الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حافلة المسافر الفلسطيني وعلبة السردين

محمد أبو مهادي

2005 / 7 / 6
القضية الفلسطينية


أكثر من مئة وعشرين عائداً من معبر رفح الحدودي مع حقائبهم الكثيرة داخل حافلة مخصصة لخمسين مسافر، وقد مكث هؤلاء العائدين داخل صالة الانتظار أيام وليال عجاف، كان فيها مجرد الحصول علي قطعة كرتون للنوم عليها يعد إنجاز.

جو حار جداً، أطفال ونساء وشيوخ، مرضي اجروا عملياتهم الجراحية، وزوار من الطلاب والمقيمين في الخارج حضروا للقاء ذويهم وأقاربهم، المشهد لا يشبه علبة السردين كما اعتاد البعض علي وصفه، فهناك مواصفات وشروط لتخزين السردين في تلك العلبة، مثلا أن توضع في مكان بارد بعيداً عن الحرارة وان تكون فيها كمية محددة من الأسماك وان تحفظ في مكان صالح للتخزين بعد إضافة بعض المواد الحافظة عليها، ولا بد هنا من التذكير بان الأسماك لا تخزن في العلبة وهي علي قيد الحياة.

انه الشعور بالقهر الحقيقي، "وأعوذ بالله من قهر الرجال"، فلك عزيزي القارئ أن تطلق العنان لخيالك والتفكير في لحظة الفصل بين الموت والحياة لطفل لم يتجاوز العام من عمره وقد ازرق وجهه وبدأ الزبد يخرج من فمه، وتنظر في عيون أمه الملهوفة علي فلذة كبدها وهي تستغيث لإنقاذ حياة طفلها، ولا تستطيع إلا أن ترفعه بيدك المتشنجة إلي اعلي الحافلة علي أمل أن يحصل علي قسط من الأوكسجين يطيل فترة تنفسه، و في نفس اللحظة أن تجعل من جسدك سداً بشرياً لتحمي فتاً يافعاً اجري عمليه جراحية من ضغط من هم خلفك، وتقوم بإسناد رجل انهارت قواه البدنية من الارتماء علي أرجل سيدة فوق سيدة وبجوارهما سيدتين فوق بعضهما وممدد فوقهما طفل آخر، ثم تلتفت علي صراخ سيدة أخري تستغيث من اجل الحصول علي بعض الماء لرشه علي وجه ابنتها المغمي عليها، وتفاجأ بنفاذ ماء للشرب بعد نفاذ الهواء الصالح للتنفس حيث أن نوافذ الحافلة مغلقة بإحكام.

وصوت الصراخ ونداءات الاستغاثة غير مسموعة لمن هم خارج الحافلة، وعلي ما يبدوا أن هناك خللا فيزيائيا يعيق سماعهم للمسافرين المحتجزين في الخط الفاصل بين المنفذ المصري والإسرائيلي.

بجوارك حافلة أخري متحفزة للمرور متجاوزة للحافلة الأولي، وتقل من باتوا يعرفون "بمسافري التنسيق" وهم من الفلسطينيين الذين يتميزون بشارة الريشة فوق الرأس "المواطنين الأصليين" أو أصحاب البلد! بالإضافة إلي سيارات من نوع سفاري تقل فلسطينيي أل VIP، وعدد ركاب تلك الحافلة والسيارات اقل بكثير من عدد المقاعد الموجودة فيها، وقد شاهد ركاب حافلة "الرعايا" المئة والعشرين تلك السيارات والحافلة تتحرك وتتجاوزهم مما يعني المزيد من الانتظار، وأدركوا بان البقاء في مثل هذا الوضع لمدة ساعة إضافية سيؤدي حتماً الي المزيد من حالات الإغماء إن لم تكن الموت، فاخذوا بالصراخ والاستغاثة والضرب علي النوافذ حتى انتبه "المنسقين" الي خطورة الوضع وقرروا أن يزعجوا أصحاب الريش.

مشهد خطير لا يقل عن جريمة قتل أو الشروع في القتل ويتكرر باستمرار علي المعابر الحدودية مع دول الجوار.

بامكان أي مراقب أو كاتب أن يقف علي جانب أي معبر حدودي ليقرأ ويستمع إلي روايات مبكية، إنها روايات مخطوطة علي وجوه المسافرين المكفهرة وعلي ملابسهم المبتلة عرقاً وحقائب سفرهم الممزقة، هناك تشابه دقيق بين المسافر الفلسطيني والجندي العائد من المعركة.

اسرائيل سبب المشاكل كلها والتي خصص المجتمع الدولي لها مكانا فوق القانون، تقوم بإجراءات تتسبب بالأزمة التي تحدث علي المعابر، ولكن هل يعني ذلك أن لا يتم التعامل مع هذه الأزمة وإدارتها وتجنب أضرارها؟

بالامكان الاحتجاج أو الإدانة أو مخاطبة منظمات إنسانية دولية وسؤال المجتمع الدولي عن كيفية التصرف مع سيدة حامل ستجهض داخل حافلة أو في صالات الانتظار؟ ، كما يمكن الامتناع عن السفر وعن التفاوض وتحويل قضية المعابر إلي موضوع مهم ومحرج لإسرائيل التي تتحدث عن حقوق الإنسان وهذا اضعف الإيمان.

وإذا ما تحدثنا عن العلاقات بين الدول والحكومات و"مبدأ التعامل بالمثل" فبالامكان فعل الكثير، ولنا أن نتخيل عندما يعامل الإسرائيليين بالمثل لحظة السفر إلي دول الجوار ويحشروا في الحافلات وتعاق حركة طيرانهم المدني، ويمكثوا في المعابر والمطارات لأيام، وتحدد أعداد مسافريهم وأعمارهم، ويمنع بعضهم من السفر لأسباب أمنية أو مزاجية! .

بالامكان تنظيم عملية السفر والعودة بتكلفة بسيطة لا تتعدي ورقة تحمل رقماً وتاريخاً لكل مسافر يحفظ دوره ويطمئن لعدم مصادرة هذا الدور لصالح حملة بطاقات أل VIP أو مسافري التنسيق بالواسطة، وهذا في حال استمرار الجانب الإسرائيلي بإجراءات تقييد السفر.

مشاهد مفزعة تلتقطها ذاكرة المسافر الفلسطيني في كل المحطات وعلي كل المعابر، لا تشبه مشاهد معاناة الأفارقة في زمن الابرتهايد، أو المكسيكيين علي الحدود مع دول جوارهم، يدرك المواطن الفلسطيني أهمية أن تكون له دولة مستقلة ذات سيادة وإرادة علي المعابر والحدود والجو والبحر، ويدرك كم حجم حاجته للخلاص من كافة أشكال المحسوبيات والرشاوى، ويدرك أهمية أن لا يذبح ويذل ويموت بصمت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تعرف على تفاصيل كمين جباليا الذي أعلنت القسام فيه عن قتل وأس


.. قراءة عسكرية.. منظمة إسرائيلية تكشف عن أن عدد جرحى الاحتلال




.. المتحدث العسكري باسم أنصار الله: العمليات حققت أهدافها وكانت


.. ماذا تعرف عن طائرة -هرميس 900- التي أعلن حزب الله إسقاطها




.. استهداف قوات الاحتلال بعبوة ناسفة محلية الصنع في مخيم بلاطة