الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في الوحشية – الوجه الآخر للإنسان

نضال الربضي

2014 / 3 / 20
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم




أكتب ُ في وجه الإنسان الحضاري، المُحب، الخِّير، و أدعو للحب و التصالح. لكن يا ترى هل هذا فقط هو الإنسان؟ الجواب: لا، لنا وجه ٌ آخر، بشع، قمئ، وجه ٌ لمسخ ٍ عتيق ٍ في الدموية، مارد ٍ مُشوَّه ٍ محبوس ٍ في الأعماق، حين يخرج يُدمِّر ُ في وقت ٍ قصير ما يبنيهِ وجهنا الآخر في سنين بعشراتها و مئاتها و ألوفها.

أكتب ُ في هذا الوجه، و أتخذ عليه ِ دليلا ً و بُرهانا ً و حُجَّة ً معسكر الاعتقال ِ النازي أوْشافيتز ((Auschwitz. أقام النازيون هذا المعسكر في بولونيا و أداروه بواسطة ما يُقارب سبعة آلاف عضو ٍ من قوات سرب الحماية (أو قوات الدفاع) شووتْس تا فِيْ ل Schutzstaffel، ليكون َ مُعسكر اعتقال ٍ و إبادة Concentration and Extermination و ليخدم َ كَجُزء ٍ مما عُرف باسم "الحل النهائي" لليهود، حيث قُتل في أوْشافيتز حوالي 900 ألف يهودي، من أصل ما يقارب ست ملاين يهودي أبادهم النازيون، لكونهم "يهودا ً" فقط، أي أن هذا المُعتقل كان مسؤولا ً عن موت سُدس مجموع الضحايا اليهود.

كان هذا المعسكر مخصصا ً للسجناء البولندين في بدايته، حيث استقبل أول مُعتقل ٍ منهم في منتصف عام 1940، ثم تم "توسيع" مهمته ليستقبل سجناء ً آخرين من الروس (كعرق) و "شهود يهوه" (كدين) و مجموعات ٍ أخرى شكل اليهود 90% من مجموعها. بدأت عمليات الإبادة في هذا المعسكر في الجزء الأخير من عام 1941، بينما بدأ توافد اليهود في بداية عام 1942 و حتى عام 1944.

أوشافيتز هو عار ٌ حقيقي على الإنسانية، هذا ما نعلمه حين نقرأ في أحوال السجناء. يتم ُ أيقاظهم في الصيف في الساعة الرابعة و النصف صباحا ً (أما في الصيف فبعدها بساعة)، ليصطفوا و يتم عدهم مرات ٍ كثيرة بأسلوب ٍ عقابي ٍ إذلالي ٍ لا مغزى منه و لا هدف، ليبدأوا العمل في السابعة ِ صباحا ً و لمدة إثنا عشر ساعة ً متواصلة بدون راحة، ستة َ أيام ٍ في الأسبوع، إلى يوم "عدم العمل" الأسبوعي، و الذي هو كاسمه بالضبط "لا عمل" لكنه لم يكن يوم راحة، كان يوما ً للتنظيف الشاق و الاستحمام الأسبوعي.

الانتهاكات الإنسانية في أوشافيتز لم تكن جسدية ً فقط، لكنها امتدت إلى داخل الذات الإنسانية بكل خصوصيتها الثقافية و المُعرِّفة للهوية، حيث فُرضت الألمانية لُغةً للمراسلات، فالسجين يُسمح له أن يكتب لأهله، لكن بالألمانية فقط، و تخضعُ رسائلهُ للمراقبة و القراءة، قبل إرسالها. و كان السجناء الذين لا يُتقنون الألمانية "يشترون" خدمات الكتابة ِ من سُجناء آخرين يتقنونها بالخبزو الطعام. بؤسا ً فوق ألم و عذابا ً فوق بؤس.

صنّف النازيون السجناءَ بقطع ٍ من القماش ملونة، مُثبتة على الجاكيتات الخاصة بهم تحت أرقامهم، فكانت رُقعة قماش المساجين السياسين حمراء، أما رقعة شهود يهوة فبنفسجية، و المجرمون خضراء، و هكذا. أُعطئ هؤلاء البؤساء وجبات ٍ لم تتجاوز في مجموع سعراتها 700 سعر حراري (بينما الطبيعي للإنسان هو 2000 سعر).

صادق َ الرايخ الثالث أدولف هيتلر على خطة رئيس قواته الأمنية هيرمان جورينغ المعنية بتنفيذ "الحل النهائي لليهود"، و التي عنت إبادتهم كعرق، في نفس الوقت الذي تقوم القوات النازية ُ فيه بتطبيق مع يُعرف بـ "خطة الجوع" و هي الخطة القاضية بتحويل مؤنات العذاء للألمان، بهدف قتل 30 مليون من سكان المناطق الأوروبية التي يتم غزوها في ذات الوقت ِ الذي تدعم فيه الألمان لوجستيا ً. كان "الحل النهائي" هو الموت، و بطريقتين: الإبادة المُباشرة بالقتل، أو القتل تحت ظروف العمل الشاق الصعب للقادرين و لمن يُمكن استغلالهم في التصنيع الحربي لحين موتهم.

بعد إقرار هذه الخطة بدأ اليهود بالتوافد إلى المعسكر بالقطارات، حيث كان يتم فصلهم إلى قسمين: الرجال القادرين على العمل، و "الباقون"، هؤلاء الباقين كانوا: العجائز، النساء، الأطفال، الرجال غير القادرين على العمل بسبب المرض أو الظروف الشديدة.

كان القادرون على العمل يُنقلون إلى مقراتهم حيث يتم استعبادُهم كسُخرة، بينما "الباقون" يُطلب منهم المشي إلى "غُرف الاستحمام"، أما من لم يكن يستطيع المشي، فكان يتم أخذه إلى غرف خاصة ليتم قتله برصاصة فورية في الرأس.

الماشون إلى "غرف الاستحمام" كانوا يُعطون صابونا ً و ليفا ً ليستحموا، لكن تلك الغرف لم تكن غرف استحمام ٍ أبدا ً، كان اسمها فقط كذلك لكي تمشي إليها المساجين طوعا ً لتستحم، لكن حال دخولهم في هذه الغرف و تجمعهم يتم إغلاقها، ثم رمي عبوات غاز "زيكلون ب" ليبدأ الموت الخانق ُ البطئ في ألم و ذعر شديدين. كانت صرخاتهم تصل ُ للخارج، و لذلك كان الألمان يقومون بتشغيل الدراجات النارية و الدوس على بنزين محركاتها و هي ثابتة ٌ في أماكنها لكي يُغطوا على أصوات الموت الصاعدة من داخل "غرف الاستحمام". بعد عشرين دقيقة يُصبح الجميع أمواتا ً، و يأتي الحراس مُرتدين أقنعة الغاز ليسحبوا الجثث، و يذهبوا بها إلى المحارق للتخص منها.

اختار النازيون "عينات ٍ" خاصة من السجناء و خصوصا ً الإناث و التوائم للـ "اختبارات الطبية"، فكانوا يقومون باختبار فعالية أشعة X لإحداث العقم لدى النساء، أو يحقنون أحد التوائم بمرض ما، و بعد استفحاله و موت التوأم الأول يقتلون الثاني ثم يجرون فحصا ً تشريحيا ً لدراسة الفروقات بين التوأمين السليم و المريض و بالتالي معرفة أثر المرض .

كيف انتهى هذا الكابوس البشع؟

قُبيل نهاية الحرب، استشعر النازيون الهزيمة فكانت الأوامر أنه لا يجب أن يتم اكتشاف أي سجين حي، فتم إجبار 58 ألفا ً من المساجين على المشي تحت المراقبة الشديدة من بولندا إلى ألمانيا، بينما تم ترك ما يقارب 7500 سجين ضعيف ٍ لا يستطيع المشي، في المعسكر تحت الحراسة. مات الآلاف من هؤلاء "الماشين" قبل أن يصلوا ألمانيا، و بقي منهم عشرون ألفا ً حررهم البريطانيون، أما الباقون في المعسكر أي ال 7500، فقد مات منهم ما يقار من 600 إعداما ً أو مرضا ً و حرر الروس الباقين في نهاية الحرب.

أنشأ البشر ُ الأمم المتحدة حين اصطدموا بحجم الدمار و البشاعة الذين ولدتهما الحرب العالمية الثانية، و تعاهدوا أن يعملوا في سبيل الخير و الحب و الكرامة الإنسانية، لكنهم ما لبثوا أن أنشأوا مجلس الأمن، ثم أعطوا الخمسة الكبار "حق الفيتو" و نمت أجهزة المخابرات و الأجهزة الأمنية لتحمي الدول، ثم ثملت بالقوة، و تحصنت بالسرية و الحماية المطلقة، فأصبحت مخابرات الدول الكبرى هي ذاتها سبب إجهاض ثورات الشعوب الحرة و سبب استدامة ِ بؤسها، ثم نسيت الناس أوشافيتز و فظائع النازية، و حل الحلم الأمريكي بالحياة الفضلى مكان الكرامة الإنسانية القائمة على الأخوة و المساواة، و برز المسخ الأصولي الإسلامي كتابوت ٍ يقئ ما فيه من قلب التاريخ المظلم ليلتهم أوطاننا العربية، بينما أصبح ضحايا الأمس مجرمي اليوم في فلسطين الجريحة.

من يريد أن يغير العالم، عليه أن يحب، عليه أن يختار الحب و هو يدرك تمام الإدراك وجود الظلم و البشاعة و يدرك حجمها التام و الكامل و قوتها العظيمة، لكن عليه أن يؤمن أن الحب أقوى، و عليه أن يختار الحب. قلتُ: يختار الحب.

معا ً نحو الحب، معا ً نحو الإنسان!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الانساني فوق العادي
nasha ( 2014 / 3 / 20 - 22:22 )
لاخ العزيز لماذا شطب تعليقي الاخير على موضوعك السابق؟ وهل قرأته؟
لم يكن فيه اي لفظ او فكرة خارجة و اعتقد انت تعرفني ولو من وقت قصير.
شكراً


2 - إلى الأستاذ Nasha
نضال الربضي ( 2014 / 3 / 21 - 08:19 )
تحية طيبة أستاذ ناشا،

عدت ً للموضوع فوجدت أن التعليق المحذوف يحمل بجانبه عنوان: التحكم الحوار المتمدن، و هذا يعني أن إدارة التعليقات هي التي حجبته.

أنا لا أعلم ما هي سياسة السماح بالتعليقات أو حجبها، أحد المرات علقت على موضوع جلال الدين الرومي بتعليق أعتقد أنه جميل، فتم حذفه :-))))))

قرأت التعليق في البريد الإلكتروني حيث وصلتني منه نسخه، فوجدته عاديا ً، أنت مرحب بك دوما ً.

اخر الافلام

.. بايدن يخيب آمال الديمقراطيين خلال المناظرة الأولى أمام ترامب


.. تهديدات إسرائيل للبنان: حرب نفسية أو مغامرة غير محسوبة العوا




.. إيران: أكثر من 60 مليون ناخب يتوجهون لصناديق الاقتراع لاختيا


.. السعودية.. طبيب بيطري يُصدم بما وجده في بطن ناقة!




.. ميلوني -غاضبة- من توزيع المناصب العليا في الاتحاد الأوروبي