الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فصل من رواية مخطوطة : سلمى والنهر _ 1

سعدي عباس العبد

2014 / 3 / 25
الادب والفن


فصل من رواية مخطوطة : سلمى والنهر _ 1


كان نهارا يعصف باللاجدوى واليأس .. نهارا مشرعا على افق من اماسي قريبة , باتت مذ الآن محض ذكريات .. كان نهارا ينضح كراهية لاذعة وخوفا غامضا ونورا فاترا ينسفح عبر نوافذ القطار , النوافذ المفتوحة على برّية مترامية تغمرها الشمس والصمت ..
وكما لو إنني اكتشف الحياة للمرة الاوّلى , وجدتني اطلق صرخة فاترة مكبوتة , ارتجت لها كامل الذكريات القريبة . ارتجّت في الروح والذاكرة والبدن ! , فرأيتني اتلفّت مذعورا ! . لعل عيوني تقع على احدهم , اعني افراد وحدتي العسكرية ممن وقع معي في شِباك الاسر ..كان الزحام على اشده , يصل بين الابدان عبر خيط رهيف من حرارة الذكرى والحنين والخوف والمجهول والارتعاشات الموّارة في الداخل , داخل الابدان , لم المح احدا , فاشحت برأسي ناحية النافذة فطالعتني البرّية في امتدادها المهول وصمتها المشدود لنهار مشمس متأجج مفروش بكامل نوره على الاحراش ومطبق في البعيد على حافات افق غارق بفيض متموج من سراب .. شعرت برغبة حارة للبكاء , وانا اتملى الوجوه , وجوه الاسرى , كم بدت غائمة وبعيدة , ومستكينة للخوف والضيّاع , ولذكريات لما تزل خضراء طريّة , تحفر عميقا في الروح .. ذكريات مفعمة برائحة ازقّة وامطار واشجار وحانات وشوارع ومقاه .. فبدا كلّ شيء مشوّشا مرتبكا في مخيّلتي , كما لو ان سنينا من الذكريات كان مشحونة معي في القطار . سنين احالتني إلى مجرى دافق من الذكريات ..ذكريات تتدفق محمومة عاصفة باطياف شرعت تتبرعم وتنمو وسط عزلة خاكية ! .. جعلت تتدفق في مجرى هادر من الحنين والتوق .. اطياف الطفولة وطيف تلك الايام التي باتت حلما , محض حلم شاحب ..طيف ذكرى الحانات والنهر والشارع المعبّد بالتوق واللهفة , طيف الذكريات القريبة .. ذكريات الإجازات الدورية في شارع النساء المحمول على كتف نهارات مشمسة . نهارات من العطر والهمس والسحر والنساء والتنورات القصيرة .. كنت في تلك النهارات الحالمة المؤتلقة , اغذي الخطى جذلا حالما على اكتاف النهر , مستكينا لهبوب النسيم المفعم برائحة الذكرى , ذكرى سلمى , بعطرها النفّاذ وهو يتصاعد في الهواء , وهو يضوع من شعرها الفاحم الطويل المحلول , تحت الشجرة الشاخصة محاذة الشاطىء .. كانت سلمى مبتهجة وهي ترنو لأسراب النوارس في تشكيلتها الخافقة في فضاء مضاء بنور نهار يطفو ناعما فوق المسطّحات المائية المتموجة ..كانت تتملى ذلك وخصلات شعرها الفاحمة مشرورة على حبل من الظلال والهواء . تتطاير في رقّة النسيم .. تنسفح على جانب من وجهي , فتمسه مسا ناعما . فاهجس برفيف رطب يرف في في روحي وبدني .. فاتطلّع لعينيّها مسحورا ماخوذا ! , كما لو ابحث عني !! انا التائه في تموجات بريق عيونها الساحرة , المشعّة برقائق بلورية بليلة .. فتتملكني رغبة في انّ الثم شفتيّها الملّمومتين على شعاع من نور النهار .. انّ الثم شعرها . امسك برائحته العشبية .. فامرّر اصابعي على خدودها المورّدة . اتحسس نعومة اللحم الطري . فاحس بنداء حار يتدفق من روحي وبدني . نداء كأنه يأتي من بعيد , من مرافىء طفولة شديدة الدهشة للغاية ! , فاترك اصابعي تزحف منتشية وهي تلعق مساحة شديدة الرطوبة والطراوة من خدودها وتقبّل شفتيّها برفق .. فمدّت يدها العارية الشديدة النعومة , تتحسس رأسي فتتوغل اطراف اصابعها بعيدا عن شعري الحليق , تنزلق بهم للاسفل عند خدودي , خدود الجندي المتيبسة ..فيمسني شيء من الارتعاشات المتعاقبة .. فيتبدى ليّ وجهها كأنه يغرق في ضباب خفيف , فاشعر كأن موجة من خدر تغشي عيوني , المطبقتين على حلم لا يضاهى , .. ولما فتحتهما , بدت لي سلمى _ في تحولات اللحظة المذهلة _ اكثر امتلاء وانوثة وتوهجا . .. همست في سمعي بشيء ما , ..كانت نبرتها خفيضة ناعمة حزينة , كأنها تأتي عبر حاجز ما , _ حاجز سيتشكل في النهار الاخير من إجازتي .. _ كان شعرها ما زال يتموج محلولا في نور النهار , لما قالت وهي تطلق جهشات خفيضة ملتاعة : __ .. لما كنت تجيء في الإجازات القديمة ..كان لك وجه صبي يافع , في مقتبل العنفوان .. وجه لا يشبه وجهك هذا ..وجهك الذي كأنه يغرق في ضباب من رماد او كأنه محجوب وسط ظلال كثيفة ثقيلة , ... كم يبدو الآن بعيدا ومجفّفا .. __ خارج من حرائق __ .. منذ نهار ما , انبثقت تشكيلة من نوارس ضاجّة برفيف اجنحة رهيفة ترفّ في الهواء . بزغت من مجرى النهر . من سطحه الرجراج الطافية فوقه بقايا نباتات مجفّفة مفعمة برائحة طين الجروف .. الجروف اللزجّة الماسكة بذؤابات اعشاب مشرئبة . اعشاب تبرز من المساحات المدغلة المكتظة بالهوام وبرغوات مزبدة تتسلق السويقات الغارقة بفيضان من اخضرار متوهج .. حجبت المظلّة المتشكّلة من النوارس والخافقة فوق النهر وهج الشمس , فغرقنا وسط ظلال رطيبة .. وقبل انّ تشرق الشمس ثانية وقبل انّ تغادر النوارس بمظلّتها . حطّت اصابع سلمى في هبوط رقيق ناعم فوق شفتيّ فانتشرت في الحال رائحة احراش النهر تضوع من اصابعها ! , فخفق قلبي , ورف جناح ذكرى ما , ذكرى خفقت عبر مخيّلتي , وقبل انّ يمس الكلام طرف لساني قالت __ : أتعرف لغة النهر ... قلت __ : وانتِ .. فاستدارت بعيونها ناحية النهر . وجعلت تنظر دهشة , كما لو تراه للمرة الاوّلى .. كان النهر يمرّ على عينيّها كما كان يمرّ من قبل مئات المرات ..يمرّ منهكا , مثقلا بحيوات خفيّة مترسبة في الاعماق السفلى .. كانت الاعشاب تدنو من قدميّها , تدفعها الريح صوب الجرف , فيما بقيت هي مستغرقة في معاينة النهر فبدت كأنها جزء حميم منه , جزء شديد السحر من الاعشاب والنور .. مدّت يدها ناحية الجرف فبان وجهها قريبا من النهر في الملامسة والنور والجمال ! , التقطت عشبا , فانتشر صوت النوارس , تصاعد من وسط الجروف المدغلة , ومن المسطّحات المائية المتغضّنة , ومن السكون المتوتر المعرّش عند شقوق الجروف , ومن نور النهار , الذي تتخلّله ظلال اجنحة طيور كانت عالقة في فضاء مبلّل , يزداد التماعا كلما توالت النوارس في الهبوط عند قدميّها !! وحوّل قامتها الفارعة ومن دون انّ ترفع رأسها , عبرت قنطرة من النوارس والاحلام , فتركت اثرا من رائحة مفعمة بنكهة الطين وهي تطلق هتافا ممدودا رفيعا يشي بالبهجة __ : انصت لمناداة النوارس ...أتسمعها .. إنها تدعوني .. تطلب اليّ انّ اطير , انّ احلّق معها بعيدا في الاقاصي , فوق الماء , تحت غيوم ظليلة .. ! وجعلت تجري , كما لو إنها تحلّق محاذاة الشاطىء , فيما كانت تنتشر النوارس حولها على جانبيّ قامتها . ولما استدارت ناحية اليابسة , ازداد طيران النوارس صوب السماء , فبدت مثل عاصفة بيضاء , .. امسكت بيدها قبل انّ تتم دورانها الاخير . فحوّمت ذكريات ساحرة . انبجست من بريق عيونها وخدودها وشعرها المحلول, ذكريات شديدة السحر . لها صلة حميمة بنهارات إجازاتي القديمة ..الإجازات الرثة , المعفّرة برائحة غبار برّي ,غبار كان ينضح من بدني , له نكهة الدخان ..فارتدّت للوراء وهي تحدجني بذات النظرة المضيئة التي احالتني إلى محض نبض متسارع .. كانت النوارس ماتزال تتتوسل باطرف النهار المسفوح على كتف النهر . لما قدتها برفق من يدها








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لم أعتزل والفوازير حياتي.. -صباح العربية- يلتقي الفنانة المص


.. صباح العربية | في مصر: إيرادات خيالية في السينما خلال يوم..




.. لم أعتزل والفوازير حياتي.. -صباح العربية- يلتقي الفنانة المص


.. صباح العربية | في مصر: إيرادات خيالية في السينما خلال يوم..




.. لقاء خاص مع الفنان حسن الرداد عن الفن والحياة في كلمة أخيرة