الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بصرة عام 11 (الحلقة الثالثة)

حيدر الكعبي

2014 / 3 / 8
الادب والفن



بلاد في فندق


الى محمد شلاگة الذي أوحى اليّ بعنوان هذه الحلقة


الوطن هو الشعب. فالبصرة الحقيقية كانت تنتظرني في صالة فندق الخليج. كان هناك عدد كبير من الأصدقاء بعضهم لم أره منذ حوالي الربع قرن. بعضهم لم يغادر البصرة. وبعضهم مثلي يزورها قادماً من بلاد أخرى. وامتدت الأيدي لتصافح، والأذرع لتعانق، وملأ اللغط الحميم الصالة، وراحت الغربة تنقشع. أحسست فجأة بأنني في البصرة فعلاً. قبل دقائق فقط كنت أشعر كأنني دخلت بالخطأ مدينة غريبة. كنت أفكر في الملايين الذين وُلدوا في العراق بعد أن غادرتُه. إن أكبر هؤلاء هم في سن العشرين الآن. العراق الذي رآه هؤلاء لم أره أنا. ولا هم رأوا العراق الذي رأيتُه. العراق الذي عشته أنا عمره سبعة وثلاثون عاماً. العراق الذي عاشوه هم عمره عشرون. هذان العراقان لن يلتقيا مهما امتدا. ولابد من جسر لغوي يربط بينهما. ترى أية فكرة يحملها شباب اليوم عن شخص مثلي يأتي العراق زائراً بعد عشرين عاماً من مغادرته؟ وتذكرتُ برتولد بريخت: "أنتم يا من ستجيئون بعد الطوفان، تذكروا، حين تتحدثون عن ضعفنا، الزمن الأسود الذي نجوتم منه."

كنت غادرت البصرة عام 1991 بدشداشة زرقاء، وفي يدي كيس نايلون. الدشداشة تمزقت عند الإبط الأيمن لا أدري كيف أو أين، فرُحتُ أتحاشى رفع ذراعي. في الكيس بدلة عسكرية كاملة مع النطاق والبيرية (كنت متحسباً لاحتمال أن يوقفني الحرس الجمهوري). في الكيس، أيضاً، كيس آخر فيه تبغ ودفاتر لف. في الجيب الجانبي للدشداشة حُشِر دفتر الخدمة العسكرية، وهو بدل ضائع حصلتُ عليه بشق الأنفس، كُتب في إحدى صفحاته "سيق الى وحدة تقوية مشاة المنطقة الجنوبية." في الدفتر هذا بضع أوراق نقدية من فئة 20 ديناراً كلها من ذوات الخيول الثلاثة، وكلها ستصبح عديمة القيمة بمجرد أن أعبر الحدود. في الدفتر، أيضاً، ورقة عدم تعرض مزورة. وفي جيبٍ آخر من جيوب الدشداشة، علبة سجائر (ريم) ودفتر ثقاب. في (أم البروم) التقيت صديقاً كان قد زوّر لي هوية أيام هروبي من الجيش. سألني: الى أين؟ قلتُ إنني مغادر الى غير رجعة. فهزّ يده غيرَ مصدّق. صعدتُ باصاً، لا أذكر تفاصيله، الى ساحة سعد. توقف مرة واحدة عند نقطة تفتيش في باب الزبير. ولم يفتشنا أحد.

في ساحة سعد رفض أحد أصحاب الباصات أن ينقلني الى الناصرية. قال: "أنت عسكري،" وقد لحظ البدلة في الكيس. ثمة سائق تكسي قبِل أن يوصلني الى تل اللحم. من هناك التقطتْني سيارة حمولة سائقها والراكب الوحيد الذي الى جانبه جنديان في ثياب مدنية. الأخير حدجني بنظرة عدوانية حين لمح البدلة العسكرية في الكيس. قال:"أتريد أن تورّطنا مع الأمريكان؟" فرميتُ البدلة من النافذة، وسمعتُ قرقعة حديدة النطاق وهي تحتك بالزجاج قبل أن يطيرها تيار الهواء. قال جاري إنه ذاهب ليجلب مقطورة الماء التي اضطر لتركها أمس حين تعقبه الأمريكان. كان مرعوباً الى درجة مضحكة ومقرفة. لكن، لا. هذه قصة طويلة لست مهيَّئاً لسردها هنا.

خطر لي هذا كله وأنا أدخل فندق الخليج لأرى عدداً من الأصدقاء في الصالة. وكان أحد العمال قد حمل حقيبتي عني وذهب بها الى غرفتي. لقد أزال لقائي بأصدقائي غبار الليلة المتعبة التي أمضيتها في مطار دبي. كانت تلك اللحظات أجمل فصول الرحلة وأغناها وأحفلها بالمعاني. من حسن الحظ أن يجد المرء أصدقاء يمكنه التفاهم معهم بصمت، كمن يتحدث مع نفسه.

صعدتُ السلم الى الطابق الأول. كانت غرفتي آخر الغرف الى يمين الممر. كانت مقسومة بحاجز الى قسمين، واحد للإستقبال والآخر للمنام، وجدرناها مصبوغة بلونين الأول أقرب الى البرتقالي منه الى الوردي، والآخر أقرب الى الوردي منه الى البرتقالي. وفي قسم الإستقبال تلفزيون وثلاجة، الثلاجة وحدها أفلحتْ في كسب ودي. في قسم النوم، الى جانب السرير، سجادة صلاة و(تربة). وهذا القسم يطل على كراج الفندق الذي خلا إلا من سيارة واحدة.

***

البصرة ناسُها، إنْ خيراً وإنْ شراً.
والأصدقاء حصتي الوحيدة منها، حصتي من هذا البلد كله الذي ليس لي فيه متّكأ أسند إليه ظهري. لكنني مُكْتفٍ بهم. هم مثلي يدفعون ثمن وعيهم. ووجودهم يعني أنّ العراق الواعي ممكن، وبالتالي أنّ العالم الواعي ممكن، وأنّ تحققه ليس سوى مسألة زمن. كنت أشعر بأهميتي كلما زارني صديق. كنت اقول لنفسي إنني موجود في ذاكرة أصدقائي. لكنني أستدرك فأقول إنني موجود في ذاكرتهم بصفتي شاعراً، وبهذه الصفة أنا مدعو الى المربد، رغم أن عهدي بكتابة الشعر أصبح بعيداً الآن. فأنا أجد كتابة الشعر متعبة، وأتهرب منها باختلاق الذرائع. ولعل إيماني بالشعر قد ضعف، وحماسي له قد فتر. ولعل لإقامتي في أمريكا يداً في ذلك. وهناك أيضاً مشكلة اللغة العربية التي لا أستطيع التحدث عنها إلا بالتفصيل، ولست مستعداً للتحدث عنها بالتفصيل، ولذا لن أتحدث عنها.

***

الشاعر جمال مصطفى، الذي غادر العراق أثناء الحرب العراقية الإيرانية وخَبِر الحجز في مخيمات اللاجئين في إيران مثلما خبرتُها أنا فيما بعد في السعودية، زارني في الفندق. طلبت منه أن يُمضي الليلة معي. قال: "أخشى أن أزعجك بشخيري." قلت: "لا تخش هذا. لا أحد يبزني في الشخير." أخليت له غرفة النوم، ورحت أراجع مسودة قصيدتي الجديدة في صالة الإستقبال. وسرعان ما غلبه النوم. كان شخيره شخير مبتديء. قلت في سرّي: "إصبر قليلاً وسأعلمك كيف يكون الشخير." كنت ترجمتُ الى الإنكليزية قصيدته القصيرة "إهداء" التي غيّرتُ عنوانها الى "هدية" ونشرتُها في كتاب "أزهار اللهب: أصوات العراق غير المسموعة." قصيدته هذه—وهي ليست أفضل قصائده—نالت في ترجمتها الإنكليزية استحساناً واسعاً، حتى أن شاعراً سنغافورياً معروفاً أشاد بها كثيراً ووصفها بـ "الجوهرة،" وهو أمر أثار استغراب جمال نفسه الذي سألني: "ماذا وجد فيها؟" هذا الطفل الكبير الذي لم يجد مكاناً آمناً له في العراق فوجده في الدنمارك يغط الآن في النوم في غرفتي. لقد قال في إحدى قصائده:

كان القمر درهماً عالياً
يتدحرجُ بعيداً عن طفولتي.

نم يا صديقي، نم، فعساك تعثر في أحلامك على ذلك الدرهم الذي أضَعْتَه في يقظتك.

***



* العنوان يحاكي فلماً شاهدته في طفولتي إسمه (بصرة ساعة 11).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل