الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين الفصل الرابع شخوص على خطّ الموت 1/2

صباح الانباري

2014 / 3 / 19
الادب والفن


إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين
الفصل الرابع
شخوص على خطّ الموت
1/2

"اتخذتُ الشعر أسطورةً شخصيّةً حروفيّة أفسّرُ بها حاءَ الحياة والحُبّ والحرب والبحر.
لقد أتاح الشعرُ لي أن أسجّل نبضات قلبي كإنسان مشغول بالجمال الروحيّ
والجسديّ والطبيعيّ والسماويّ وأنا أنتقلُ بين البلدان والزمان والبحار.
إنّه بوصلة بحريّة ورمليّة وصخريّة وتكنولوجيّة. إنّه الموسيقى
الأسمى والأعظم والأجمل تلك التي تهتزُّ
لها الروح طرباً أو رعباً ويرقصُ لها
الجسدُ لذّةً أو فرحاً أو موتاً"(1)
أديب كمال الدين
*
تمهيد:
يتوسّط هذا الفصل حالتين: حالة ما قبل الموت، التي انتهينا من تفاصيلها، وحالة ما بعده التي سنشتغل، في الفصل اللاحق، على بيان موجهاتها. وفيه تتجلّى حالة الشخوص وهم يمرّون بتجربة الوقوف على خطّ الموت، أو على ضفافه، أو يحاولون عبور صراط التحوّل من حالة الماقبل إلى حالة المابعد. وهم عالقون في منطقة مربكة ضبابية وغامضة. أسسوا في حياتهم مجداً رفيعاً، وصنعوا لأنفسهم ألقاً ورفعة، وتركوا بصمات مميّزة في حياة البشر روحياً ومعنوياً، وقد شهد لهم القاصي والداني، وأسطَرَ حياتهم الشعراء والأدباء فتحوّلوا إلى رموز وأيقونات أدبية. فما هي طبيعة وحدود المنطقة الافتراضية التي تركوا فيها، أو وَجَدوا أنفسهم عليها في مواجهة كبرى مع الموت، أو دفعهم الشاعر إليها أملاً في اكتشافهم سرّ الأبديّة؟ قد لا تفصح القصيدة عنها بما يكفل الوصول إليها ولكننا نستخلصها من فعل القصيدة، ذلك الفعل الذي يتفوّق على سردها، ويتمظهر فيها كدال على فعل ظاهر أو خفيّ أو مخزون في ذاكرتنا الجمعية وعلى وفق هذا نستدل عليها في قصيدة (حارس الفنار قتيلاً) والتي تناول فيها الشخصية البديلة (حارس الفنار) لتنوب في حضورها عن شخصية الشاعر القتيل محمود البريكان من خلال فعلي الأمر (اقلبْ وحطّمْ) اللذين يشيران إلى الزمن الحاضر، الزمن الذي حدثت فيه عملية القتل أولاً ومحاورة بديل القتيل الذي لم تجف دماؤه البريئة بعد ثانياً. وفي قصيدة (دوستويفسكي) تجلّت لنا من خلال وقوف الشخصية منتظرة حبل الموت. أما في قصيدة (شهرزاد) فقد حددتها ذاكرتنا الجمعية، ومعرفتنا بوقوف شهرزاد على خطّ الموت وهي تروي لشهريار حكايات من ألف ليلة وليلة، في الوقت الذي يقف مسرور وراء الستار متأهباً لقتلها. وفي قصيدة (مهنّد الأنصاريّ ثانية) وهي رثاء موجّه للأنصاريّ الغائب كشخصية كُتِبت القصيدة لها وعنها من دون أن تكون لها أيّة شخصية بديلة تمثل حضورها داخل القصيدة. فالشاعر وحده الواقف على خطّ الموت يناديه محاسباً ومعاتباً وقد اكتفى الموت بالإصغاء لندائه المكلوم. وفي (قصائد الرأس) حددت القصيدة موقع الشخصية على خطّ الموت باستخدام ظرف الزمان (حين) في البيت الأول منها: "حين تدحرجَ الرأسُ المثقلُ بشهوةِ الدم". ومن الأمثلة المهمة في هذا القسم قصيدة (أخي الكافكويّ) التي صوّرت بدقّة عالية شخصية معطوبة ظنّت أنها ستموت الآن لكنها بقيت على خطّ الموت سبعين عاماً. وأخيراً اشتغل أديب كمال الدين على حروفٍ شخصنها، وأنسنها بطريقته الحروفيّة، وأوقفها على خطّ الموت لتساهم بإلقاء ضوء أو أكثر على سرّه المستحيل مثل قصيدة (تناص مع الحرف).
نماذج من شخوص على خطّ الموت
أولاًــ حارس الفنار:
في قصيدة (حارس الفنار قتيلاً) يخاطب الشاعر (الفنار) كراصدٍ وراءٍ ثبّت شهادته لمجريات ما حدث على الأرض أو البحر أو تحتهما وقد قتل حارسه الذي اتخذ منه أديب كمال الدين بديلاً إبداعياً للشاعر الراحل محمود البريكان مبتكر الشخصية الافتراضية (حارس الفنار) الذي قُتِلَ غدراً.
ونظراً لمحاولتنا التوسع في الاشتغال عليها كواحدة من القصائد المهمّة التي تنتمي إلى أكثر من قسم واحد من تقسيماتنا الثلاثة فإننا نضعها كاملة بين أيدي القراء الأعزاء أملاً في أن تكون قراءتهم العضوية الفاعلة لها ما يدعم اشتغالنا على موجهاتها الفكرية والبنائية وعلاقتها بخطّ الموت.
حارس الفنار قتيلاً
(1)
اقلب المائدة
وحطّم الكؤوس
فلقد قُتِلَ حارسُكَ أيّهذا الفنار!
حارسُكَ الذي أنفقَ سبعين عاماً
جالساً تحتَ عرشكَ الوهميّ
وفوقَ ساحلكَ الوهميّ
يرقبُ السفنَ وهي تغرق
أو تتيه في الأزرقِ اللانهائيّ
ويرقبُ الموتى وهم يراجعون
لوائحَ أسمائهم
في جهنّم باسمين يرتعدون
أو في الجنّةِ واجمين لا ينطقون.
نعم،
قُتِلَ حارسُكَ الذي اعتزل
كلَّ شيء مضى
وكلَّ شيء أتى
لينجو بجلده في بلادِ السواد.
وما عرفَ أنّه سَيُذبَحُ يوماً
ذبح الخرافِ بأرضِ السواد.
(2)
ما قتلته النفسُ التي سماؤها الشهوات
ولا تلك التي سماؤها الكراسي والسياط
بل قتلته النفسُ التي سماؤها الدينار
وخرجتْ من مسرحِ جثّته
بحفنةِ دنانير
لونها الدم
وأحداقها الدم.
فاقلب الكراسي والمائدة
أيّهذا الفنار
وحطّم الكؤوس
على مسرحِ النفوس.
فلقد ذهبَ الذي اعتزلَ وما نجا
والذي أنفقَ العمرَ كلّه
يخدمُ الحرفَ كلّه
ويبسمله كلّ ليلة
بالياءِ والسين.
ذهبَ بعد أن رقص
مع الزائر المجهول
عارياً كنبيّ
عارياً يحملُ بيديه الضعيفتين
رأسَه المقطوع! (2)
وسنبدأ اشتغالنا من نقطة العنونة (حارس الفنار قتيلاً) التي جاءت مبنية على عنونة سابقة لها (حارس الفنار) للشاعر البصري الراحل محمود البريكان. وقد عَدّ أديب كمال الدين هذه القصيدة واحدة من القصائد العظيمة في الشعريّة المعاصرة حدّ اعتبار مبدعها من شعراء الواحدة.(3) ليس مهماً أن نختلف مع أديب في تقييمه هذا أو نتفق معه لأنّ المهم في نظرنا واشتغالنا هو ما حققته قصيدته الاعتراضية، وما توصّلت إليه ككائن شعري له خصائصه المتفرّدة. وعودة للعنونة نجد ضرورة في تحديد شخصية الفنار ثمّ شخصية حارسه وعلاقتهما بالبريكان. فالفنار أو المنار كما تعارف العرب على تسميته هو ضوء أو سراج وهّاج يوضع فوق منارة أو برج مرتفع تسهل رؤيته من قبل السفّان (ملاح السفينة) فيتجنب بوساطته الخوض في المناطق الصخرية المهلكة، أو الممرات المائية الخطرة. وقد وظّف لكل فنار حارس يقوم بالحراسة، والصيانة، والإدامة. أما من الناحية الشعريّة فهو البديل، والرمز،
والدال، والرقيب، والشاهد، والرائي لمجريات الحياة، والحافظ لها، والقائم على سلامتها، والخالق لمباهجها. وقد وجد البريكان نفسه ممثلاً لها أو وجدها ممثّلة فيه فالفنار هو صرح التجربة التي خاضها على مدى سبعين عاماً حارساً لها، وحاضناً لمكابدتها، ومبتكراً لمباهجها. وعلى هذا التماثل قامت قصيدته (حارس الفنار) ثمّ جاء أديب كمال الدين فأضاف لها ما يميز حال الحارس (قتيلاً) لتصبح التسمية الكاملة الجديدة (حارس الفنار قتيلاً).
تبدأ قصيدة (حارس الفنار قتيلاً) بجملة فعلية أمرية: "اقلب المائدةَ وحطّم الكؤوس" كرد فعل صاخب لفعل تمهيدي هادئ ورد في مطلع قصيدة البريكان (حارس الفنار):
"أعددتُ مائدتي وهيّأتُ الكؤوس
متى يجيء الزائرُ المجهول؟"(4)
وربطاً بين العلّة والمعلول فأنّ الشاعر يخفّف من طبيعة الأمر بجملته السببية: "فقد قُتِل حارسُكَ أيّهذا الفنار" العلة والمعلول هنا يشكلان البسملة الدرامية التي يبرر دراميّتها فداحة فعل قتل البريكان مطعوناً بسكين، وسلسلة طويلة من الموت غرقاً على مدى سبعين عاماً من الرصد، والمشاهدة. فهل كان من الطبيعي جداً أن يكون الفعل هادئاً، وردّه صاخباً؟ وما الذي جعله يخرج (كَرَدٍّ) عن مسار حكمته الراسخة؟ لقد هيّأ البريكان مستلزمات الضيافة، وجلس منتظراً الزائر المجهول بقناعة وحكمة تامتين فما الذي استفزّ أديب كمال الدين، وحرّك في دخيلته كل هذا الغيظ والغضب وهو المؤمن بحتمية الموت وحقيقته المطلقة؟ لنطرح السؤال بطريقة أخرى فهذا السؤال يبدو كما لو أنه يريد الحق الذي يُراد به الباطل: لو كان الموت قد حضر كزائر في ضيافة البريكان بالشّكل الذي أراده وصرّح به في قصيدته (حارس الفنار) فهل سيستشاط أديب غضباً؟ إذن لماذا كان ردّه عنيفاً وصاخباً؟ يجيبنا مطلع القصيدة لأنّ الحارس سقط مغدوراً به، ومطعوناً بسكين آثمة اخترقت جسده النحيل.
لقد اختار البريكان بإرادته عزلتَه في أيّامه الأخيرة، (والعزلة في جوهرها شكل من أشكال الغياب) ولم يبقَ له ما هو أكثر أهمية من الانتظار بحكمة العارف والمُجرّب الذي خبر الحياة وأطلق طيور حكمته فيها، ورأى إلى الموت كما لو أنه استكمال لمسيرة طال أمدها وآن أوان بدئها من جديد. أراد أن يغنّي وحيداً وبعيداً أغنيته الأخيرة ليستسلم بعدها لحكمة الموت، ولم يحسب أن قاتلاً ما سيحطّم عزلته ويحيله إلى جثة هامدة قاطعاً عليه طريق انتظاره للزائر المجهول.
إذا اعتبرنا ما تقدّم بمثابة التمهيد، أو الجزء الأول من المقطع الأول من القصيدة فأن الجزء الثاني منه شكّل فكرة القتل وتأكيد وقوعها. وفي هذا كلّه استلهام مشرق لدرامية موت الشاعر محمود البريكان الذي أهداه أديب كمال الدين هذه القصيدة.
في الجزء الأول من المقطع الثاني تضع القصيدةُ أسبابَ الموت المتوقعة وهي تخالف السبب الفعلي لموت حارس الفنار كمبررٍ لتكرار فعلي الأمر (اقلبْ وحطّم) الذي بدأ بهما في مقدمتها، وتوكيدٍ لاعتزال الحارس كل شيء من أجل النجاة وما نجا. وقد أرادت من نفي موته على يد السلطة أو بدافع الشهوات أن تحدد الدافع الحقيقي لموته (السرقة) ليؤكد مدى فداحة قتل شاعر كبير مثل البريكان مقابل الحصول على بضعة دنانير منقوعة بدمٍ إنسانيّ بريء.
وفي الجزء الثاني ـــ وهو جزء رثائي تفرّد في تمجيد الحارس، الذي خدم الحرف وبسمله طوال حياته، وذكر مآثره، ورحيله المفاجئ، وتساميه، ورفعته وترفّعه عن الدنايا. لقد رحل الحارس كرحيل الأنبياء والقديسين: "ذهب بعد أن رقص.. مع الزائر المجهول.. عارياً كنبيّ".
القصيدة إذن بدأت بفعلي الأمر الأعنف مواجهة للموت (اقلبْ وحطّم)، وانطلقت من نقطة بدا الشاعر فيها منفعلاً وغاضباً ومحرضاً، وانتهت بما قدمته من رثاء، وتعظيم، وتقديس لشخصية حارس الفنار أو محمود البريكان. لقد رحل البريكان حاملاً رأسه المقطوع دون انتظار ولو لحظة واحدة على خطّ الموت فهل كان تصنيفنا للقصيدة قد وقع سهواً؟ لنرجع ثانية إلى القصيدة بمقطعيها لنرى أن الشاعر يملي أو يأمر الفنار ليقوم بفعلي القلب والتحطيم مرّتين، مرّة في المقطع الأول وأخرى في المقطع الثاني، احتجاجاً على وقوع فعل القتل بعد أن هيّأ الحارس المائدة، وأعد الكؤوس طوعاً لاستقبال زائره المجهول. ولا بد من الانتباه إلى أن استكمال الاستحضارات من قبل الحارس جاءت بعد تيقّنه من زيارة الموت له زيارة حتميّة لها أجلها أو هذه على الأقل هي رؤية البريكان للموت في قصيدته (حارس الفنار). لقد حدث القتل العرضي فأثار أديب كمال الدين، وأثار غضبه وانفعاله وتذّمره من الطريقة التي قُتِلَ بها الآن أو قبل الآن بلحظة زمنية قصيرة استناداً على قوله: "فلقد قُتِلَ حارسُكَ أيّهذا الفنار!" وبناءً على حالته النفسية والعصبية، وانفعاله وغضبه الشديدين الذي لم يسبقه رثاء أو ذكر لمآثر القتيل كما هو شائع اجتماعياً. لقد تأخر الرثاء إلى ما بعد المقطع الأول فالشاعر لا يريد تبديد غضبه بكلمات الرثاء، ولا تمييع انفعاله بمواساة الفنار فلم يمرّ من الوقت ما يكفي لاخماد ثورة غضبه، واطفاء نار انفعالاته. هذا فضلاً عن أنه لم يتطرّق إلى حالة القتيل فيما بعد وقوع القتل، واكتفى بذكر مآثره وبسملته للياء والسين، وخدمته للحرف.. الخ. الشخوص هنا إذن تقف على خطّ الموت معلنة احتجاجها عليه ونفورها منه في محاولة للحؤول دون وقوع ما سيقع، أو ردّاً على ما قد وقع. وبذا تدخل القصيدة ضمن تصنيفنا الصحيح (شخوص على خطّ الموت) المنفتح على أكثر من قسم من الأقسام الثلاثة ذلك أن الموت قد وقع أولاً ثمّ جاءت القصيدة ثانياً وهذا يعني ثمّة حد فاصل استغرق زمناً هو في حقيقة الأمر إشارة انتهاء دورة زمن الشخصية، ودخولها في دورة جديدة.

ثانياًـــ جان دمّو، فتى النقد
في (قنّينة جان دمّو) التي أسس عنونتها أديب كمال الدين على ثنائية (القنّينة/ دمّو) تتحوّل القنّينة إلى مُلازَمَةٍ أساسية في حياة الشخصية، وظلٍ ثابتٍ ملازمٍ ومؤثرٍ فيها من الناحيتين الروحية والشعريّة. لقد منحت القنّينة دمّو حياة مميّزة بالسخرية، وسلوكاً قائماً على الاستهجان، ظاهره التشرّد وباطنه الرفض. لقد رأى دمّو، وهو النازح من المدينة (كركوك) إلى العاصمة (بغداد) الحياةَ الثقافية تزدحم بالمزيّفين من الشعراء وأنصاف الشعراء، والإمّع من الأدباء وأنصاف الأدباء ولم يكن له بدّ من استخدام الشتائم بكل قبحها للنيل من شخصياتهم المجوّفة، وهي عنده على نوعين فمنها ما يستخدمه ضد المتشاعرين والمتهافتين على موائد السلطة وفتاتها، ومنها ما يكيله لأصدقائه أو المقربين إليه. لقد رفض دمّو الحياة الباذخة الزائفة بكل ما لها وما عليها، وارتضى بحياة التشرّد والصعلكة مادامت لا تمسّ ذرة من نقاء سريرته، أو شعرة من رأسه الذي لم تلوّثه المحاباة، والتملّق، واستجداء الوجاهة والجاه. ولم يبقَ له فيما اختار سلوة غير الخمر، ورفيق درب غير قنّينة الخمر، ولا غرابة، بعد هذا، أن يختارها أديب كمال الدين كأيقونة دالة على دمّو لتكون مبتدأ عنونته (قنّينة) المضافة إلى (جان دمّو) حصراً.
اشتغل أديب كمال الدين على هذه الشخصية باعتبارها ضميراً شعرياً جمعياً مستتراً "ضميرُنا المُستتر" الذي خصّ به الشعراء من أمثاله باستخدام الضمير (نا) المنسوبة اليهم كشعراء حصّنوا أنفسهم وشعرهم كما حصن دمّو نفسه وشعره من الانزلاق وراء الشهوات. وبما أن فعل الصعلكة عند دمّو أكثر حضوراً من فعل الشعر لديه كما يقرر هذا أديب في قصيدته قائلاً: "ضميرُنا الذي يكتبُ الشعر".. "دونَ أنْ نقرأ له قصيدةً واحدة!" لذا جعل من (المستتر) صفة لضميرهم الجمعي. وسيكون أكثر تحديداً عندما يصفه بحالة السكر المستمر " ضميرُنا السكرانُ ليلَ نهار" هرباً من واقع فجائعي وكارثي لا قبل لدمّو على تحمّله فيواصل الهرب من الصحو ونقمته إلى السكر ونعمته: "ضميرُنا الذي يصحو".. "كي يواصلَ فوراً سكرَه وشتائمه" وعربدته العابثة كطفل وديع حتّى اذا ما فرغ من (فكاهاته) فأنه ينام: "مفترشاً الرصيفَ أو الحديقةَ العامّة".
لقد فرغ من رفيقة دربه ومناهضتها للصحو، وصار لزاما عليه، بمقتضى حاجته الجسمية، أن يخلد للنوم. فهل ينام وحيداً بعيداً عن منقذته الوديعة؟ يقول أديب كمال الدين أنّه ينام لكن "قنّينةُ الخمرةِ قربَ رأسه". تقيه سموم أفاعي الأهل، ولدغ عقارب الجار، وذيول كناغر الغرباء. خارطة معاناة كبيرة ينوء بها على امتداد الطريق من كركوك إلى بغداد، ومن بغداد إلى عمّان، ومن عمّان إلى سدني حيث توقف به قطار الغربة، وقطار الروح.
هل كان دمّو صعلوكاً؟
لم أجد إجابة فورية على سؤال أسرع من الإجابة على هذا السؤال فبضغطة زر واحدة على الكمبيوتر تجد عشرات الـ(نعم) ولا تجد ما ينفي الصعلكة عنه على الإطلاق وكأنّ الجميع قد اتفقوا دون سابق اتفاق على حقيقة صعلكته الماثلة. فما طبيعتها وما يميزها عند دمّو؟ لنقرأ المقطع الآتي من القصيدة نفسها:
ضميرُنا الذي يكرهُ الطغاة
وشعراءَ الطغاة
والشعراءَ المرتزقة
والشعراءَ السَفَلة،
ويحقدُ على الزمانِ الذي لم يمنحْه
سوى وسام العربدة
وعصا الصراخِ بالحقيقةِ المرّةِ كالعلقم. (5)
يحدد أديب كمال الدين كنه الضمير (جان دمّو) في كرهه للطغاة، وشعراء الطغاة من المرتزقة، والسفلة، وغيرهم. وفي حقيقة الأمر فإنّ أديباً يتحدث عن كرهه الذي يشترك به مع دمّو، ولم يجاهر به كما جاهر دمّو به ليل نهار وبطرقه المحفوفة بالسخرية، والسباب، والشتائم التي يرى دمّو أنها المفردات الوحيدة التي تليق بكل المتشاعرين أو الشاعرين بعقدة الصغار. صعلكة دمّو إذن هي صرحه المشيّد من قرميد الحقيقة المرّة والمريرة، والقائم على أعمدة المجاهرة والبوح. مفتاحه الدفاع عنها، والاقتصاص لها. وباحته لغة لا يتمتع بها إلا جان ومن هو على شاكلة جان، وعلى شاكلة مَن نال وسام العربدة في عالم احتشد فيه المتصاغرون بهدوء مريب. وبثوا سمومهم في جسد الثقافة ببرود، وصارت لهم في كيانها صولات وجولات لم يقف في وجه تيارها الجارف شاعر كما وقف دمّو وهذا هو امتيازه عن سائر الصعاليك. لم يقوَ جان على تحمّل المزيد من مكابدة الثقافة وزيفها وهو يتقدم نحو شيخوخته بخطى واسعة. ولم يفهم تلك المكابدة أحد من الشياطين أو الملائكة، كما يزعم أديب كمال الدين، ولم يبقَ له في حياة آيلة إلى نهايتها سوى قنّينته المخلصة التي طبعت على شفتيه قُبْلتها الأخيرة تاركة إياه على خطّ الموت وهو يستشعر أثر قُبْلتها على شفتيه المشوبتين باصفرار باهت كاصفرار وجوه الموتى:
قنّينةُ الخمرةِ هذه
كانتْ صديقته الوحيدة،
صديقتهُ المخلصةُ التي قتلتْه
بهدوءٍ أسْوَد
وهي تقبّله بشغفٍ أسْوَد
قُبْلةَ الحياة.(6)
لقد نال دمّو أخيراً من قنّينته ما انتظره طويلاً وكثيراً. قُبْلة بلون الموت وهدوئه العجيب. إنها قُبْلة الحياة الخالدة.
ثمّة أكثر من عامل مشترك بين الشاعر جان دمّو، والشاعر/ الناقد عبد الجبّار عباس. فكلاهما أصدر مجموعة شعرية يتيمة، وكلاهما ذاق مرارة العيش، وشظف الحياة، وما أحنى رأسه لسلطة أو زمرة غشوم. وفي كليهما ما يجعل أديب كمال الدين شبيهاً بما يتحلّيان به من زهد وإباء، وترفّع عن الدنايا، وقبول بالحرمان، ورفض للترف والرفاه وبحبوحة العيش، وتمسّك بمبادئ الخلق الكريم، وحرص على فضح الزائف في حياتنا الثقافية، والسياسية، والاجتماعية، وقد نال كل منهم نصيبه من التغييب، والاقصاء، والنفي، والغربة. في الجانب الآخر نال عبد الجبّار عباس لقب (فتى النقد) من شيخ نقاد العراق د. علي جواد الطاهر تثميناً لجهده المبكّر في النقد الأدبي، وتقييماً لجعل كل أنشطته الفكرية والثقافية وقفاً على النقد حسب بعد أن توقّف طوعاً عن كتابة الشعر. كما نال بعد وفاته تكريم الطاهر له بتأليف كتاب عنه طُبع تحت عنوان (عبد الجبّار عباس.. ناقداً). وقد استلهم بعض الشعراء قصائدهم من وحي شخصيته وحياته التي عاشها بأمانة ونبل كبيرين فكتبوا قصائد مهمة مثل الشاعر موفق محمد في قصيدة (الجُبّ والعقرب) والتي جاء فيها:
(أقسم يا عبد الجبار
طيلة هذا العمر المرِّ
ومنذ عرفتك في غيابة هذا الجُبِّ
لم أتبيّن وجهك
فجاءني صوتك منذ اليوم الأول مشحوناً يتخثّر فيه الموت
فتأبطت جراحي
قلت : اصبر يا ملك الضيم
وتجرّع من هذا السمّ قليلا
فسيأتي بعض السيّارة
وسيصرخ واردهم : يا بشرى
فأجاب الصمت
وتوسدّنا الجُبّ طويلا).(7)

وكذلك الشاعر أديب كمال الدين الذي جعل من لقب عبد الجبّار عباس، الذي ناله عن جدارة ومكنة عاليتين في اشتغالاته النقدية منذ وقت مبكر من حياته الأدبية، عنونة لقصيدته من دون أن يدخل أي تغيير على عبارة الطاهر (فتى النقد).
بنيت قصيدة (فتى النقد)(8) على قول شعبي مأثور منقول عن عبد الجبّار عباس من ثلاث جمل لثلاث كؤوس تشكّل كلّ واحدة منها حالة من حالات انفلاته من مرارة الواقع، وكآبة الحياة، وعتمتها القاتلة:
بعد كأسه الأولى
سيبتسمُ فتى النقدِ قليلاً
ثُمَّ يضحكُ بصوتٍ مُجلجل.
وبعد الثانية
سيغنّي أغنيةً عن حرمانِه الأزليّ
وأشواقِه الهائلة.
وبعد الثالثة
سيرقصُ مثل زوربا
أو ربّما مثل الحلّاج
أو ربّما مثل طير ذبيح.
تمثّل الكأس الأولى صلة الوصل بين عالمين مختلفين: عالم الصحو، الذي كان دمّو يقاطعه دوما بسكرة لاحقة كما مرّ بنا، وهو عالم ذاق كل مراراته اللاذعة ولم يعد قادراً على تحمّل شجونه وآلامه. وعالم السكر الذي يأخذه من حيث يدري أو لا يدري إلى الابتسام والقهقة، والغناء والحداء، والرقص والمرح، أو إلى الشعور اللذيذ بالفرح، والنشوة، والتحرر من قيود تراجيديا حياته اليومية الرتيبة. في المرحلة الأولى يدبّ دبيبها حالما تصل إلى دماغ شاربها. وفي الثانية تعمل على تخفيف الأنشطة الدماغية. وفي الثالثة يتحرر الشخص من بعض المسيطرات القمعية فتتحرر الشخصية مما اعتادت عليه لتقوم بما ترغب به دون رادع لهذه الرغبة التي هي في الأصل رغبة مقمعة لا نعرف إلى أيّ اتجاه يشير رأس السهم فيها أإلى الفرح المطلق كما في حالة زوربا؟ أم إلى اليقين المطلق كما في حالة الحلّاج؟ والإجابة وحدها من يفسّر لنا لماذا يجهش بعض السكارى بالبكاء بينما يطلق بعضهم الآخر عقيرته بالغناء.
في المقطع الثاني تتقاطع إرادتان: إرادة الناقد/ الطفل عبد الجبّار عباس وإرادة الإمبراطور. الأول سعى إلى قول ما لا يُقال حتّى ولو لم يعقل قوله أحد وهو العارف أن لا أحد يقول ما يقول. والثاني أختار أبسط أنواع العقاب للأول، وهو العارف أنّ الأول جاء إلى العاصمة كي ينام بين أحضان مراجعها ومصادرها الجميلة، ودررها المعرفية الثمينة، وجواريها الشعريّة الحسان. أمر بطرده من بغداد التي احتضنت فتوته النقدية وإرجاعه إلى حاضنته الأولى التي تفجّرت فيها مواهبه الشعريّة والنقدية. في هذا المقطع يستعير أديب كمال الدين أو يدخل في تناص مع قصة ثياب الإمبراطور ليقول لنا إنّ الطفل الذي صرّح بعريّ الإمبراطور كان عبد الجبّار عباس وعليه استحق لعنة المملكة المبنية على خرافة الإمبراطور وأكاذيبه المنطلقة من داخل مصنع البلاط الرهيب:
أعادهُ في زمنِ الجوعِ والقهر
كي يرتدي قميصاً من العزلة
أسودَ أسود
ويموت سريعاً
كومضةِ نجم
بقلبٍ كسير
وعينين دامعتين.(9)

لقد كان فتى النقد طوال ذلك الزمن واقفاً منتظراً على خطّ الموت فما من أحد واجه الطاغية إلا وكان الموت له أبسط أنواع العقاب. أراد الطاغية لعبد الجبّار أن يموت ولكن بعزلة سوداء، وبعينين دامعتين، وبقلب كسير. مات عبد الجبّار عباس واقفاً ثمّ مات الامبراطور مستسلماً، وشتّان بين الميتتين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة


.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات




.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي