الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفنان التشكيلي عدنان شينو - الحنين الخلاق

منير العبيدي

2005 / 7 / 6
الادب والفن


أقيم في العام 2002 معرض مشترك على قاعة نادي الرافدين العراقي في برلين , وكان الفنان التشكيلي عدنان شينو أحد اربعة مشاركين فيه , وكانت هذه هي المرة الاولى التي أشاهد فيها أعمال هذا الفنان , وقد كتبت في حينها في التقديم لهذا المعرض ما يلي : " تكويناته , في الغالب متماسكة ذات بناء فني متين . تبرز الكتلة الرئيسية في أغلبها ـ وهي مركز الثقل في لوحاته ـ على خلفية هادئة متطامنة تفتح كوة على ذكريات جميلة أختزنتها ذاكرته من مواطن طفولته وشبابه , كردستان الساحرة . تتموج ألون وتكوينات شينو بتناسق موسيقي وإنسيابية .. ألوانه وتركيباته مرتبطة بشكل وثيق , بوعي أو بلا وعي , بألون الملابس الفولكلورية والتراث الكرديين . ورغم الفترة الطويلة نسبيا التي قضاها في الغربة فانه لا يزال , بفنه , مرتبطا بوطنه . إنها نوستالجيا " الزمكان "
" إن هذا النوع من المحلية هو الطريق الامثل نحو العالمية " .

* * * *

هذا الحنين للماضي ( زمنياً ) وللمكان المغادَر ( مكانياً ) , يسلك لدى عدنان شينو مسالك سرية وصولاً الى التعبير المتفرد , أنه " نهر نابض تحت الارض " يذكّر بغموض البريكان في قصيدته التي تحمل نفس الاسم . فإذا كانت " النوستالجيا " هي الوقود المحرك لدى الكثيرين من الفنانين والكتاب , وخصوصا لدى أولئك الذين أقتلعوا من جذورهم على غرار عدنان شينو , فان الاشتراك في نقطة الانطلاق لن يتمخض عن نفس النتائج اتوماتيكيا . فبعض أنواع " النوستالجيا " مضلل مخادع , يدفع الانسان ـ الفنان الى الخدر , الى الحلم السلبي الكسول , وبعضها خلاق , يحول الحنين الى جهد إبداعي منتج , وهي كما لدى شينو إعادة صورية لتركيب المكان المستعاد , في الزمان المستعاد , من خلال مرشِح الذات الانتقائية عالية التعقيد والحساسية , عبر تسامٍ إبداعي .
ان الغربة لم تطفأ جذوة الانفعال إزاء عناصر الجمال المحلية المزروعة في أعماق ذاكرته و وعيه وإنما على الضد من ذلك ازدادت لديه إشعاعا واتقادا . كما لم تسرق الغربة من عدنان شينو مواضيعه الاثيرة رغم إغرائها الذي لا يقاوم إلا في القليل من إعماله التي عالج بها موضوع الانسان , وهو حتى في هذه الحالة لم يستطع التملص تماما من جذوره ومرتكزاته , فألوانه هي هي وكذلك تكويناته , وإن إختلف الموضوع .

* * * *

تروي سيرة عدنان شينو الشخصية انه من مواليد العام 1963 في مدينة ئاميدي ( العمادية ) ـ كردستان ـ العراق , تخرج في العام 1986 من معهد الفنون الجميلة في بغداد وهو في الوقت الحالي عضو جمعية الفنانين المغتربين في أوربا Eu –Man)) وعضو جمعية الفنانين التشكيلين في برلين , أقام عدنان شينو عشرة معارض شخصية في العراق وخارجه وفي العشرات من المعارض الجماعية في العراق والمدن الاوربية وهو مقيم حاليا في العاصمة الالمانية برلين .

* * * *

يتجلى الماضي المستعاد , لدى عدنان شينو , بطريقته الفريدة الخلاقة , بشكل مفردات مستقاة من ألوان الصناعات الشعبية الكردية , وخصوصا الملابس والبسط , وهي لا تعرض نفسها في اللوحة بطريقة سلبية , أي بطريقة المحاكاة , إنما تعبر عن نفسها من خلال تأويلات لونية تنحو منحى تجريديا , ففي لوحة ( شونار ! ) يعرض علينا شينو كتلة صلبة ثلاثية الابعاد , كأنها حجر بناء منتزع من جبال كردستان مرسوم على خلفية سماء ربيعية تشوب صفاءها سحبٌ خفيفة , أُنتزع من هذا الحجر ثلاثي الابعاد شكلٌ مجسمٌ لتفاحة , أولا على شكل فراغ في الحجر , كنافذة على شكل تفاحة تطل على مشهد طبيعي , افق من وديان كردستان يشق طريقه فيه نهرٌ وديع , وتحده عند الافق جبالٌ قصية .
بانتزاعه شكل التفاحة من هذه الكتلة الصخرية , كرر عدنان شينو شكلها مرتين , الاولى سلبية على شكل تجويف في الحجر قام بوظيفة نافذة , والثانية ( إيجابية ) ملموسة وضعها على سطح الكتلة ثلاثية الابعاد , فاذا كان قد أستلها ليعطينا تجويفا يقوم بوظيفة نافذة , تطل على مشهد طبيعي كردستاني صميم , فان ثمة سؤالا يطرح نفسه : لماذا أخذ التجويف كشكل سلبي أو إيجابي , على حد سواء , شكلَ تفاحة دون غيرها ؟ لماذا هذا الشكل الذي رََمَزَ , منذ الزمن السحيق , وفي كل الميثولوجيات ( الشرق أوسطية ) الى الاشارة مغرقة القدم للخطيئة الاولى التي تعيد إنتاج نفسها الى الابد؟ هل لأنه يريد القول : ان إطلالة على الوطن حتى وإن كانت من خلال كوة الذاكرة هي محرّم آخر ضمن قائمة المحرّمات الطويلة ؟

* * * *

تتنوع مواضيع اللوحات لدى عدنان شينو , ولكنها تبقى موحدة برابطة وثيقة من اللون والشكل الذي تتلبسه الاشياء والاشخاص , بغض النظر عن موضوع اللوحة , وقد تجاوز شينو التكاملية اللونية الانطباعية التقليدية , لصالح تكاملية أكثر شفافية : شبكة أثيرية من الالوان الوسطية المتناغمة , وتجنّبَ التونات الحادة والتضادات والدُكنة , مما يعكس مزاجا تفاؤليا وإيمانا قويا بالحياة , حتى في تلك اللوحات التي تتناول موضوعا مأساويا على غرار ( حلبجة ) وضحاياها , وقد سار به ولعه باللون الى إنجاز لوحات تجريدية , يأخذ فيها اللون كامل انطلاقه وحريته مبتعدا عن أي شكل ملموس , ولكنه , وهذا أمر طبيعي , يبقى وبوضوح مرتبطا بذكرياته عن الوطن وطفولته , سواء نَحَتِ اللوحةُ لديه منحىً تجريديا أو تعبيرياً . فها نحن إزاء لوحة تمثل رابيةً أو تلاً صغيراً تحيط بها سماء قزحية الالون , ( سنراها , بالمناسبة تتكرر في أكثر من لوحة ) , سنجد أن هذا التل يخترقه مسلك يشبه النفق يقود الى الجهة الاخرى , ولكننا سنجد أيضا , إذا ما دققنا النظر , وجهين متقابلين مموهين مجسدين من خلال صخور النفق , هذه الثيمة تذكرنا , للوهلة الاولى , بلوحة ( سلفادور دالي ) ( وجه على الشاطئ ) , ولكن الجو العام للوحة ليس سورياليا كما لدى ( دالي ) , وانما رومانسيا مغرقا بعاطفة غير مألوفة بالنسبة لفن القرن العشرين و للفن الاوربي عموما .
وفي لوحة (مكان بدون عنف ) أو ( تخت ) والذي هو سرير النوم الخشبي , لا نجد هذا التخت , في البيت , كما هو مألوف , ولا في الحديقة أو فوق السطح كما نفعل أحيانا , ولكنه فوق رابية مسطحة , يتفجر منها ينبوع صغير دافعا مائه الرقراق الى جدول صغير يطوق التخت , أعطى شينو التخت حجما كبيرا , فهو تخت عملاق , ربما اراد ان يجنبنا ويجنب المشاهد أي تفسير واقعي للوحة , معطيا أياه حجما ضخّمتهُ الذاكرة , ذاكرة الطفولة . لعلنا نشترك جميعا في الانطباع التالي : ان جميع أشياء الطفولة كانت تبدو لنا أكبر من حجمها الطبيعي , ما أن نعود ونراها بعد أن ننمو ويتقدم بنا السن حتى نجدها أصغر حجما واقل إثارة . لقد أطاع شينو انطباعاتِ طفولته ولم يكذبها أو يعقلنها , ( يقول بيكاسو ان العبقرية هي طفولة مستعادة ) , في الافق البعيد هناك كما هو مألوف في أغلب لوحات شينو , جبال كردستان , ومرة أخرى نجد في الوادي نهر يتلوى حتى الافق كما نجد سماءاً متألقة . والسماء لدى شينو , والموجودة في أغلب لوحاته , والتي تعطي شعورا مريحا بالافق المفتوح ، قد تحتاج الى دراسة مستقلة , ولكننا سنبقى عند التخت المفروش بعناية والمغطى بملائة ( شرشف) غاية في النظافة والمطرز بزهور ونقوش اعتادت الأمهات أن يزينّ بها شراشف أسرة النوم . أثار عدنان شينو في هذه اللوحة الحنين للجو العائلي و الى لمسة الام , وجلسات العشية في طراوة صيف كردستان .
هذا ( المكان بدون عنف ) كما يريده شينو , بوضعه ( التخت ) على قمة رابية بين الجبال , أن يشمل الوطن بأكمله , هنا بوسع المرء أن ينام في الطراوة وهو قرير العين .
لقد أسس عدنان شينو لمفرداته السيميائية وكذلك لمجموعته اللونية الخاصة . و البحث اللوني هو إحدى المهمات الاساسية المطروحة أمام الفنان , وسيجد الفنان العالم الخارجي بتنوعه وثرائه وتعقيده اللوني أمام عينيه , وهذا العرض السخي الذي يكاد يكون لانهائيا , وغير قابل للاستنفاذ , يجعل مهمة الانتقاء اكثر تعقيدا مما يبدو للوهلة الاولى , لكن شينو حسم خياره , حين وجد أمامه المصدر الالهامي الذي لا ينضب , الالوان البدائية للفن الشعبي الكردي , التي تحمل بهجة وفرحا لم تطفئه المأساة , لشعب قرر بإصرار ان يعيش . فاذا كان العديد من فناني أوربا في القرن العشرين قد شدّوا الرحال باحثين , كما فعل ( كوكان ) , عن الفطرية وبراءة التكوين الاول , فان الفن الشعبي الكردي , بالنسبة الى عدنان شينو , في متناول اليد , نظريا على الاقل , وهو لا يحتاج من أجل ذلك , سوى أن يجلو الغبار عن ذاكرته , ويفعّل خزينها الذي , وكما ذكرنا , قوّتْ بريقه وأشعلتْ أوارَه نارُ الغربة .

* * * *

عالج عدنان شينو التاريخ البطولي , والمأساوي لنضال شعبه . هذا الموضوع , كفاجعة حلبجة , كان حاضرا في بعض أعماله , رمزاَ لما عاناه هذا الشعب من المآسي في سبيل حقوقه , إن شعور الفنان التشكيلي بالمسؤولية والواجب تجاه قضايا شعبه يبدو من البديهيات , ولكن المعضلة كامنة دائما في كيفية التعبير عن هذا الموقف بدون الوقوع في المباشرة والبوسترية والخطابية السياسية , لقد كانت هذه ( الفِخاخ ) هي الاكثرَ خطورة في طريق الفن التشكيلي , فتطورات الحداثة وما بعد الحداثة التي مرت بشكل خاص في أوربا , قد ( حررت ) الفن التشكيلي من الاهتمامات المباشرة بالهم السياسي والاجتماعي , ودفعت به الى المزيد من الاهتمام , بل والى التركيز حصرا , على البحوث الشكلية والاسلوبية , والى البحث التقني المفرط في التغريب حتى عن الشكل التقليدي لـ ( اللوحة ) . كانت آخر الاهتمامات التشكيلية بالهم الاجتماعي , بعد الفن ( الانساني ) لميلية ورمزية فان كوخ , هو فنٌّ مطلع القرن الماضي , القرن العشرين , الذي يصنف الآن باعتباره ( كلاسيكيا ) . وسلكت التطورات الراديكاليةالمتأخرة طريقين , ثانيهما على الاقل مثار جدل . هما :
1 ـ السعي الى ما يمكن تسميته ( اللوحة الخالصة ) والتي تعتمد على تكوينات ليس لها علاقة مباشرة بالاشكال المحسوسة وإنما تسعى الى توازناتها الذاتية القائمة على علاقة اللون باللون والكتلة بالكتلة .
2ـ أما الاتجاه الثاني و الاكثر تغريبا فانه يقوم على نفي مفهوم اللوحة , أي عدم إستعمال الكنفاس وبدائله أوالالوان وفرش الرسم , والقيام بدلا من ذلك على سبيل المثال لا الحصر , بعرض تكوينات مجسمة ثلاثية الابعاد تقرب من التصاميم المعمارية , هذا اذا لم نتحدث عن إتجاهات مفرطة في التطرف لبعض الفنانين الشباب .
ليس بمستطاع الفنان المغترب , كما هي عليه حالة عدنان شينو , أن يتجاهل تماما هذه الاتجاهات , حتى وإن لم يتفق مع مساراتها , وهذا ينطبق , على الاقل , على فن الاتجاه الاول ,
إزاء هذا الوضع ترتب على شينو حل هذه المعضلة الصعبة !
لقد لجأ شينو في لوحته المسماة ( حلبجة ) الى حل وسط , فهو قد قام بسرد حكاية , هي هنا حكاية المأساة , أي انه لجأ , في هذه الحالة الى الطريقة التقليدية , ذلك أن اللوحة المعاصرة ليس لديها زمن , وهي لا تسرد شيئا , ولكنه من جهة اخرى , لم يقف عند هذه الحدود الكلاسيكية , فقد نفّذ اللوحة على ثلاثة مستويات مستقلة عن بعضها , وبالرغم من أن اللوحة هي كنفاس واحد , فانها تبدو كما لو كانت ثلاثة لوحات مرصوفة امام بعضها الاخر , وبما ان كل واحدة هي اصغر من الاخرى , فإن المشاهد سيشاهد ثلاثة لوحات في لوحة واحدة . المستوى الاول رابية خضراء من روابي كردستان مطرزة بازهار النرجس تحدها عند الافق الجبال . اما المستوى الثاني , والمستقل عن الاول , فيمثل ضحايا المجزرة من الناس الابرياء والاطفال والشيوخ وقد ترامت جثثهم فارشة الارض حتى الافق , وقد سالت دماؤهم بحيث فرشت الارضية , وتجاوزت مستوى اللوحة الثانية وإطارها وتقاطرت الدماء على الحشائش الخضراء والزهور البيضاء , اما المستوى الثالث فيمثل نفس الضحايا وقد نهضوا من موتهم عائدين الى الحياة : أمٌ ترضع طفلها وجدٌ أو أبٌ يحتضن حفيدَه أو ابنه , أطفالٌ يلعبون بمرح وسعادة دون خوف , وفي الافق تعالت البنايات الشاهقة التي تشبه ناطحات السحاب , وفي السماء كانت خارطة القارات الخمس لكوكبنا مرسومة على السماء الصافية , وهذا الرمزالاخير لم يخدم اللوحة باي شكل من الاشكال .
ولكن عدنان شينو قام بمجهود واضح لانقاذ لوحته من السقوط في فخ البوسترية , بالالتجاء الى تعددية المستوى .
كان لدى عدنان شينو, في همه الانساني , مساران : الاول , وهو الاكثر ملموسية , مأساة الانسان الكردي , الذي كانت مأساة حلبجة التجسيد الاكثر تمثيلا له. وكان الثاني معالجة الهم الانساني العام , المشكلة الوجودية , بغض النظر عن المكان , ولكنها قائمة قطعاً في الزمان الحالي , المجتمع المعاصر. وقد كان شينو موفقا الى أبعد الحدود في معالجة علاقة الانسان بالانسان , المرأة بالرجل , ثم علاقتهم بالمحيط بلوحات تتخطى الحدود , ذات خطاب بصري شامل.


منير العبيدي
برلين 9ـ12ـ200








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اختيار الناقدة علا الشافعى فى عضوية اللجنة العليا لمهرجان ال


.. صباح العربية | نجوم الفن والجماهير يدعمون فنان العرب محمد عب




.. مقابلة فنية | المخرجة لينا خوري: تفرّغتُ للإخراح وتركتُ باقي


.. فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمين علي | اللقاء




.. بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء خاص مع الفنان