الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما زلنا نتلاشى

سعدي عباس العبد

2014 / 3 / 7
الادب والفن


قصة قصيرة __ ما زلنا نتلاشى __

** .......... كنا نجري مذعورين . . نجري في فضاء من الدموع واللوعات ..فتلوح لنا بيوتنا التي تركناها ورائنا , حزينة شاحبة . تتضاءل في المدى , وتنكمش ملتمّة على ظلوعها او جدرانها .. تركناها هناك , تحتضر في شحوب المساء وليل الطائرات والقصف والموتى وصرير الابواب المشرعة على رياح من الخراب والقصف .. تركنا البيوت المفعمة برائحة الدفىء والذكريات نهبا للعصف والقصف والارتجاجات والغبار والدخان ... انعطفنا عبر مسيرتنا العصيبة الحافلة بالجُوع والخوف والقسوة , صوب المحطات المهجورة والارصفة .. كنا نجري تحت سماء من الرعب والطائرات والقصف .. حتى هناك , في البعيد , بقي حفيف القصف يلاحقنا . هناك حيث لا صوت في الظلام الثقيل لا نأمة ولا رائحة اليفة , عدا حفيف القصف وارتجاجات البيوت يأتي من بعيد . يأتي عبر الريح والظلام .. لا صوت في الظلام سوى صوت البكاء , بكاء طفلتي المحمولة على اكتافي . كان بكاؤها يتدفق فاترا ملتاعا في حفيف الريح والبرد , كان كما الريح يتصاعد في اسماعي حافلا بالذكرى والخوف . . , : أهذا هلاك آخر ينتظرني في الطريق .. ؟ , طلبت اليها انّ تمسك عن البكاء لكنها كانت تزداد لوعة ودموعا ونشيجا والتحاما بقلبي وظلوعي وروحي ورائحتي وذكرياتي .. كنا مضطربين نرتجف بردا ورعبا ونحن في بدن السيارة [ الحمل ] غاطسين في الظلام وصوت الريح يخفق في الطريق الصاعد صوب البراري والقرى النائية .. كان معين الدمع قد اوشك على النفاذ والنضوب !! في خضمّ الخوف والذكرى , ذكرى زوجتي التي صرعتها الطائرات , واتت على كامل تلك الحياة التي كانت تنبض بالسحر والجمال .. فبقي طيف ذلك الموت الأليم ماثلا في الروح والذاكرة , يطوف في ذاكرة وقلب وظلوع ودموع طفلتي .. كانت تزداد دموعا ونحيبا فوق اكتافي . تبكي ذكرى امّها ..
في الطريق المفضي إلى بيت جدّي لأمّي . البيت الواقع عند اطراف قرية مشرفة على خلاءفسيح مترام ... . كنا قد ترجلنا من على بدن السيارة وتركناها تتوغل في البعيد والظلام والبرد كما تركنا الطائرات هناك تحوم عند بيوتنا التي امست بعيدة .. كانت الجادة الترابية في الليل موحشة وكئيبة . كانت ذات الجادة التي كنا نطويها مشيا انا وامّي , عندما كانت تجيء بي لرؤية بيت جدّي قبل سنوات عديدة خلت , .. اخ .. يا لتلك السنوات .. لم يبق منها سوى رائحة الذكريات تتصاعد في فضاء الزمن . زمن القصف والخوف والجوع .. كانت طفلتي الخائفة لما تزل مستغرقة في البكاء , ولاتريد انّ تنسي ذكرى موت امّها .. ترى كم من الوقت مرّ على غياب زوجتي وأبي واولئك الاتراب القدامى , لداتي في طفولتي .. كم ندبت غيابهم .. معهم غادرت كلّ مسرّاتنا ..ذهبت مع الريح تقتفي اثرهم ..وسوف لن نعيش اياما تشهد ذات المسرّات التي فقدناها في رحيلهم .. فما زلنا نتلاشى على مهل كما لو اننا في حلم مخيف .. انا من شدة الجوع سوف اتلاشى وأخي الذي اطاحت باحلامه الغضة حربنا الاوّلى واحالته إلى حفنة من رماد ... لم يزل طيفه يدرج نحو الغياب والتلاشي .. كنت معه في تلك الحرب , لا ادري كيف طار بعيدا عن سماء الحرب محلّقا في فضاءات العدم واللاعودة .. عقب غياب اخي في الحرب ماتت امّي حسرة وكمدا وحزنا على موت اخي .. لم تحتمل روحها الرؤوم عذابات الغياب . فكانت تتوغل بعيدا في مجرى البكاء . تحفر عميقا في روحها باصابع من دموع ولوعات حتى لفظت آخر نفس نفس من حنانها وذكرياتها وماتت ..
لقد مرّت سنوات عديدة على موت امّي , في موتها اختفت السعادة , مع رحيلها المبكّر غادرت البهجة في رحيل ابدي
امسكت طفلتي عن التدفق بالبكاء , وغطت في النوم على كتفيّ , .. تذكرّت جدّي الذي لم اره مذ سنوات . كانت آخر مرة رأيته فيها عقب انتهاء حربنا الاوّلى .. كان الظلام شاملا يغط اطرف الخلاء فلم استطع انّ اتبيّن ملامح البيت , بيت جدّي , الا على نور الفوانيس التي تشعّ من بعيد وهي تخرج من كوات الحيطان , فجعلت اتملى في الظلام صفا من حيطان البيوتات الملتحمة . حيطان شرعت تدنو كلما تلاحقت خطواتي ..فانحسرت المسافة كثيرا .. حتى وجدتني في لحظة ما , وجها لوجه مع جدّي . الذي بقي يتطلع في ملامحي لوقت ما ..كما لو انه كان يتفرس ملامح ذلك الطفل الذي كنته قبل سنوات عديدة ..طوّقني بيديه الشائختين ضاغطا على كتفي .وهو لم يزل يتملى وجهي . كأنه لم يتعرّف على ملامحي بعد .. وانا كطفل مبهور ارى اليه ذاهلا بالتبدّلات التي مرّت على ملامحه .. كان جدّي قد شاخ كثيرا .. اقتعدت الطرف البعيد من السجادة او البساط المحاك من وبر النوق ..جلست طفلتي او ابنتي الصغيرة في حجر جدّي الذي استغرق معها في مزاح طويل .. كان معنا في الغرفة ضيفا.. وجهه ليس غريبا عليَّ ..وجه بدا ليّ اليفا .. ولكن لا اتذكّر اين ومتى رأيته ؟.. فجعلت اعصر ذاكرتي ضاغطا على الذكريات والزمن , .. هل كان معي جنديا في الحرب , ؟ .. ملامحه ..طريقة كلامه ..حزنه ..نظراته , كلّها تشير إلى انه كان معي جنديا في لواء 4 فق2 .. قبل انّ اسأله كان هو قد سبقني قائلا _ ألست انت عريف [ ن ج ] وقبل انّ اجيبه كان جدّي قد تلقفني كما الكماشة عبر اسئلته التترى الطويلة : عن وضع العاصمة والسكان وعن المؤنة والماء والموت والخراب والوقود والقصف والمشفيات والحكومة والاذعات والموصلات ....قلت للضيف _ : اجل انا هو [ ن ج ] فشرعنا معا نستعيد الذكريات . ذكريات حربنا الاوّلى .. فيما راحت ابنتي مستغرقة في نوم عميق في حجر جدّي ................... / انتهت








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المراجعة النهائية لطلاب الثانوية العامة خلاصة منهج اللغة الإ


.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين




.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ


.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت




.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر