الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فضائيات بفتح التاء

ثائر زكي الزعزوع

2005 / 7 / 3
الصحافة والاعلام


لا ينكر مطلع أن التطور الذي شهدته مفردة الفضاء من أول مرة استعملت فيها إلى الآن هو تطور هائل وذو مساحة واسعة، فمن كونها في المخططات الحجرية الأولى مثلت السر الرهيب الذي تختبئ الآلهة بين ثناياها، وصولا إلى تحولها شيئا فشيئا إلى محطة استراحة لمخيلات الشعراء المحبطين الذي أتعبتهم محبوباتهم بالهجر والصد، وحالت قوانين القبيلة دون اجتماع العاشقين، مروراً بكونها اللغز الذي دوّخ دهاتنا حين استطاع أبناء العم سام وقبلهم أبناء السوفييت من الوصول إلى تلك المجاهل الضاربة بعيداً بعيداً في الأعالي....
واليوم تواجه المفردة تطورا جديدا في ثقافتنا، فالفضاء الرحب الواسع لم يعد فضاء فحسب بل صار فضائيات، لا فضاءات، والمفردة هنا جمع لفضائية التي تشير إلى المحطة التلفزيونية التي تبث برامجها عبر الأقمار الصناعية فتغزو كل بيت وفندق واستراحة ومقهى و و و....
ولعلنا استطعنا، نحن العرب طبعاً، أن نتطور بشكل ملحوظ في مجال الفضائيات، ولم نبق على حالتنا الأولى أمام كل استعمال من الاستعمالات السابقة مجرد مراقبين، بل صرنا صناعاً لا نقل شأنا عن غيرنا من أبناء عمومتنا وأخوتنا في الإنسانية من أسبان وأمريكان وفرنسيين وطليان، بل إننا تفوقنا على سوانا من الشعوب في كوننا الأكثر قدرة على ابتكار أسماء لتلك الفضائيات، والذي لديه القدرة والجلد الكافي ليمسك جهاز التحكم ويضغط الزر و يتابع الأسماء وهي تنهال أمامه سيفهم قصدي تماماً.
أما الذي وقفنا عاجزين أمامه تماماً، وهي عادتنا على اختلاف ثقافاتنا وألوان أعلامنا الوطنية فهو كيف يمكننا دفع عجلة هذه الفضائية، ووضع أسس لعملها يجعلها تنسجم مع شعاراتها التي هي أشبه بشعارات صحفنا وأحزابنا ومؤسساتنا الخيرية حتى، فالهم الرئيس للجميع ولست أبالغ هنا "هو خدمة المشاهد العربي" و يالها من خدمة تلك التي تنتهك حرمة المشاهد لترفع عنه عبء الإعلام الرسمي البليد ليقع في إسار حالة غير منتهية من الإسفاف والضحك على الذقون وعدم الاحترام، طبعاً لست مثالياً إلى الدرجة التي قد تبينني فيها كلماتي التي أكتبها، ولكنني أحاول أن أبحث في العلة، فألعب دور الطبيب العليل، مثلما يبذل الكثير من الأطباء الجهود ليقلعوا عن تدخين السجائر كونهم يقنعون مرضاهم بالإقلاع، وكيلا يقال عني بأني عليل أداوي الناس، فأعترف بأني ولله الحمد لا أجدني عليلاً مثل الكثيرين سواي، بل إني وبحكم كوني أعمل لساعات طويلة، وأنشغل فيما تبقى من وقتي بالقراءة وتلك عادة وعلة لا أتمنى البراء منها، فهذا يؤكد وبالدليل القاطع أني لست عليلاً، بل ربما أكون، وفي أسوأ الحالات، معتلّ الآخر.
المهم ما يلفت الانتباه أثناء متابعة "فضائياتنا" أمران اثنان الأول هو غياب التقيد بالشعار الذي تتبناه الفضائية في أثناء الإعلان لها قبل إقلاعها بشكل رسمي، فهناك تفاوت واضح بل وتجافٍ حقيقي بين ما تطرحه في شعارها وما تطرحه على أرض الواقع، فهي فضائية الحوار التي يغيب عن شاشتها البرنامج الحواري، وفضائية العرب من المحيط إلى الخليج، وعلى أرض الواقع تظل فضائية لدولة عربية أو دولتين. ولعل هذا الأمر أن يكون الأقل تأثيرا والأقل ملاحظة كوننا، نحن العرب، نقول كثيرا ما لا نفعل، الأمر الثاني وهو الأمر الأكثر خطورة، هو غياب الرقابة بشكل كامل ومبرمج عن هذه الفضائيات حتى لتنعدم فيها أدنى شروط المهنية، من باب مهني، والأخلاقية التي تلزمنا في مجتمعاتنا المفككة الهشة، ولسنا هنا في باب البحث عن رقيب يشبه رقباء الأنظمة الذين مارس مقصهم الرهيب إعدام الكثير من النصوص النفيسة، ولكن أن تكون رقابة على هذا الخواء الذي يوجع الرؤوس أكثر مما يبعث على البهجة والسرور... ففي الوقت الذي تستقوي فيه أجهزة الرقابة العربية المحترفة على كاتب مقال، أو ناشر كتاب، وعلى مطبوعة فتقوم بالإجهاز عليها لمجرد نشرها مقالاً فيه شيء من الانفلات عن الخطوط الحمراء المرسومة بعناية وما أكثرها وكم هي متنوعة ومتجددة، تكون تلك الأجهزة غير قادرة أبدا على فرض شروطها بشأن بث تلفزيوني يؤدي إلى تفسخ مجتمع، وضياع أجيال ما زالت في طور التشكل...
لا أخفي بأني، ذكراً، أحب تمايلهن و"مياعتهن" ونعومتهن، ولكن هذا بحكم الغريزة فقط، أما كوني إنساناً فهذا يضعني أمام مقياس إنساني، تأتي الغريزة في آخر متطلباته، وبما أن الحكم الإنساني هو الشرط الأكثر إلحاحاً للاستمرار في عالم إنساني، فإني أسلط سيف النقد حاداً على الابتذال، وأحاول ما استطعت تجنب الاقتراب من مغبات الوقوع في الإسفاف والسطحية التي تروّج لها فضائياتنا الفاضلة، التي يقف وراء العديد منها رجال دين أفاضل، أو مدعون ملتحون يطوفون كل سنة حول بيت الله الحرام، ويصرفون الهبات ويشرفون على الهيئات الخيرية، ولكنهم أيضاً يقفون وراء "دور دعارة" مفتوحة لكل من هب ودب، بمجرد الضغط على "زر" صغير في جهاز التحكم...
أحد أخصائيي التربية قال بأن ثمة شخصا ثالثا يقوم مع الأب والأم بتربية الأبناء، وتأثيره أكبر من تأثير الأهل على الطفل. وهو يقصد بكلامه هذا التلفزيون.
إذن فالمربي الثالث له الأثر الأكبر في تربية الأبناء، ولكنه ينتهج أسلوبا تخريبيا في التربية فهو يفسد النشء، ويتلفه الزرع، ويدمر البنية التحتية لمجتمعاتنا الهشة.
مرة أخرى لا أريد أن أبدو متشددا وربما أصوليا في أفكاري، ولكنني أميل إلى العقل، والعقل يرفض وبشدة هذه البضاعة الرخيصة التي يتم عرضها علينا وبالمجان لنأخذ منها دون أن نتكلف عناء الدفع، كوننا نحب الرخيص، ولو كان بلا ثمن فما أحلاه...
وما أحلانا ونحن لم نعد قادرين على فرض شروطنا الصحيحة على أبنائنا، وعلى اختيار المناخ الذي تنبت فيه مزروعاتنا، وما أحلانا ونحن نسترخي أمام الجهاز ونمسك جهاز التحكم نضغط الزر فتتغير القناة، لتطل علينا مسخرة أخرى من مسخراتنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرئيس الأوكراني: الغرب يخشى هزيمة روسيا


.. قوات الاحتلال تقتحم قرية دير أبو مشعل غرب رام الله بالضفة




.. استشهاد 10 أشخاص على الأقل في غارة جوية إسرائيلية على مخيم ج


.. صحيفة فرنسية: إدخال المساعدات إلى غزة عبر الميناء العائم ذر




.. انقسامات في مجلس الحرب الإسرائيلي بسبب مستقبل غزة