الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ترقّب صاخب

جلال نعيم

2005 / 7 / 2
الادب والفن


سكنت أعماقه أخيراً فانساق مع الليل يُقلّب هدأته التي لم يكن يقطعها غير همسٍ بعيد ، منبثق من عُري صحراءٍ ما راحت تغرز خناجر من رملٍ في صدور أبنائها . أنصت لحفيف القصب المتسربل في ثنايا روحه فشعر بالاسترخاء يلف عضلات جمجمته التي امضّها القلق الغائم والانتظار المرّ لكائنات تهمي من ابواب السماء لتنصت لصراخه وعويله والهمس المتكاثف المنبثق من جهاز التسجيل الذي يمكث غير بعيد عن سرير إرتمت عليه كومة عظام ، يجاهد كيس متغضن من الجلد على جمع شتاتها وتتخللها روح والده الذي لا يدري احيانا كيف يقوى على إرتكاب ذبذبات أنفاسه التي تفرّ مفزوعة من أقفاص صدره المسكونة بتواريخ وجوه وحروب يلم بكل تفاصيلها ، رغم انه لم يشهد او يخوض غمار اي منها ولكنها تترسب فيه عميقا ، وكثيرا ما كان يُصوّرها ويتحدث عنها وكانه سديم غريب يتعالى في اطراف سماوات اخرى ليدون انفاس المجازر ويجمع الشظايا المتطافرة بعيدا ثم يمطرها على جلاسه وهو يلهث مستمتعا بألق تاثيرها عليهم ، بينما تلمع عيناه ويغمرهما وهج صاخب يفضح بعضا من أسرار الروح الكامنة في كومة عظام تنهض من فيء إنكساراتها القديمة امام وجوه المحققين وآلآت الموت التي طالما إخترقت كيانه في محاولة منها لافتضاض صلادة احشاءه وما تكوّر عميقا في كوّة كبرياءه ، فراحت ، بهول قسوتها ، تغذّي اللهب المتكاثف في روحه ومواطن جسده .
إستيقظت العظام المحفورة في عمق السرير حتى بتّ تسمع قرقعتها ، انه الفجر الذي ينبعث معه فجاة ، ينهض بكامل هيبته ، يسحل كيانه راسما خيطا طيفيا أخضر سيكون من الصعب محوه او تغيير مساراته . يشمّر عن ساعديه ، يتجشأ ، يمخط انفه امام المغسلة ، فتعجَبُ : كيف يتأتى لهذاالرجل الذي ما ان إعتلى منبر المجلس قبل ساعات وما أن أشهر جسده المُتعالي في الطرف الآخر من القاعة حتى تملك الأسماع واللأبصار وحشّد إهتمام الجمع المتكاثف في القاعة الى صوته ووجهه وإلتماعة عينيه ، الرجل نفسه الذي ما أن شرع بقراءة المآسي المحفورة على جدران روحه ، حتى سحب الجمع الى ملكوت آخر ترتمي في أفقه صحارٍ مفعمة برائحة الخديعة ، وتشهد تطواف الرؤوس المعلّقة منذ ألف عام ، تعجب إذ تكتشف مرة اخرى بان هذا الرجل هو نفسه الذي يتمخط ويتبرز ويرتجف جسده من الضحك أحياناً وكأنه مثل أي واحدٍ منّا أو مثلنا تماما ..!
ما عدت تعرف ما يؤرقك الليلة وماالذي يبثّ في روحك جمرات القلق إلى درجة أن تحاول ألأي بخيالك عن رؤية اجزاء اللوحة الغامضة التي تشكلت في رأسك فأيقظت إحساساً بالسأم فيك .. أهو ألسأم؟ إنك لاتدري حتى اللحظة ما الذي يبعث فيك هذا الهاجس المتكرر من إنك تحيا يوما إستثنائيا ستبقى تتذكره بمجمل تفاصيله رغم تغيّر الوجوه والمدن والاماكن ، وحتى لو إمتد بك العمر آلاف الاعوام .
تحاول جمع شتاتك مرّة أخرى فيضاء في ذهنك فضاء السقوف المُطعّمة بالكريستال والمرايا والنقوش الاسلامية التي اثارت اهتمامك اليوم حالما وطأت اقدامك ديوان الحسينية حيث فوجئت باحتشاد الاجساد ولهفة الوجوه الشاخصة الى المجلس الذي تربّع عليه الجسد المتهالك ، الذي رغم انه يقاسمك البيت والخبز ومحبة العجوز نفسها الا انكما عشتما متباعدين حتى انك تجهل تأثيره .. وما أثار انتباهك الممزوج بالنفور إشارة الآخرين اليك وترديدهم المتكرر " انه ابن زاير حسون " وسرعان ما يداخلك احساس بالمصادرة ، إذ إنهم يعجزون عن الاشارة اليك باسمك ، وتحيل ذلك الى غرامهم بالبطل والاسطورة وما يتعلّق بهما وما يقف بينهما ، وهو ماإعتدت مواجهته بالغثيان .. ولكنك اليوم وللمرة الاولى منذ اعوام طويلة تتسلل الى عوالم ابيك الغامضة ، في محاولة لاكتشاف بعضاً من أسراره علّك تصل الى تحديد منابع الطاقة الكامنة فيه والتي يعوزك منها الكثير من اجل تبديد دواماتك اليومية بحثا عن معنى او رغبة في الانعتاق .. وماكنت بانتظار دعوة امك لمرافقته الى "الحسينيّة" في اول ايام عاشوراء قدر ما كانت رغبتك الطفليةبالذهاب الى هناك ، تحبّ ألجواء والطقوس ولكنك تعجز عن التفاعل مع مضامينها وما يقف وراءها . ربما هو عجزك الداخلي عن الانسياق وراء المجاميع ، او رؤيتك الأخرى التي تقف بك بعيدا عن ما تسمّه (هراء) أحياناً ، وإستجداء ألبكاء من فم التأريخ أحياناً أخرى .. وهي محنتك ، هي ألأخرى ، وألتي ستبقى معلّقة من دون نتيجة . هكذا يجرفك أللا يقين من ياقتك بينما ترى "ألمحبّين" ينصتون بانفعال الى صوته المتهدّج العميق والذي كان يطوف أرجاء الدنيا مردّدا فصول حكاية طالما فاضت الدموع في حضرة ذكراها . كان للوجوه القانطة والأرواح المصغية أثر عميق ترك ظلالاً متداخلة في أعماقك . فقد كانت العيون تنبىء بأن ما يجري الآن إنما هو استمرار لها ، متداخل في فصولها ، وما روايتها واعادة روايتها وحجم التعاطف معها غير إثبات شاسع من انها رواية اسقاطية لما يجري لهذه الكائنات المستضعفة الصلبة التي لا تقوى على الجلوس بانتظار موتها صامتة .. بينما راح والدك المتربع في وسط المجلس يستجمع وسائله وقواه من اجل ان يصوغ مفردات حكايته ملقيا على التاريخ روحه ، وعلى الحكاية فصول سيرته المفرطة في ذاتيتها ومأساويتها حتى بتّ تسمع لسع السياط على ظهره وإصطفاق الهراوات على رأسه وكتفيه في سراديب الموت المبثوثة في رحم الارض بعد حملات 79 و 1982 . كنت تنظر في عينيه وهما تمخران عباب التماعاتهما فتوقن بانه انما يقرأسطور المأساة لمدونة فيه وفيك وفي قوافل المطرودين والمطاردين والباحثين عن خلاص . كان يقرأ التاريخ المكتوب في عيون الاحياء وفي رماد الاجساد المتروكة في عري الحروب المتكاثفة في سماوات هذه المدينة أو تلك . كان يحاول نفي الموت الحاضر ب"موت" اكثر اشراقا ، اكثر قربا والتصاقا من حيوات سحقتها السرفات منذ قرون توغل في شراستها وساديتها .
في تلك اللحظة بالضبط ، شعرت لأول مرة ، ومنذ سنوات بعيدة بانك بتّ قريبا منه حد الالتصاق ، حد التماهي ملغيا المسافة التي شكلتها الاعوام بينكما دفعة واحدة والى الابد ، فها انتذا تدير دفّة مشاعرك تجاهه في لحظة انبثاق غريبة . تشعر بعذوبة انفاسه ، طيبتها ، تشعر بعمق أحزانه ، طقوسه وأسباب تمسكه بها . الا انك حتى اللحظة لاتعرف ما يؤرقك الليلة ، ثمة شيء غامض ومخيف يجوس اطراف المكان ويترسّب في ثمالة قلبك ، يملأه بالوجيف المرّ والترقّب الصاخب ، انتظار مريب يمضّك الى أن رحت تراقب العجوز ، تعد انفاسه وتجشؤاته الصباحية المكررة ، بحثا منآى لروحك القلقة التي التي تسكنها هواجس هذا اليوم الاستثنائي الذي سيثبت بذاكرتك ولن تستطيع الفكاك منه طوال الاعوام والمدن والوجوه التي ستراها ، وسترطّب شفتيك باجترار مرارات الحديث عنها دائما وابدا دون ان تفقد شيئا من طعمها المغمس بلذة ماسوشية تترسب فيك بفعل الاعتياد وتتسلل اليك من جهاز التسجيل الذي ادمن النواح حتى انك ستشهد في هذه الايام مالن تشهده في الغرف المقفلة الغريبة وبين سواعد النساء البعيدات اللواتي لاتتقاطع في اعينهن خطوط الحزن الصحراوية القاسية ، والتي ترتسم كلوحات موت تجريدية في عيني امك التي شرعت الآن بتحضير الفطور له . حينذاك لا يصلك منه غير ترديد خافت لعبارات تمتلىء باله تشعر به قريبا ولايفصلك عنه سوى جدار لايبخل بترديد أصداءه .
يستنفر حواسك نبض مكتوم يولد ، يتجسد ، يتعالى ..تحسه يتقافز على سطح الغرفة ، تتلاحق انفاسك ، تقفز مذعورا فيدهمك نبض آخر ينفلت باتجاه باب البيت ثم يتعالى طرق محموم . تهرول نحو الباب متجاوزا ابيك السادر في اتحاده بالالوان . تلحقك امك بعينيها الملبدتين بالقلق :
( -- منو ؟ )
يندلع صوتك قويا حائرا ، يحاول ان يخفي ذعره وتوسلاته الطاعنة في رجاءها ..
(-- افتح انا المختار .. )
يتعالى طرق الاقدام على السقف والابواب فينزلق وجيف قلبك ليتسلل الى اصابعك وهي تدير القفل الذي ما ان تفتحه حتى تكتسح الاجساد المفتولة جسدك وتزيحه بعيدا في عمق الفسحة ، تنفض عن روحك خوفها وتسأل :
(-- من انتم ؟ )
تعاجلك ضربة مباغتة على وجهك لتزيح جسدك المتعب بعيدا .الى اية هاوية يدفع بك فجر الصراخ هذا . اية كارثة .. اي كابوس ... أتكون هذيانات أرقك ..؟ كم تتمنى ذلك ..ماذا لوكان محض كابوس ؟! لكن الوجوه المتناسلة في أرجاء البيت لا تترك منفذا للشك ..بعضهم يهرول نازلا من السطح وآخرون يحيطون بالمكان وكأنهم في حرب او مصيبة أكبر . اي موت يفتح شدقيه لالتهامك ، او هو ماستتمناه فيما بعد ..
تحاول ان تصحو من ذهولك . تتمنى لو تتحرك او تخترق المكان الا ان الكتل المحتشدة كحلقات رعب تسور المسافة متحلقة حول العجوز الذي لم ينقطع عن ترتيل صلاته وهو بكامل هيبته ، هدوءه واتزانه ، ممسكا بلحظته .. لحظة الحقيقة التي يحياها ، والتي كان من الواضح ان لا احد بامكانه ردها او الالتفاف عليها وقد سورته ادوات الموت التي لا احد يعرف قدرها غيره .. همهم ناظرا الى السقف وما أن امسك باصابعه على "تربة" كربلاء حتى انقضّت الاجساد المتخمة بظلال الموت عليه وحملته بدشداته البيضاء الى خارج الدار ، غير عابئة بصراخ الام الذي ثقب السماء تاركا في أعماقك أصداءً لن تمحى .. أصداء تهدّج صوتك في عاشوراء كلّ عام حتى لو كان ذلك في بار أو مقهى حيث تحدّق صديقتك بشفتيك المرتجفتين وتعلن بأنك يبدو أكثر إشراقاً وانت تردد إسطورة ألموت تلك وكأنها حدثت بالأمس او لم تحدث أبداً في بلاد عشت فيها وتبدو عاجزا حتى عن تشغيل محركات الخيال فيها .. هكذا تطوي أحشاءك في صمت ، وتحاول أن تجد نقطة لم تبدأ منها قبل ..



عمّان 1998








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات في جامعة ديوك الأميركية ضد الممثل الكوميدي جيري ساي


.. المغرب.. إصدارات باللغة الأمازيغية في معرض الكتاب الدولي بال




.. وفاة المنتج والمخرج العالمي روجر كورمان عن عمر 98 عاما


.. صوته قلب السوشيال ميديا .. عنده 20 حنجرة لفنانين الزمن الجم




.. كواليس العمل مع -يحيى الفخراني- لأول مرة.. الفنانة جمانة مرا