الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جدلية الذاكرة والوعي في مجموعة - اقاليم قصية - ل غازي العبادي

أسامة غانم
ناقد

(Osama Ghanim)

2014 / 3 / 17
الادب والفن


ينسج غازي العبادي في مجموعته " اقاليم قصَية" قصصه من السرد العجائبي والرمز المؤول لاستجلاء المعنى من خلاله والتجربة الواقعية المنطلقة من الذاكرة للمؤلف او الراوي لبناء قصص متطورة ، ويبقى المستويين العجائبي والواقعي يتنازعان مبنى القصص ودلالتها ليقوما بمنحها طاقة ابداعية مضافة .
يقول لوسيان غولدمان ان العمل الأدبي " عالم رمزي تنشئه جماعة اجتماعية يمثلها شخص مبدع ، ولها رؤية مشتركة تجاه العالم " 1، بمعنى أن العمل الأدبي يمتلك رؤية طبقية وايديولوجية تجاه العالم ، وهذا يقودنا الى أن عالم غازي العبادي القصصي تمتزج فيه الدلالات الواقعية الأسطورية ، ومن هنا كانت القراءة التأويلية الى " الأسطورة تسائلها الخبر اليقين عن الواقع فغدت مفتاحاً يلج به المؤول ما استغلق عليه من اسرار الواقع " 2 بحيث نسقط في متاهة اذا لم تكن قراءتنا عميقة و دقيقة لهذا العالم المختلق ، لأنه عالم متفرد ومتميز وتبرز فيه لذة النص وسلطته وهيمنته . وأن المبنى القصصي في المجموعة يؤدي وظيفة رمزية – دلالية داخل النص ، وأن لذة النص تسنح المجال الواسع للأنعتاق والتجاوز وبناء الصور العقلية التي تتشكل اثناء القراءة لبناء رؤية جمالية وانفعالات جمالية عند القاريء .
واغلب قصص العبادي تشتغل فيها الذاكرة وتعتمد عليها لأن الذاكرة عنده نوع من المعرفة – وعياً جمالياً – التي تكون وسيطة لدمج الماضي بالحاضر ، وخلق معادل موضوعي بينهما ، لأن السرد القصصي " لايحقق معادله الموضوعي الأ حين يتمكن القاص من ايجاد نظام عالٍ للسرد تضمحل فيه المسافات بين الماضي والحاضر ولايعود بوسع القاريء أن يميز بين اللحظتين " 3 ، وبنية الذاكرة تتحرك بحرية تامة داخل النص ، تعمل على تشكيل تأثيرات جمالية دون لفت انتباه القاريء مع انها – أي بنية الذاكرة – وعي تاريخي مكثف مضغوط في اللحظة تلك ، وانحسرت قصصه بين جانبين ، الحس الأنساني المرهف وحميمية الارتباط بالواقع الحقيقي والواقع المتخيل .
عند قراءتي لنص عشاق فيرونيكا ، اتذكر فورا لوحة " الحرية تقود الشعب " للفنان العالمي يوجين ديلاكروا مع مقاربة بينهما ، واللوحة تعتمد على حاسة النظر ، " فالتميز البصري المغتني المتزايد غنى ، يلتقط موضوعاته الخاصة ، ويصبح فعالية خاصة ، تمارس لذاتها " 4 ، وتمثل اللوحة امرأة بيدها سارية علم وباليد الاخرى تحث الجمع على السير ورائها الى الثورة ، انها الحرية ، انها الأنثى الخالدة ، المشابهة لـــ فيرونيكا التي تقود ولا تنقاد ، ازلية ، موجود في ( خرائب واطلال المدن الندثرة – ص 12 ) . ويقوم النص على ازاحة الواقع الحقيقي وتنحية سيادة المنطق ، لتأسيس واقع فني جمالي يسوده اللامنطق ، والتركيز على الواقع الجمالي الذي يحدث نتيجة تفاعل النص مع القاريء والمزاوجة بين الواقع والحلم .
وفيرونيكا هذه ( ساحرة- عاشقة – شبقة ، ص 9 ) بمعنى أنها أسطورة ، رومانسية ، حسية ، فأن " الحس الجمالي (( او مجموعة الدلالات الجمالية )) يتصل هكذا تاريخياً بالحس الطبيعي " 5 ، وفيرونيكا لا تظهر في النص ابداً الا من خلال حكايات الراوي ، وهذه الصورة تمتلك طابعاً ذا دلالتين – رمزيتين ، الاولى الأنثى ، والثانية الحرية ، انهما كـ صورة ورق اللعب وجهين متقابلين في جميع الأوضاع ، وعشاق فيرونيكا قصة شعرية محملة بالرموز والاشارات الأسطورية ، قصة البحث المستحيل عن الحرية الأنثى المطلقة ، ومدى انسحاق الفرد ، والبحث عن القطب الوهمي رغم أن الانسان هو قطب العالم ومحوره ، والعشق في الحكاية يتدفق من كل الفتحات العالم وشقوقه ، مخترقاً المعقول ليصبح عشقاً خرافياً ،كوحش طيبة الاوديبي ، ويستمر القاص في سرده لتحولات العشق وعملياته ، التي ترتكب مع فيرونيكا تحت جناح اللذة(حبك هو الهدف الذي انطلقنا اليه- ص 13) ، ان النص يتميز بشعرية عالية لامتلاكه تجربة ذات مسارين حسية / طبيعية و فكرية / تاريخية الداخل اليهما يحترق بهما .
في فيرونيكا لانتمكن من الامساك بالزمان ، فالزمن فيها متداخل ، فكل الحقب تظهر مرة واحدة في كل مرة اثناء السرد ( لقد تجزأت شخصيتها وتحولت الى شظايا متماثلة تحمل كل شخصية منها نفس الاسم الحبيب )ص 15ومن خلال اقتران الحكاية بالخرافة يتشكل زمن داخل النص تتعاقب فيه السرود واللحظات الشعرية ، والزمن فيها ليس الا وهما معلنا لخداع القاريء والزمن الحقيقي موجود خارج النص ، وراوي الحكاية ليس وظيفته القص فقط بل انه الشخصية المحورية في الحكاية ، فهو يقص الحكاية ، وماحصل له من مغامرات مع فيرونيكا عبر العصور ، وهذا مالم نراه في قصة " زو - العصفور الصاعقة " لمحمود جنداري فالراوي يقص الحكاية فقط ، ولايكون مشاركاً في نسيجها ، انه خارج عملية السرد الحكائي ، ولكنهما – اي القصتين – تشتركان في تشظي الزمنية والمبنى الحكائي .
إما قصة اقاليم قصَية – اسم المجموعة – فهي قصة اكثر التصاقاً بالواقع ، تبتعد عن الفانتازيا التي في فيرونيكا ‘ انها تداعيات رجل يحتضر كـ ( طيور السنونوالوافدة من اقاليم قصَية ) ص 18 ، تداعيات تطفو الى سطح الذاكرة ، لتكون المشاهد الاخيرة لهذا الرجل ، ونلاحظ هيمنة الذاكرة على النص بشكل تداعيات لتكون محوره ، لتكون حقيقته الانسانية ، وينحصر عمل الذاكرة في استحضار صور المرأة الحبيبة ، واللحظات الشعرية متسقاً مع اللحن ، ويجعل غازي العبادي اللحن الذي يعزفه الشاب هو الومضة الخاطفة لللحظات الاخيرة ، فحالما يتوقف اللحن ، تتوقف حياته وتنطفيء ، فالقاص خلق تناسقاً بين اللحن والحياة ، تناسق هارموني ، فلا وجود للحياة خارج محيط اللحن ، الذي اصبح الممر الذي يربطه بالعالم ، وبفضل الطبيعة القصدية اللاظاهرة الموجودة اصلا في النص الحقيقي وليس في النص الضمني .
وجمالية النص تكمن في تداخل أزمنة اللحظات التي ترافقها عملية تحويل وتتناوب ، فاللحظة – الذاكرة انبعثت وحلت محل اللحظة – الراهنة الشبه ساكنة قياساً الى اللحظة – الذاكرة ، وبين هاتين اللحظتين المتداخلة حينا والمتناوبة حينا اخر، استجمع الرجل المسن كل تاريخه لاقتطاع جزء منه ، يجعله يطوف في فضاء ( مقهى نشتمان تحت عرائش العنب ) ص 21 ، هذا الاسترجاع يعمل على انسجام اللحظتين وتوحيد فضاءهما فهو – أي الر جل – في كلتا اللحظتين يكون خارجهما ، لان اللحظة – الراهنة تبذل مجهودا شاقا لاحتواء اللحظة – الذاكرة ، انها المعاناة المزدوجة التي تقف خارج الجسد ، لتشكل جدلية متناغمة بين الاذن والموسيقى، ومن هذا التداخل بين الاذن والموسيقى التي تكون تعبيرا خارجيا يتكون المعنى الأنساني ، لان المعنى الانساني ينصهر مع المعنى المحسوس معطيا اياه المعنى الجمالي .
تكون مضامين بعض قصص غازي العبادي ملخصة و موجزة في نهاياتها مثل قصة (الرجل الشفاف والمرأة المناسبة) التي تقول بعد عشر سنوات زواج غير مشترك ، لم تتحقق مصلحته (هو يريد شيئا وهي تريد شيئا)ص 25 ، زواج غير متوافق ، زواج هيكلي ، زواج خال من المحتوى الانساني ، ويسافر الى شمال الوطن للاستجمام ، يقابلهما رجل غريب يقدم لهما المساعدة ، ويجلب لهما مصورا يلتقط الصور مع صور منفردة لها ، وهي تبتسم ، وفي اليوم التالي تكون المفاجأة حيث يرى الزوجان في ساحة البلدة ، اللوحة الخشبية الناقصة الوجه لامرأة ترتدي مايوه فاضح بشكل مثير ،قد وضع لها وجه ، والتف حولها الرجال قبل الشباب ، ولكن وجه من ؟ انه وجه المرأة- الزوجة ، وهذا الفعل اللاأخلاقي لا يفاجيء المرأة ولايجعلها تغضب ، بل تفرح فرحا طفوليا بهذا الفعل وتغتبط وتكون مسرورة ، والرجل – الزوج يستسلم لنزواتها هذه :
( وعندما نظرت الى وجهها في اللوحة ابتسمت ابتسامة عريضة !
- ياله من رجل رائع .
وقد وجدتني اجاريها مستسلما !
- ياله من رجل شفاف !! لقد وجد المرأة المناسبة ) ص 37 .
الرجل الغريب إستغلها ابشع استغلال ، ولكن هي قد حققت ما تريده دون ان يدري ذلك الرجل الغريب ، فالصدفة لعبت دورها تحت ظروف موضوعية وذاتية ، ومابين الاستغلال والشهرة ، مسخ الحس الانساني الذي يربط الافراد لانه موجود في طبيعة اصبحت لا انسانية .
وأغلب قصص المجموعة تشترك في سمات معينة متسقة من خلال :
- وحدة كثافة الصور الغرائبية .
- وحدة البيئة القصصية ووسائل التعبير الفنية .
- وحدة الرؤية الفكرية .
- وحدة الدلالات الرمزية .
- وحدة الفضاء القصصي .
ولتدليل على ذلك نقتطف النصوص التالية لتعطينا فكرة واضحة عن ماجاء آنفا :
( الدموع التي اخذت تذرفها بغزارة حتى بللت خديها وعنقها وصدرها ثم تكونت بركة تحت قدميها ، تحولت فيما بعد الى بركة اكبر ) ص 48
قصة طوفان اخر
( وقد نفجت منه عقارب صغيرة بدت مثل دود ، بكل الاشكال والاحجام والالوان وصارت تدب في كل الاتجاهات ، ففر الناس مذعورين ) ص 71
قصة اوان العقرب
( كان مكان الطعنة مثل وردة حمراء ينز دما بلون القار غمر صدري ، غمر الفراش والسرير ، وغاصت به الغرفة ) ص 87
قصة وخزة دبوس
عند دراستنا لهذه النصوص ، نحصل على صور قريبة جدا من فن الكاريكاتير بمعنى العمل على تضخيم الفعل القصصي الى درجة تكون لا معقولة ولا واقعية ولكنها واعية ، وهذا يجعلها محتفظة بالواقع ومسيطرة عليه ، وهذا الفعل لا يستطيع ان يفلت الى الوهم او الخرافة المحظة ، بل يكون ضمن السحرية والواقع الفني ، أي قيام القاص غازي العبادي بأسطرة الواقع الذي هو واقعاً عمليا اجتماعيا ، واحساس القاص بحاجته في الخروج نت ذاته بهذه الاسطرة ، ليجد فيها صورا متمثلة عن العالم والمجتمع وحياته الخاصة وليحدد وعيه تجاه الصيغ الاجتماعية لاظهار " بنية المجتمع المكونة من بين الناس " 6 .
في قصة ( رمل اصفر ) يتساءل الراوي ( لااحد يعرف لماذا يكون الغبار الذي يجتاح المدن أصفر؟ ) ص 97 ، هكذا يبدأ القاص قصته ، بتساءل رمزي- تأويلي ، يدخل ضمن نطاق البنية الفكرية ، ما المقصود من اجتياح الرمل الاصفر المدن ؟! .
بدءاً أقول ان " في كل ابداع هاجسا سياسيا معلنا او مبطنا ليس ثمة ابداع غير سياسي ، أي خارج التاريخ " 7 ، لنعمل على خلخلة وتفكيك هذه الرمزية التي تحيلنا فوراً الى البنية الواقعية – الاجتماعية – السياسية ، الرمل الاصفر ( يأتينا من الصحراء ) ص 97 ، ان مفهوم الصحراء يأتي هنا كاستعارة ومجاز ، رغم تماثل المفهومين الواقعي والمجازي ، فهو فضاء يتدفق منه الموت ، يتدفق منه البربروالمغول ، مكان يمثل اللامدنية وتحكمه علاقات لاطبيعية ، لا انسانية ، فماذا يعني هذا في آلية القص عند غازي العبادي ، يعني الايديولوجية اللاانسانية ، يعني الفكر الرجعي ، يعني التبعية الثقافية ، وكل ماهو ضد سعادة الانسان .
وتم تحقيق وحدة المعنى بواسطة البنية الرمزية والبنية السياسية ، فهي متوحدة في المستويين الداخلي والخارجي ، تحكمها جدلية – تأويلية – قصدية للمعنى القصصي التي تظهر في فعالية القراءة .
اخيرا رغم ان هذة القراءة لمجموعة ( اقاليم قصَية ) تحتاج مني لوقفة اطول نسبيا ، لان غازي العبادي ، كاتب متميز ، يمتلك تجربة قصصية عميقة في هذا المجال ، يمتلك ادواته الفنية وتقنيته ورؤياه الخاصة ، الا ان هذه القراءة قامت بعملية أستنطاق للمجموعة التي تكشف عن معاناة شخوص قصصها ومايرافقها من إحباط وقهر واستلاب .. انها تجربة موشومة في القصة القصيرة العراقية .
الهوامش :
1 – د . محمد حافظ دياب – سوسيولوجيا الادب ، ص 34 مجلة المنار ، العدد 57 ايلول 1989 .
2 – محمد بن عياد – التلقي والتأويل ، مجلة الاقلام العدد 4 آب – ايلول 1998 .
3 – د . مهند يونس – توقعات الوعي وبناء الشخصية ، ص 97 المصدر السايق .
4 – هنري لوفافر – علم الجمال ، ت محمد عيتاني ، دار الحداثة ، بيروت ، ص 39 .
5 – المصدر السابق ، ص 39 .
6 – جورج لوكاش – التاريخ والوعي الطبقي ، ت . د . حنا الشاعر ، دار الاندلس ، ط 2 ، بيروت ، 1982 ، ص 155 .
7 – نجيب العوفي – جدل القراءة ، دار النشر المغربية ، الدار البيضاء ، 1983 ، ص 128
• غازي العبادي – اقاليم قصَية ( قصص ) – دار الشؤون الثقافية ط1 بغداد ، 2000








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا