الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفصل الثالث من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر

سعدي عباس العبد

2014 / 3 / 13
الادب والفن


** كفراغ يحلّق في العدم ..اطلق صمتا مهولا وسط صراخها المكبوت ....... ثم لا ادري أجدني اتطلع إلى نهديها النافرين يترجرجان وهي تهصر الغسيل تدعكه وتميل برأسها للأسفل كانها تبحث عني في الارض ! ..في الأسفل ..بعينيها الواسعتين ، وكأنها تبحث عن سر الكراهية التي ما زالت تحبو على مساحة رهيفة من قلبها ..فتراءت ليّ في تلك اللحظة ، اللحظة الحزينة ..تحلّق للمرة الاولى في سماء بعيدة من العزلة ..سماء مخيفة من الجفاء تفصلني عنها . بدت كأنها لم ترني على الكرسي قبالتها ..كأني لم اكن موجودا منذ احزان عديدة خلت اتخبط في شراك عزلة ما زالت تنسج خيوطها باصابع من الصمت ..عزلة منذ وقت ما بدأت اخفق في فضاءها ارفرف عند محيطها ...اخفق مثل شراع في بحر صدودها ... ترقبني عيناها الخاليتان من البريق والدهشة .. وانا اذوي يوما بعد آخر ..تتملى الحزن المهول ينمو على ملامحي يطوف في عينيّ الملتمعتين بفصوص دمعية تكاد تطفر من وسط رموشي ..... بالكاد كنت اصدّق ما يحدث ليّ ..ما يحدث بيننا ..ظننت في بادىء الأمر انها مسحة حزن او غيمة جفاء علّقت في سماء حياتنا وستزول يبدّدها الوقت عبر جريانه وتتوارى في لحظة ما ... ولكنها كانت مشدودة بقوّة الكراهية لتوسيع مساحة الجفاء ..
كانت تأبى ان تعود كما كانت ..
أمّها لم تكن لتمسك عن إشاعة النميمة ..كانت تلعق بلسانها آخر بقايا المودة وهي تردد في اسمعها ذلك الهمس المخيف ..كانت تمسح بيديها آخر علامات الطمأنينة المطبوعة على لوحة حياتنا ..ترفع رأسها وعيناها شاخصتان في وجهي وهي تكلمني
__ : البنت لم تعد تحبّك ...ما عادت تحتمل ...... وتظل متخشبة ..ماثلة قبالتي كعامود رمادي شاخص وسط عراء قاتم ...تلوّح بيديها امام ثدييها الرخوين المتهدلين وكأنها متأهبة للطم على صدرها ووجهها المعتكر المزدحم بالغضون او كأنها متحفزة لخوض عراك دام ..او للهجوم عليّ ..لأحداث شرخ في جدار الطمأنينة ..لخلخلة اتزاني الذي كان في اول انهياره ...كان العرق يسيل على تجاعيدها وينزلق الى شفتيها المكتنزتين الملمومتين فتلعقه بلسانها الرطب الطويل .._ ** فتلعقه بلسانها الرطب الطويل ، وهي تردد ..كأنها تصرخ : يجب ان تنفصلا ..نعم ليس لديك خيار آخر ..وانت تعرف لماذا ...
لم أعد اتذكّر كل ما قالت ... بيد إني ما زالت اتذكّر ذلك البريق المشّع من عينيها ...وتلك الكراهية المخيفة المتموجة في التماعة عينيها وهي شاخصة مثل جذع ضخم..متلفعة بالسواد تتفرس وجهي الذي غزاه شحوب مفاجىء وانا ارنو اليها مذعورا ..ماسكا بارتجافة شفتيها الرخيتين المعوجتين ... فأغمض عينيّ فيطبق عليّ ظلام فاحم .. فأرى ملامحها في الظلام ، أرى وجهها في ظلمة قاتمة مطبقة ..كأنه ينبثق من اعماق سود ..من اغوار ذاكرة مهيأة للخراب ..فأسمع نداءات تشي بالذعر ، تتدفق من بعيد .. من غور ناء في ذاكرتي ، كأني اسمع أمّي الميته تطلق صراخا ..فأحس بالظلام يزداد حلكة ..وعزلتي تزداد توحدا مطبقا ، فاشعر كأني اهوي الى فراغ _ ** فأشعر كأني اهوي في فراغ دامس ، فأفتح عينيّ ، فتطالعني المرأة اقرب الى شبح يتوغل في مدّيات سود ..فأضع يدي على مسند الكرسي احرّكه بقوّة ..كأني اتعقب الشبح في دوران مغلق ..كان هواء الغرفة مشبّعا برائحة أمّها وكان يمكن تشمم تلك الرائحة عن بعد .... كانت نبراتها تتوالى بايقاع لم اسمع منه غير لغط غامض يبعث على الاضطراب ..لم أرها وهي تختفي ..وهي تستدير بخطواتها الاولى ..بيد إني فجأة لمحتها من بعيد تغيب في إحدى الغرف التي انتخبتها زوجتي في الآونة الأخيرة ، صومعة للعزلة والأنزواء ..غابت بغتة كشبح، لم تترك سوى اصداء تشي بالقلق ما زالت تتردد في اسماعي ..فيخيّل ليّ انها ما زالت ماثلة حيالي تلعق بلسانها على شفتها السفلى المعوّجة المضمومة إلى اسنان بيض لامعة او شبحها ما زال شاخصا ..في حين كانت هي قد توارت في الغرفة الضّاجة بالهمس والنميمة ..اصبحتا وحيدتين تتبادلان الهمس وتكتسحان وحدتي واحلامي الشحيحة المجفّفة بموجة صاخبة من الأرباك ..فأشعر إني في طريقي إلى الخراب الذي لابد منه ..فتتبدى ليّ الأشياء غائمة صامته ...فيزداد حزني وانا اتمثل طيف زوجتي التي سوف تتخلى عني ..منتزعة احلاما لا زالت طرّية ..فشعرت برغبة تدفعني لأن اقتحم عليهما خلوتهما داخل الغرفة ..وقبل ان ادفع الكرسي ناحية الغرفة ..احسست بأنصال من اللاجدوى تخوض ّعميقا في جنبات قلبي وروحي ..فعدّلت عن فعل ذلك ..وجعلت اتنّقل بالكرسي __ وقد بلغ شعوري بالحزن ذروته __ المتحرك في ارجاء البيت الذي راح يضيق بي هائما على كرسييّ واوجاعي ..لا استطيع ان امحو من ذاكرتي الكلمات المخيفة التي طبعتها أمّها مرة واحدة وإلى الأبد على جدار ذاكرتي ..كم رغبت ان امسح تلك الكلمات الصدئة ..امحوها بذاكرة من نسيان ..
كان صوت أمّها وهو يتدفق ينغرز وسط ظلوعي وروحي لاذعا موجعا ..فأشعر بعمق العزلة التي ستحفر لاحقا اخاديدا متيبسة من الأحزان والشرود والأحزان في اعماقي ...____________________ لم تكن زوجتي طيفا عابرا . بل كانت أملا مازال ينمو ...
تحول إلى حلم ينفتح في الداخل مثل ازهار برّية ..يتبرعم في الذاكرة ..من العسير ان امحوه عن ذاكرتي ..من المحال ان يحدث ذلك ..حلم لا يمكن ليّ ان انساه ...
دخلت الغرفة عقب مغادرة أمّها ..كنت قد أحدثت فوضى ابان دخولي اذ كان الكرسي لا يسعفني في اجتياز او عبور بعض المعوّقات التي تتصدى ليّ في الطريق الوعر ! نظرت اليها وانا امج نفسا عميقا من سيجارتي وانفثه فيتطاير ، غيوم بيض تسبح في الفراغ امام عينيّ صاعده صوب الباب الذي بقي مشرعا على اخره ..كانت تحدّق ناحيتي بنظرات مضيئة ثابته وهي ساندة ظهرها الى نافذة الغرفة تبحلق في الفراغ الذي يحيط الكرسي كما لو انها ترغب بالقاء نظرة اخيرة على ساقيّ المشلولتين ..كما لو تريد معاينة ذلك الشلل الذي احال حياتنا الى خراب مستمر .... كنا وحيدين . منذ مدة لم نختلي او نكون معا ..كان احدنا يتملى الاخر دون ادنى نأمه ..نتبادل النظر بصمت يتجسد عبر ملامحنا الخالية من اي تعبير ...ولكن كانت ثمة مشاعر خفيّة تمور في الداخل تؤكد بوضوح باننا بتنا مخلوقين غريبين تفصل بينهما مسافات مهولة من الجفاء والكراهية ..لم يعد احدنا جزء من الاخر ..
كان طعم الدخان مرا كريها في فمي ..رأيتها تستدير لتفتح ضلفتيّ النافذة لتتيح مجالا لتسرب الدخان الى الخارج او لتبدّد الهواء الراكد في فضاء الغرفة ........... كان النهار في الخارج يمرّ مشّعا عبر النافذة متسللا الى الداخل غامرا الجدران ببقع فضيّة ساكنة ...
تساءلت ذاهلا او فكّرت ..: هل المرأة الشاخصة جوار النافذة حقا زوجتي ..ام إمرأة سواها لم يحدث ان رأيتها من قبل !!... أ صحيح ما تزال زوجتي تحمل رائحة ذكرياتنا الغابرة ...
قلت كما لو اني اخوض في حمّى من الهذيان _ : أ أنتِ حقا زوجتي ..امرأتي اليافعة الطرّية الريانة ..المرأة التي في ريعان الفرح ...كم افتقدتك في المدة الأخيرة كما لو انكِ لم تكوني هنا ..في البيت ..كأني لم اركِ منذ سنوات ..لم اسمع وقع خطواتكِ ..نبرة صوتكِ الناعمة ..لم اتشمم رائحتكِ الاليفة ...كما لو انكِ محجوزة في دهليز مغلق ..
خلتها تقول _: إني هنا طوال الوقت ..طوال ساعات اليوم كلّها احشو رأسي بالأحلام ....قالت : هنا طوال ساعات اليوم أحشو رأسي بالأحلام ... ابحث عن ملاذ في الأحلام ..ابحث عن الحياة التي افتقدتها منذ عدت ليّ معاقا من الحرب ..اراحت رأسها على زجاج النافذة بينما تصالبت ذراعها على بطنها الضامر ..قلت _ : ولكني لم اسمع صوتكِ ... أ نسيتِ الكلام !! فقط كنت اسمع طوال ساعات النهار همس مخيف ..أ أنتِ التي كانت تهمس ... ! ؟ وأمّكِ ماذا كانت تقول عني في الهمس ...طلبت مني ان اطلقكِ ....... وانتِ ماذا تقولين ....
كان الهواء يأتي من النافذة ناعما خفيفا فينشر شعرها في الفراغ وعلى الزجاج ...
قالت __ : هذا قدرنا او قدري ليس بالامكان ان ابّدله ..بامكانك َ ان تتركني ..حقا لماذا لا تفعل ذلك ..أ أنتَ بحاجة ليَّ لهذهِ الدرجة ، بالرغم من اني لم اعد كما كنت من قبل اخدمكَ ...حتى البيت بات موحشا ...انا يأسة تماما من ترميم ما خرب ..اشعر بالحطام اوسع من ان نؤثثه مجددا ......... اشعر بالضجر من كلّ شيء ...كما لو إني عشت عمرا مديدا فأصابتني الشيخوخةبالسأم ... اشعر إني إمرأة طاعنة بالشيخوخة المبكّرة ...
من حقي ان اغير مسار حياتي ..ابدّل قيمي القديمة ..عاداتي ..اني بحاجة للتغير ...
يجب ان ننفصل فما زال الوقت مبكرا ... لنبدأ من جديد ..لم اطلب شيئا صعبا او مستحيلا
ستتعود بكر الوقت على فقداني ..وعلى حياتكَ الجديدة ..
كان صوتها كأنه يأتي من بعيد ... من براري نائية ..من وسط فضاء قاتم ..ياتي عبر الظلام
كأنه يتدفق من اعماق سود ..قلت __: أنتِ تتحدثين كما لو اني لم اصب بعطب ..عوقي يجعلني بحاجة مستمرة اليكِ ...ليس بوسعي ان اواصل الحياة من دونكِ ..______________________ ليس بوسعي ان اواصل الحياة من دونك ..انا بحاجة اليكِ ...دونكِ سيلحق بي الخراب واغدو محض حطام ..قالت _: ولكني لا استطيع ... قلت _: أتفكّرين بالزواج من آخر سواي ............
قالت __: افكّر في آخر ..يبعث الحياة المجفّفة في بدني ..آخر يطوقّني بذراعيه ..ينشر قبلاّت محمومة على مساحة مواّرة تنبض بالرغبة من جسدي ...يتلمس لحمي الطرّي الريان يتحسس البقع الرطبة المتقده بجذوة اللذائذ ....كي تتفتح ازهار الرغبة المحمومة في عروقي المتيبسة ... ويسيل مجرى رهيف راعش في اوصالي ... بحاجة لرائحة جسده ..لزفيره الحار ..لصهيله ..وهو يفتح سدودا من الظمأ ..يفتح شقوقا مجفّفة من النشوة ...يجعلني اغرق وسط فيضان عارم من اللاهث والدبيب ..يبلّل تلك اليبوسة المعرّشة في لحمي المجفّف في علب من الصدىء والظمأ ..يبلّلها عبر ينابيع من اللذة عبر سيل جارف من زفير الألتحام والأتصال الحميم ............
كانت تتطلع إليّ وهي تتدفق بالكلام __ كان كلامها واقعا وليس تخيّل من عندياتي كما اوهمتني حمى الهذيان ..__ دون ان تتضرج خدودها بالحياء كما كان يحدث من قبل ..
وتلعق شفتها بطرف لسانها الأحمر اللزج ..لسانها الذي امسى طويلا والذي يخرج لامعا مع الكلام الوقح ..ومع الابتسامة الصفراء الكاشفة عن اسنان منضدة بيض تلتمع ..
شعرت بانكسار ضاغط يعتمل في اعماقي يبعث على الرثاء والبكاء والندم ..فأمسك بي يأس مخيف شعرت معه بعدم جدوى الكلام ..وان بقايا الخيط الواهي الذي كان يشدنا على نحو فاتر قد تفتّت تمام .__________________ ** الخيط الواهي الذي كان يشدنا على نحو فاتر قد تفتّت تماما ..انقطع للأبد ..انقطع بصمت مذهل ..فتملكني القنوط ورثيت حالي بمجرى موارّ من البكاء الداخلي المليء بالصمت والعذاب والقسوة ... بكيت وانا ارتعش على حافة من الخراب مما جعلها تتفرس وجهي خلسة تتملى الأثر الذي خلفّه او تركه كلامها ..تعاين آثاره في سحنتي ..تبحث عن معالم التعاسة والحزن في تعابير وجهي ..
استشفيت من كلامها انها تعلّق اهمية ملحة على ضرورة الأنفصال .. بدا ذلك واضحا عبر كلامها المتخم بالقسوة والجفاء ..ذلك الكلام المفعم بالكراهية الذي لم اعهده فيها من قبل ..كلام صارم ينضح قسوة وغموضا ..وبالتأكيد لقنتها اياه أمّها ... فأشاعت في داخلها خراب لا يرمم احالها إلى مخلوقة تسيل القسوة من روحها ومن كل بدنها ............
كم تبدلت .... !! كانت إمرأة غيرها الآن ..كانت أخرى فيما مضى ..لم ارَ في عينيها التماعات القسوة والوقاحة ..لم أرَ في عينيها الدموع الا يوم التحاقي إلى حفر الباطن ..
حفر الخراب والخيبات ............ لا اكاد اسمع لها صوت عال او كلاما قاسا يتصاعد في فضاء البيت ..لا تكلم احدا دون ان تخفض عينيها قلما كانت تخرج .. لا تطلب شيئا .. لم اسمعها تنهر احدا او تعنفه ..كانت البسمة لا تتخلى عن شفتيها ...تطوف على وجهها باستمرار .... لشد ما اصابني بالدهشة هذا التحول العجيب في سلوكها ....
ولكن متى حدث ذلك التحوّل المخيف .؟.. لا اتذكّر على وجه التحديد !؟ ولكني ما زلت اذكّر ذلك النهار الذي حل فيه ابن خالتها ضيفا برفقة امّها __ منبع كل المصائب __ بعد ذلك تكررت الزيارات .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المراجعة النهائية لطلاب الثانوية العامة خلاصة منهج اللغة الإ


.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين




.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ


.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت




.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر