم ( 2014 / 4 / 15 - 18:00 )
الثقافة فى دولنا العربية تنحصر و للاسف الشديد فى الثقافة الدينية فقط لا غير. و اى معنى مختلف لمفهوم الثقافة لن يجد له موقعا من الاعراب فى صدور الكثير من الناس اللذين يرون فى الثقافة عامة--و الثقافة الغربية خاصة-- شر مستطير و خطر عظيم.
نحن نعيش فى زمن اصبح الوهم فيه صناعة رائجة، و الجهل صار مقدسا، و اللاانسانية فيه هى الغالبة على كل شئ.
و المؤسف ان هناك الكثير ممن يرون ان التجرد من الانسانية هو تدينا! و يبررون ذلك بان طاعة الله فوق كل شئ. صحيح ان طاعة الله واجبة، و لكن طاعة الله من المفترض ان تجعلنا انسانيين. و الا ما الفرق بيننا و بين الهنود اللذين ما زالوا يرزحون تحت وطاة نير الطبقية، مرجعينها الى ظروف كونية و تدابير غير بشرية بحسب معتقداتهم الدينية، و النتيجة هى انهم تجردوا من انسانيتهم و قبلوا بوضع ماساوى دون محاولة تغييره طيلة كل ذلك الزمان.
و كلمة فى اذن كل عاقل: ان تكون مثقفا و انسانا سويا خير لك من ان تكون متدينا، فمن التدين ما قتل.

اخر الافلام

.. دروس الدور الأول للانتخابات التشريعية : ماكرون خسر الرهان


.. مراسل الجزيرة يرصد آخر تطورات اقتحام قوات الاحتلال في مخيم ن




.. اضطراب التأخر عن المواعيد.. مرض يعاني منه من يتأخرون دوما


.. أخبار الصباح | هل -التعايش- بين الرئيس والحكومة سابقة في فرن




.. إعلام إسرائيلي: إعلان نهاية الحرب بصورتها الحالية خلال 10 أي