الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


برلماناتنا وبرلماناتهم

فالح عبد الجبار

2005 / 7 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


حملتني مصادفة الى بيروت، وأوقعتني مصادفة أخرى في لجة سجال يكاد يكون عقيماً في العالم العربي
المصادفة الأولى هي عقد ورشة «فكرية - علمية» في بيروت نظمتها وكالة التنمية في الأمم المتحدة حول البرلمانات العربية، أما المصادفة الثانية فهي حضور برلمانيين وجامعيين من خمس دول عربية هي: اليمن، لبنان، الجزائر، السودان والعراق.
من بين هذه البرلمانات الخمسة، اثنان منتخبان حديثاً بفعل تدخل خارجي (العراق ولبنان)، واثنان معينان تعييناً (اليمن والسودان)، وثالث (الجزائر) لا يقع في هذه الخانة ولا في تلك، فلا هو حديث العهد، ولا هو ثمرة «تدخل»، ولا صنيعة قرار بيروقراطي.
ما يجمع البلدان الخمسة هو النزاع: حرب أهلية ضارية في لبنان تداخلت مع احتلال أخوي فكك كل عتلات ديموقراطيته العتيدة. وحربان أهليتان في اليمن داخل الجنوب، ثم داخل دولة الوحدة، بين جنوب وشمال. والسودان لا يزال يعاني من احتكار الحزب الواحد، سواء في قسمه العربي المسلم، أو في جنوبه الأفريقي - المسيحي، حيث حرب أهلية طاحنة. والجزائر، كما هو معروف، لا تزال تلعق جراح العنف الأهلي، الأصولي، منذ 1991.
شاطرت وأقراني المنفيين العراقيين مثقفي لبنان بعضاً من عناء الحرب الأهلية، ورزايا الغزو، ومغبة التدخل، حتى وإن كان أخوياً، كما أعرف، لمس اليد أو بالواسطة، أو بكليهما، تبعات النزاع أو العنف الأهلي في العراق. الغريب في هذا النزاع، انه قديم على أهله، جديد على الاعلام العربي، الذي اكتشفه بعد سقوط بغداد فحسب.
أعجبت بالوقائع السلسة، الجلية، التي أوردها البرلمانيون أو المحللون عن برلماناتهم. وتكاد ملاحظاتهم تنطبق، مع شيء من تعديل، على جل البرلمانات العربية، حيثما وجدت بإرادة سامية، أم بأوراق اقتراع.
الملاحظة الأولى ان البرلمان، كهيئة تشريعية يبدو مثل كائن معتل ازاء سطوة وجبروت السلطة التنفيذية، وهذه في الغالب، عسكرية الأرومة، شاهرة السلاح، من وراء الكواليس، على أمم بأسرها. الاستثناء الوحيد هو لبنان. لكن هذا الاستثناء فقد عذريته بفعل وتدخل الجار الكبير، الذي راح يبرمج انتخابات الرئاسة، ويعطل تجديد البرلمان، ويختزل النظام البرلماني، على مثالبه الكثيرة، الى صورة الجار التوتاليتاري نفسه.
والملاحظة الثانية ان البرلمان، كهيئة تشريعية، افتقد القدرة على التشريع، في معظم الأحوال، متحولاً الى ما يشبه جمعية خيرية للعجائز.
والملاحظة الثالثة، ان البرلمانات في أحوال كثيرة، أججت بدل أن تطفئ النزاعات الأهلية.
ولعل الوصف الذي قدم لنا عن عذاب الجنوبي في اليمن أو السودان، يتكرر في جنوب العراق وشماله، أو في المناطق الناطقة بالأمازيغية في الجزائر.
والملاحظة الرابعة، ان هذه الهيئات التمثيلية تعتمد في بنيتها على أنماط من التعبئة والشرعية تعود الى عالم الملل والنحل العثماني، الذي بدأنا الخروج منه في مطالع القرن العشرين، لنسير على درب الحداثة السياسية والاجتماعية، لا لشيء إلا لنعود القهقرى الى الماضي التقليدي (عودة موقتة كما نأمل)، إما بفعل التدمير المنظم للنسيج المدني الذي تولته النظم القومية الأهلية، أو بفعل المحيط التقليدي النافذ في المنطقة العربية - الإسلامية، أو بمزيج من الاثنين.
لم أجد من الحاضرين من يقر ويعترف بأن النظام البرلماني، وهو شكل حضاري ضروري لتطور المجتمع المدني، نشأ في حاضنة التوسع الرأسمالي الآتي من الخارج، وبفضله. وان انهيار الصروح البرلمانية صناعة محلية، أساساً، مشفوعة بتأثيرات الحرب الباردة، التي أوردت كل حركة نحو الحرية مورد الردى. الأنكى من ذلك، ان العودة الخجولة الى الحياة البرلمانية تأتي بضغوط برانية، لا بديناميكيات محلية، أو ان هذه الديناميكيات المحلية تفتقد القدرة على الحركة الذاتية من دون بيئة دولية أو اقليمية مؤاتية.
لم أجد في النقاشات من يلتفت الى تقسيم السلطات، أساس أي حياة ديموقراطية - برلمانية.
لم ينشأ تقسيم السلطات ثمرة ابداع فكري (نظرية مونتسكيو في كتابه: روح الشرائع)، بل ثمرة نشوء قوى اجتماعية ومؤسسات راسخة فرضت تقسيم السلطات لكسر احتكار الملوك، واحتكار النبالة، لمراكز السيادة، أي الحق في الحكم. نشأ تقسيم السلطات الحديث أول ما نشأ في انكلترا، بصعود الطبقة الثالثة، المهيمنة على مقاليد الثروة، بإزاء قوة العرش، المهيمن على الجهاز البيروقراطي - العسكري المركزي الحديث، وقوة النبلاء الذين هيمنوا على الأرض، والشرعية المدعمة بتقاليد الشرف ونبالة الدم.
وكان تقسيم السلطات على شكل مؤسسات هو، في واقع الأمر، انقسام اجتماعي تتفتت فيه منابع القوة والهيمنة بدل ان تتمركز وتتركز في بؤرة واحدة. وكانت نظرية مونتسكيو عن تقسيم السلطات هي تمثلات ذهنية للواقع الانكليزي الذي أخذ ملامحه في القرن السابع عشر، وبخاصة بعد «الثورة المجيدة» التي عاصرها جون لوك أبو الديموقراطية الحديثة.
وكان همّ المفكر الفرنسي، المتحدر من النبلاء، ان يحاكي النموذج الانكليزي، ليمنع تركز السلطات في يد العاهل، ويفتح الباب لاندراج القوى الاجتماعية الثلاث، العرش، النبلاء، الطبقة الوسطى (الثالثة)، في مساواة تاريخية على الغرار الانكليزي، باعتبار هذا الغرار السبيل الأنجع للانتقال المتدرج، السلس، نحو الديموقراطية البرلمانية، ومبدأيها الأساسيين: الحكم بالتوافق (الانتخاب)، وحكم الأكثرية.
وإن بحث العربي عن الطبقة الوسطى في المنطقة عاد خائباً، وان عنّ له انتظارها، فسينتظر على غرار انتظار غودو صامويل بيكيت الغائب/ الحاضر. بدل الطبقة الوسطى سيجد المرء قوى اجتماعية أخرى، سيجد الجندي - السياسي (عبدالناصر، بومدين، وعبد السلام عارف، والسلال، وأضرابهم أو أخلافهم)، ممثل المؤسسة العسكرية، التي نضجت كجزء من جهاز الدولة الحديث، قبل نضج مجتمع الحواضر، حاضنة الطبقة الوسطى، والطبقات الحديثة الأخرى. ويقف هذا الجندي - السياسي بازاء مجتمع قبلي مفتت (اليمن)، أو مجتمع فلاحي طاغ، لا فعل فيه للمدن الحديثة، أو ان هذه الأخيرة ضعيفة لا تزال: ربع سكان البلدان العربية يتركزون في العاصمة، والسيطرة عليها كانت تعني السيطرة على الأمة بأسرها.
أو يجد المرء، عوضاً عن العسكر، طوائف وقبائل متناحرة، تقف بين عصرين، قدم في عالم الملل والنحل، وقدم في عالم الدولة الحديثة. قد تجد هذه الملل من يسعفها على ترتيب جديد ابتكرته التجربة التاريخية لأجل تدعيم التطور الديموقراطي: التوافقية، أو الفيديرالية، أو اللامركزية. أو قد لا تجد هذا الاسعاف، فتلجأ الى نخب حاكمة تستمد شرعيتها من الدين والتقاليد، وهي نخب ذات منحدر شريف (علوي أو هاشمي)، أو تدعم شرعيتها باسم الدين.
هذه الحال تتغير، ببطء، وألم، لكنها تتغير. ففي حالات غير قليلة يتفكك دور الدولة أو نخبة الدولة كمالك للثروة الاجتماعية، وفي حالات غير قليلة أيضاً تنمو المدن المليونية متقاسمة النفوذ مع العاصمة، خالقة فضاءات متعددة للفعل السياسي والاجتماعي. وفي حالات كثيرة تأتي الفضائيات والانترنت لكسر احتكار المعلومات ولغة الاتصال، لكن ذلك كله يجري وسط خبل جماعي لحمته انحطاط الثقافة، وسداه صعود الخطاب المقدس، أو بالأحرى اللابس لبوس المقدس، ليستولي على عقول الطبقة الرابعة، الأساسية لديموقراطيات القرن العشرين، نعني بذلك الطبقات العاملة، والفئات الدنيا، والهامشية، التي تشكل كتلة اجتماعية كبيرة لا تقل أهمية عن الطبقة الوسطى (الثالثة)، غير انها سديمية، غارقة في غبش الرؤية الصوفية. ولعل حلول لابس العمائم محل الأفندي علامة على عدم نضج هذه القوى الاجتماعية المدنية، لكنه أيضاً علامة على فقدان نخب الدولة العاتية لاحتكارها المديد.
نحن في مرحلة انتقالية، جديدة، شائكة، منهكة، لكنها جديدة. شرط الديموقراطية المكتمل هو فكاك الطبقة الوسطى (الثالثة) من أسر الدولة (وهذا يتحقق جزئياً) وفكاك فئات الطبقة الرابعة من أسر العمائم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البرازيل.. سنوات الرصاص • فرانس 24 / FRANCE 24


.. قصف إسرائيلي عنيف على -تل السلطان- و-تل الزهور- في رفح




.. هل يتحول غرب أفريقيا إلى ساحة صراع بين روسيا والغرب؟.. أندري


.. رفح تستعد لاجتياح إسرائيلي.. -الورقة الأخيرة- ومفترق طرق حرب




.. الجيش الإسرائيلي: طائراتنا قصفت مباني عسكرية لحزب الله في عي