الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السياسة فى بلادنا بلا مقدمات ولانتائج

محمد السعدنى

2014 / 3 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


كلما طالعت المشهد السياسي العام بأحداثه ومفارقاته تبدو لي كما لو أن البلد وقع في أيدي حفنة من الهواة في مدارج السلطة، وأختزل غصباً في نخبة مفلسة مصطنعة بفضل إعلام يجيد مفارقة العقل واجتراح اللامعقول، وتذكرت النكتة كما رويتها لكم في مقال سابق.
كانت الصحيفة في يده وقد طواها علي صفحة الإعلان الذي أولاه اعتباراً فوق ماعداه. دلف في تؤدة وثبات إلي ردهة الاستقبال الفاخرة، وكأنه علي أعتاب أمر جلل، وفي إيماءة متعالية سأل عن مدير عام الشركة. كان محظوظاً إذ بعباراته المقتضبة وحسن هندامه بدا مهيباً ومؤهلاً لتجاوز كل مايمكن أن يصادف غيره من لجاجة موظفي الاستقبال وتعالي خدم المكاتب والأسئلة المقتحمة الباردة، فأشاروا علي الفور إليه، وتطوع أحدهم باستدعاء المصعد وفتح له الباب.
كانت جلسته في مواجهة مدير عام الشركة تشي بملامح رجل مهم استوجبت حفاوة المدير وترحابه، وقبل أن تكتمل ابتسامته بادره صاحبنا: أليس ذلك هو إعلانكم لطلب مدير إقليمي لفرع الشركة في روما، وقبل أن يجيب، أكمل صاحبنا معاتباً: ولماذا لم تحددوا الراتب والبدلات والمكافآت في الإعلان كما حددتم كل الشروط والمواصفات والمؤهلات المطلوبة لشغل الوظيفة؟ واستجمع المدير كل خبرات البيروقراطية التي أهلته للجلوس علي الكرسي الكبير والتي علمته كيف يتسيد مثل هذه المواقف في اللحظة المناسبة، إذ كيف يسمح لموظف محتمل هو بالضرورة سيكون مرءوساً له حال استخدامه بأن يساءله ويناقشه؟ وحتي يلزم صاحبنا حجمه، سأله في حزم: هل قرأت كل شروط الوظيفة؟ ودونما أن يترك له فرصة الرد عاجله: وهل أحضرت معك أصول وصور كل الشهادات والمستندات المطلوبة؟ وأكمل من فوره: وهل أنت جاهز لأداء الاختبارات الآن حالاً فوراً؟ نظر إليه صاحبنا في تردد بدا معه مدي انكماشه في مقعده وندت من شفتيه كلمات متقاطعة متلعثمة لم يعرها المدير أي اهتمام، لكنه قدر أنه الآن استعاد سيطرته المفترضة علي الموقف وامسك بالموظف المحتمل من تلابيب حاجته واضطراره فألزمه حجمه ومقداره، وبدا حاسماً: من فضلك الإجابة بنعم أولا فقط حرصاً علي الوقت، وانهالت الأسئلة وتلاحقت الإجابات علي النحو التالي: هل لديك خبرة بأعمال الكمبيوتر والشبكات والإنترنت؟ لا، هل لديك شهادة دولية في أعمال الكمبيوتر؟ لا، هل تجيد الإنجليزية؟ لا، هل تجيد الإيطالية؟ لا، هل لديك خبرة دولية سابقة في الأعمال المطلوبة؟ لا، هل لديك شهادة عليا كما هو مدون في الإعلان؟ لا، وهنا استشاط مدير الشركة وتبدي انفعاله في كلمات حانقة: لماذا إذن تقدمت إلي الشركة وطلبت مقابلتي؟ وهنا جاءت كلمات صاحبنا لتتوج الحدث الدرامي بمشهد الختام الذي هو قمة في الكوميديا السوداء والساركيزم « السخرية»: جئت لأطلب منكم ألا تعملوا حسابي في هذه الوظيفة. انفجر الجميع في الضحك حتي دمعت عيونهم، فقد كان ضحكاً كالبكاء. هكذا كانت المفارقة وهكذا جاءت النكتة.
والنكتة لاتأتي من فراغ وهي غالباً تنفيس عن إحساس بالوجع يصدر عن ضمير جمعي حائر ووعي عام مؤرق يرفض الواقع حوله فيعمد للسخرية من مفرداته ويعرض برموزه. فإذا كان من طبيعة الأشياء ومعيار صحتها أن تؤدي المقدمات إلي نتائجها، فإن النكتة تبدأ دائماً بمقدمات خاطئة أو غير معقولة لاتؤدي أبداً إلي ماوصلت إليه من نتائج، وهنا تقع المفارقة وتلذع السخرية ويكون الضحك.
شيء من هذا يحدث في حياتنا العامة، تبدو معه النخبة من الساسة والمثقفين والكتاب والناشطين وبعض المسئولين، مثل صاحبنا في النكتة السابقة الذي لايمكن أن يؤدي مااعتمده من مقدمات إلي ما يمكن أن يرتجي من نتائج، إنها الهلاوس إذن وفنتازيا العالم السحري البديل.
وهنا كان لابد للضمير الجمعي العام أن ينتج النكتة ليسخر من واقعه ويعريه ويدينه ويضحك عليه في نفس الوقت وبنفس القدر الذي يتندر فيه ويسخر من صاحبنا والإعلان والمدير والشركة والإجراءات وتنكر التفكير للواقع وتنافيه مع سليم العقل وتناقضه وصحيح الإدراك. وتأمل مفردات ذلك الحدث المفارقة وتفاصيله الساخرة، ثم حاول إسقاط ذلك علي واقعنا العام المعيش تأتيك الصورتان في تطابق مدهش.
الغريب أننا من كثرة تكرار اللامعقول في حياتنا العامة وتواتر وقائعه وأحداثه وأحياناً تنوع مفرداته مع احتفاظها بالرمز نفسه والمعني ذاته، بدونا وكأننا أصبنا بحول عام وضمور في أعصاب البصر وعطب في ضمير البصيرة أصبحت معه الرؤية ملتبسة والصور متداخلة والمشهد حائر متبلد ومرتبك. وبدلاً من إعادة التفكير في تفاصيل الصورة وأسباب واقعها المشوه، وبدلاً من إعادة النظر في أفعالنا وأفكارنا وما أقترفته أيدينا، نظل في مماحكة مع الإطار والبرواز ووضع الصورة، بينما الخلل في المقدمات قبل النتائج، وعلينا إعادة النظر وإعادة التفكير واعتماد قواعد جديدة للعبة التي تآكلت أطرافها واهترأت ملاعبها واستبد بالناس الملل والإرهاق والتعب، ورغمها لاتزال الفرصة قائمة والظروف لاتزال مواتية والوقت لايزال يمنينا بمتسع لمحاولات ممكنة.
لذا أنصحك قبل أن تضحك للمفارقة والنكتة وتدين الواقع وتتندر عليه أو تنسحب منه، أعد النظر وراجع أفكارك وتصرفاتك، وتأكد أن معظم مشكلاتنا تبدأ عندما لاتؤدي المقدمات إلي نتائجها








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرانس كافكا: عبقري يتملكه الشك الذاتي


.. الرئيس الإسرائيلي يؤكد دعمه لحكومة نتنياهو للتوصل إلى اتفاق




.. مراسلتنا: رشقة صواريخ من جنوب لبنان باتجاه كريات شمونة | #را


.. منظمة أوبك بلس تعقد اجتماعا مقررا في العاصمة السعودية الرياض




.. هيئة البث الإسرائيلية: توقعات بمناقشة مجلس الحرب إيجاد بديل