الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العين صابتني.

مختار سعد شحاته

2014 / 3 / 24
الادب والفن


العين مُدخلي الذي أتمناه:
أصابتني العين!! ليتها تصيبني، ليت العين تخلع من انعكاسي عليها انتباهًا منصوبًا نحو ذاتي فأبصر ببصيرة واعية، فأرى ما تراه العين، وأسجل ما سجلته تسجيلا أصيلا، تمامًا كما سجلت عين القدماء في البسيطة وبامتداد عمر المعمورة كلها، فأصلوا للجمال من خلال تلك النظرة، والتي كانت في الحقيقة ليست سوى انعكاس لجمالنا نحن، وجمال كل ما حولنا من طبيعتنا الأم، وأخلاقنا البكر، نقية الفطرة، فصارت العين تترجم كل هذا نقشًا ومعمارًا وأدبًا، وصارت العين أولى المداخل إلى ما حولنا من جمال.
رأى، يرى، فهو راءٍ، هكذا اللغة تعبر عن المادة رأي، مرة بمعنى المشاهدة حين تتعدى لمفعول واحد، وأخرى بمعنى الرأي والمعرفة حين تتعدى لمفعولين، والمادة في الحالتين تعول على الصورة فلا مشاهد لغير مشهد ولا مشهد بغير صورة ولا صورة بغير انعكاس، والرأي يُبنى على الرؤية والتوجه الذي يشاهد بعمومية فيخلص من الأسباب إلى النتائج فيبني الرأي أو يلتزم يقينًا ما قد وقر في مشاهداته البصرية والعقلية، وكل ما أنتجه الإنسان ما أنتجه من فاعل حضاراته إلا حين شاهد "بشريته الصماء" وتعلم قبولها، ثم رأى فيها أنها متى تهذبت برباط الجمال صارت أرقى وأشف فاستحقت ان تخبر عن رأيها في شفافيتها وسموها، وأن تخلع على نفسها درجة "الإنسانية"، فلا كان البشر أولي إنسانية لو لم يشاهدوا أو يروا، وكيف في الحالين –المشاهدة والرأي- أن ينبنيان دون العين التي صارت مدخل البشر نحو إنسانيتهم، فعلمته حين عكست صور الجمال من حوله وفيه، فأبدع ينقلها تارة بالمشهد المرسوم أو المنحوت أو المُشكّل، مازجًا بين عناصر المشاهدة وألوانها، وتارة تعلم نقلها بالمشهد المكتوب لغة ما بين الخطابة والشعر والأراجيز والأغاني، والروايات والحكايات وحتى التدوينات. هكذا عرف القدماء حقيقة العين وبصيرتها النافذة المفتوحة على عالم الجمال المُصور أدبًا وتشكيلا، فأسلم كل صاحب إدراك لمعنى الصور زمام العالم، فأخذ ينشر وينشر صوره الممهورة بالنقش الكتابي، واحتفى بالطريقتين اللتين تترجمان انعكاسات الجمال على عينه، وصارت العين مدخلا بصريًا وبصيريًا لكل العالم من حولنا ما بين الجمال والقبح.

أول لما شفته:
تسمع البعض يتحدث فيقول في عامية المصريين "أول لما شفته وعيني وقعت عليه حبيته"، أو يقول "أول ما عيني شافته مقبلتوش أبدًا"، وقد تسمع وصفهم عن الأشياء "مريح للعين"، أو "مش مريح للعين"، والمعروف في الأمثال الشعبية أنها تعبير جمعي ناتج عن تراكم خبرات عظيمة استطاعت أن تلخص نفسها وتضمن استمراريتها الصالحة لكل زمان ومكان بروعة حين صاغت جملة المثل، وهي خبرة مرتكنة على دعامتين واحدة بصرية والأخرى لغوية، وكلاهما منوط بعمل العين، وإدراكًا لدورها في تلك الترجمات المتواترة التي أنتجت الخبرات التي تمخضت عنها الرؤية للمثل أو الحكمة، حتى أنها ادركًا بأريحية أن العين مدخلا أصيلا لدنيا الجمال بكل مستوياتها لكونها حقا "العين تعشق كل جميل"، وهي عبارة لها دلالتها وبراعتها في تركيبها اللغوي واستخدام مفرداتها. نعم العين هي الأولى، هي مبتدأ الابتداء كله، وهي مصدر المشاهدة وأصل الرؤية وتأويلاتها اللغوية، وكل الجامعة والمحصورة بقرينتها "جميل" في آخرها، فكل ما أنتجناه من جمال أو انعكس على مشاعرنا أو أيقنا الجمال فيه، كانت العين ابتداء تلك المعرفة، وهي معرفة دامجة بين الصورة والرأي، لتستقر مسلمة –أراها شخصيًا- أبدية، إذ لا فصل بين رؤية الجمال والتعبير عنه، والفصل بينهما شكلا وكلمة بدعة بذيئة.

المشاهدة والرؤية بصيرة حكيم:
تأمل حضارتنا الإنسانية، وأصل تربيتها للعالم، وتطوير الجمال صورة وكلمة، ستخلص إلى هذا المزج المكون لبصيرة نافذة نحو الجمال في الوجود، وكيف عكست جمال الوجود وما فيه في أفعالها الإنسانية وإنتاجها الحضاري، فألقت إرثًا أصيلا لدرب الرضا والانسجام التام مع كل ما حول الإنسان صاحب العين التي رأت فأبصرت، فعبرت، فامتلك وكونت بصيرتها التي ضمنت لها البقاء. ولعل الحكيم الفرعوني "أوني"، حين يخبر تلميذه "أراك تسكعت في الطرقات، وأسرفت في الجعة، وأهملت الدرس..." إنما نقل مشاهدته البصرية ورؤيته فيها بجملته التي صارت بصيرة ترى زوال أثر هذا التلميذ، كأنه عرف مصير تلميذه بمجرد المشاهدة لحاله وصورته المرئية، وترجمها إلى خطابه الذي قال فأعطى الصورة أبعادًا أخرى، أهلت الحكيم أن يرى زوال التلميذ واندثار سيرته، فاهتزاز الصورة البصرية عند تلميذه المُسرف في الجعة، وإهمال الدرس الذي يُشكل اهتزازًا ما ليقين التلميذ المتكون، وحدهما يعجلا باندثار سيرته. أي أننا متى أردنا بقاء آثارنا وجب علينا الانتباه إلى ثبات المرئيات البصرية، وثبات الكلمة. هكذا حافظ المصري القديم على ثبات الصورة وثبات الكلمة، ومزجهما ببراعة لافتة، فضمن لحياته ألا تغيب عنها الشمس حتى وإن تخلت الأيام عنهم وماتوا.

حالنا المرتعش:
اليوم ما أدعانا إلى هذه العودة التي تتمنى أن تكون صورنا البصرية والتعبيرية ثابتة وغير مهزوزة وكذلك صورنا الأدبية الكتابية ثابتة وغير مرتعشة، لكننا –وياللأسف- في زمن الارتعاش للصورة والكلمة، الناتجان عن بصيرتنا التي ارتعشت، حتى أن العين باتت مشاهداتها مرتعشة، فترى القبيح جميلا، وترى الوضيع رصينًا، وما هو إلا حين خافت أعيننا أن تفتش عن الانعكاس الحقيقي الجميل في كل ماضينا وتاريخنا، وتعكسه انعكاسًا أبلجًا في الصوت والصورة، وانقلب الحال فصارت الانصاف تنشر ثقافتها المهتزة والمرتعشة، والتى تكشفها العين السليمة، وهو ما جعلها تروج بخبث لثقافة "العين صابتني ورب العرش نجاني"، وغ كانت في حقيقتها –تلك الأنصاف- تعكس خوفها من أن تفضحها العين الحقيقية فهي وحدها التي تصيب الأنصاف.
عزيزي القاري تعلم ألا تخاف عينك مشاهدة الجمال الأصيل والمنعكس حولنا وفينا، ولا تسمح لهؤلاء مهزوزي الصوت والصورة أن يروجوا لمشاهدهم وأصواتها، فلا يومًا كان الارتعاش سمة البناء الذي يدوم، ولا يومًا كانت اليد التي تبني مرتعشة، فلو ارتعشت أعين القدماء حين عبروا عن الجمال حولهم وفيهم لارتعكشت كل حضارتهم، وما دامت حتى الآن وستدوم، تبهج العين وتمتع كل من رأى أو قرأ.

مختار سعد شحاته.
Bo mima
روائي.
مصر/ الإسكندرية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شخصية أسماء جلال بين الحقيقة والتمثيل


.. أون سيت - اعرف فيلم الأسبوع من إنجي يحيى على منصة واتش آت




.. أسماء جلال تبهرنا بـ أهم قانون لـ المخرج شريف عرفة داخل اللو


.. شاهدوا الإطلالة الأولى للمطرب پيو على المسرح ??




.. أون سيت - فيلم -إكس مراتي- تم الانتهاء من تصوير آخر مشاهده