الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا -الشسمه - وليس فرانكشتاين ؟ : قراءة في رائعة احمد سعداوي

مصطفى الصوفي

2014 / 3 / 6
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


انه ليس فرانكشتاين فقط يا سادة, وليس تلك الشخصية الخيالية التي اذهلتنا في الرواية وهي تتجول بين دروب بغداد وتفتك بكل من يقف في طريقها , انها نحن بكل شرورنا و انانيتنا ورغباتنا الاستمرارية في تدمير حيوات الاخرين باسم الرموز التي نرددها بكل فخر ونعتبرها غايات لتبرر افعالنا .
بالخير , العدالة , انقاذ العالم , الوطن ,المبادئ , الحق و الحقيقة ! المهم ان نخلق مبرراً , هدفاً , رمزاً , مبدأ , قضيةً , أي شيء يزيح الذنب ويوفر الحجة الاخلاقية لما سنمارسه في السر او العلن !. انه نحن بكل كبريائنا وغرورنا وضياعنا في حروبنا المقدسة و قضايانا التي نفتعل باسمها الصراع فننحر الرقاب و نطحن العظام و نفرم لحم من جعلناهم اعداءنا ! .

انه جسد المجتمع العراقي المشتت المرقع بقطع من هنا و هناك , انها فلسفة الادب في قمة نشوتها اثناء صراخها لتسرد الالم والقلق و الحيرة القابعة في كل فرد منّا يدبّ على ارض هذا الوطن هارباً من ضريبة العيش فيه .
قطعةٌ تتصارع أخرى ثأراً لنفسها, لاجتثاثها من اصلها و كل القطع تريد الثأر من العالم ! .

بعمق ادبي لا يخلوا من الفلسفة يسرد لنا احمد سعداوي في روايته " فرنكشتاين في بغداد " قصه "الشسمه " ليطعّمها برؤيته لأوضاع العراق و نسيج المجتمع ومشاكله , تبدأ الاحداث بمديرية سرية يتم حلها لانتفاء الحاجة إليها بقرار المتنفذين في حكم العراق بعد فضيحة مُدويّة مليئة بالغموض و احداث تحوي ما يناقض العقل و المنطق .

"هادي العتاكَ" انسان عراقي بسيط يبيع ويشتري القديم المستعمل من الاثاث والانتيكات يخسر صديقه في انفجار ويذهب الى الطب العدلي لاستلام جثه صديقة , يبلغه الموظف بأنه لا يميز اشلاءً من قتلوا لاختلاطها فيقدم له قطع مجمعة من جثث متعددة , يأخذ "هادي " تلك البقايا في كيس ليواسي بها زوجة الصديق وابنته و يدفنها معهم في المقبرة , تخطر في ذهنه فكرة مجنونة ! .
يقرر جمع أشلاء الجثث التي تترك في شوارع بغداد بعد كل انفجار وينقلها بكيسه الى المنزل ليقضي المساء وهو يَخيطها مع قطع اخرى , شيء فشيء تكتمل الجثه في باحة "الخرابة اليهودية " التي يعيش بها ، كان يفكر في تسليمها للطب العدلي لولا تعرضه لحادث كاد يودي بحياته حينما مر بالقرب من فندق "السدير نوفوتيل " .

تتيه روح "حسيب محمد جعفر" حارس بوابة فندق "السدير نوفوتيل" ضائعة بعد انفجار عنيف لسيارة نفايات مفخخة تستهدف الفندق اثناء مرور "العتاكَ" من امامه الذي إستدعى خروج "حسيب " من "كابينته" ليُبعده عن بوابة الفندق كي لا يخدش منظره الرث أبصار نزلاء الفندق فيلقى الحارس حتفه في الانفجار .

وبين الضياع والبحث عن جسد"حسيب" الذي تبخر , تلتجئ قرب جسدٍ بدون روح عسى ان يساعدها في الانتقال الى العالم الاخر . فجأة تحدث معجزه , تمتص الجثة تلك الروح لتعود للحياة من جديد و تبدأ بالحركة رغم كونها اشلاء لا يربطها مع بعض سوى خيوط "العتاكَ" و كون اصحابها -رغم اختلاف الوانهم و قومياتهم ومذاهبهم- ضحايا ابرياء لانفجارات بغداد .يتم احياء "الشسمه" كما اسماه "العتاكَ" لانعدام امتلاكه أي هويه او ملامح محدده تميزه ليبدأ حملته في الانتقام ثأرا لكل قطعة ضحية من جسده بتسلسل لأحداث مروعة تسبب الرعب والشلل في العاصمة وتصبح الشغل الشاغل لقوات الامن .

للرواية ابعاد عديدة وضعها السعداوي بذكاء ورشاقة بسرد مبسط بعيد عن التكلف و فخامه اللغة -التي تحتاج الى البحث في المعاجم- مسببه الملل لدى القارئ البسيط :
البعد الفلسفي الذي تحمله الرواية كان في التساؤل الانساني العميق عن معنى الحياة و هدف الوجود الذي يصيب الانسان , وجد "الشسمه " تطبيق العدالة الالهية كمعنى لحياته بعد ان تاه وضاع بحثا عن سبب وجوده في هذا العالم . لم يخلٌ " الشسمه " من الهوس البشري بالانتصار على الموت في خلود سرمدي مع رؤية نيتشويه عن المعاناة والالم و القلق والتشاؤم ومحاولة تأقلم معها بتعزية نفسه بالغاية القائمة على قتل الاخرين . .

البعد الاجتماعي كان رمزياً بأجزاء الجسد المجمعة بخيوط الصانع الذي لمّح السعداوي بانه "بريطاني " حاول دمج الهويات و لملمة الذات الجريحة للمجتمع العراقي الذي اجتمع بجسد وجد المعنى في إحلال العدالة ! .
المجانين الثلاث الذين رافقوا "الشسمه " اعتقاداتهم المختلفة وتفسيراتهم حوله تطورت لتكون اتباع و طوائف يحملون عقائد قائمة على الايمان بالفرد الواحد كمنقذ ومخلص لأوضاع البلد وصلت حد تقديسه والسجود له سرعان ما تحول اختلافهم على خلاف سبب نزاع دموي دمر كل شيء في عمارتهم التي كانت وطنا للـ"شسمه" واتباعه ! . وسط دوامه العنف في البلد كانت "ايلشوا" العجوز المسيحية اخر من تبقى من عائلتها التي هاجرت هروبا من الاوضاع بسبب العنف الذي مورس على الاقليات في العراق .

اما البعد السياسي و الفكري فلم يغفل السعداوي عن وضع لمحات من رؤيته عن احداث البلد بقيادته السياسية الدينية حالياً و القيادة القومية العربية سابقاَ برمزية ذكية اختلفت حسب مشاهد الرواية كان ابرزها في لافتة الفندق القديم الذي يملكه "ابو انمار" واشتراه "فرج الدلال " الذي يستولي على الاملاك بطرق ملتويه غالباً ما تكون عن طريق الابتزاز والاستغلال , ليقرر الاخير تغيير اسمه من فندق "العروبة "الى "فندق الرسول الاعظم" كعنوان جديد لمرحله بدأت بانفجار هز منطقة "البتاوبين" التي كانت مركز غالبية الاحداث , كما لم تهمل الرواية ذكر معاناة العوائل العراقية وأمهاتنا وعقائدهن ونذورهن في ايام الجبهات التي كانت تلتهم ابنائهن , مرورا بسواد الحصار لحين أيام المفخخات والمليشيات ! .

البعد النخبوي : كان السعداوي خجولا كما بدا لي ربما لأنه لم يكن يرغب في ازعاج البعض بتوجيهه أصابع السرد بشكل مباشر . فأكتفى بشخصية "محمود سوادي " وعلاقته مع مالك صحيفة عراقية ليوضح من خلالها سوء الاداء و نرجسية التعاملات و فساد المهنية التي تتوضح بالصفقات الخفية مع اصحاب القرار والمتنفذين , ولم ينسى السعداوي ان يشير الى العلاقات المشبوهة و الغرائز والشهوات التي تحرك "دون جوانات" الوسط الثقافي .

ابدع السعداوي بذكر التفاصيل الدقيقة عن العاصمة وطرقها حتى وصل الامر لوصف تفاصيل البيوت من الداخل و الروائح والاصوات ليمكن القارئ من العيش بطقوس القصة .

تلبي الرواية ذائقة ادبية واسعة تمتد لكافة الاعمار وانواع القراء الباحثين عن المتعة التي تصاحب المعرفة و السرد الادبي المشوق المليء بالإثارة والغموض والمعاني العميقة والآراء والتجارب .

ختاما : لا اعرف لما حضرت شخصية "ابو طبر" بذهني عند اقترابي من نهاية الرواية ! مع شعوري بنوع من الخداع الذي يُمارس علينا دون ان نعرف . ففي النهاية تُعلن وكالات الانباء عن إلقاء القبض على اكبر المجرمين الذي عرفهم العراق وها هو مربوط ذليل معروض على الشاشات ليثبتوا انهم تخلصوا من شرهِ اخيراً , بينما ينشغل الجميع بالإحتفال فرحاً بانتهاء حقبة الرعب والموت راقصين في الشوارع مع زعيق أبواق السيارات كانت هناك عين تراقبهم من نافذه فندق (الرسول الاعظم ) الذي تدمر بفعل الانفجار , كان يقف بكل ثقه و صمت دون ان يستطيع احد من الناس رؤيته أو رؤية القط "نابو " الذي كان يتمسح به .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل نجح الرهان الإسرائيلي في ترسيخ الانقسام الفلسطيني بتسهيل


.. التصعيد مستمر.. حزب الله يعلن إطلاق -عشرات- الصواريخ على موا




.. تركيا تعلن عزمها الانضمام إلى دعوى -الإبادة- ضد إسرائيل أمام


.. حراك الطلاب.. قنبلة موقوتة قد تنفجر في وجه أميركا بسبب إسرائ




.. لماذا يسعى أردوغان لتغيير الدستور؟ وهل تسمح له المعارضة؟