الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جدل التراث والحداثة في النقد العربي ... ادونيس نموذجا

علي حسين يوسف
(Ali Huseein Yousif)

2014 / 3 / 25
الادب والفن


ان استحضار أدونيس في موضوعة جدل التراث والحداثة يأتي بوصفه ــ أي ادونيس ــ رائدا من رواد الحداثة النقدية والأدبية العربية ، وبوصفه كذلك اول ناقد عربي متسلح بعدة فكرية عميقة ، فالرجل فرض نفسه بقوة بوصفه مفكرا وناقدا وأديبا متميزا.وسنتعامل معه هنا بوصفه منظرا للنقد الأدبي الحديث .
يعد ادونيس نموذجا للشاعر الناقد الذي لم يكتف بالتنقيح الذاتي بل يسعى الى اقتحام فضاءات النقد والفكر ، ضمن ثقافة فلسفية تعكس الرغبة في تأسيس ريادة نقدية ، وهذا ما ميز ادونيس عن مجموعة من الشعراء الذين حاولوا ممارسة العملية النقدية لكنهم لم يفلحوا في تأسيس اتجاهات نقدية واضحة مثل : نازك الملائكة ونزار قباني وعبد الوهاب البياتي ويوسف الخال وعبدالله حمادي ومحمد بنيس وسميح القاسم وعز الدين المناصرة وخزعل الماجدي وغيرهم .
لكن الملاحظ على نتاج ادونيس الشعري والنقدي يجد ان الرجل يستمد من الثقافة الغربية مقومات شخصيته الثقافية أكثر من استمداده من التراث العربي ، فقد تأثر بالرمزية الفرنسية والمثالية الألمانية لاسيما فلسفة نيتشه الذي يرى ان العمل الفني يولّد نفسه ، أما الفنان فيحول الوجود الى عمل على صورته ، فالفن ليس أداة للحقيقة بل للوهم , ومن نيتشه انطلق ادونيس في شعره ونقده يبحث عن الإنسان المتفوق .. الإنسان العبقري المنبعث من ركام الانحطاط العربي ، على الرغم من ان ادونيس صرّح أكثر من مرة بأنه يستمد مقومات ثقافية من جذور عربية .
لقد فهم ادونيس من القرآن والتراث العربي المكتوب (الشعر ، الحديث) على انه لا يصلح إلّا بوصفه أساسا للتجاوز والتخطي ، لا للانسجام والخضوع , عن طريق مساءلته بغض النظر عن ثوابته ومقدساته فالتراث شيء نحن نصنعه ، لذلك يجب ان يخضع للاستعادة والابتكار.
تجسدت أفكار ادونيس في اغلب كتبه في الشعر والنقد ثم توجها في كتابه (الكتاب) الذي تجاوز 3400 صفحة وحاول فيه استنطاق التراث العربي وتحوير عدد من مسلماته في بناء شكلي وفني فريد في بابه وكأنه يمثل مرحلة لتجاوز كبار الشعراء مثل دانتي وغوته ونيتشه والمعري وجبران ، بل محاولة لتجاوز كل المسلمات الموضوعية والفنية .
لقد وصفت فلسفة أدونيس بأنها تمرد على الموروث وثورة هائجة مدمرة هادمة متفجرة بالعداء في وجه كل قوة او قيمة او عقيدة ترمز إلى الثبات والنظام وتحد من الحرية والانفلات , إذ يرى أدونيس ان النقد العربي القديم يدور كله حول معرفة مدى التطابق بين كلام الشاعر والحق أي بين الشعر والأخلاق والدين, لذلك فان معيار الصحة الشعرية ـ بحسب ذلك الموروث ـ كان معيارا إسلاميا أخلاقيا يحاول ان يدرك تماسك النظام الديني وتطابق الشعر معه , فالنقد بحسب تلك النظرة القديمة كما يرى ادونيس في الثابت والمتحول فن اكتشاف الوحدة بين الشعر والواجب الأخلاقي والاجتماعي , وأدونيس يضع هذا الكلام بوصفه نتيجة استقرائية مفروغ منها وخلاصة للمتن النقدي القديم كله , لذلك ـ فمن وجهة نظر أدونيس ـ يجب ان تتغير النظرة إلى النقد بالثورة عليه لتغيره جذريا , ولا يكون ذلك إلا بأن : يبدأ الفكر العربي يفكر في ما لم يفكر فيه ، في ذلك المكبوت التاريخي ، او ذلك المتعالي دينيا وفكريا وجسديا واجتماعيا وسياسيا كما يقول ادونيس , وهذا الكلام ـ مثلما يظهرـ لا يخلوا من الجـدة والجرأة , لكن المشكلة إن صاحبه يريدنا ان نجوس ساحة المكبوت التاريخي والديني والجسدي والاجتماعي والسياسي دون ان يوضح الكيفية , او يضع البديل وكأن دعوته هذه ثورة دون برامج , فقد اظهر عجزه او خوفه من اجتراح البديل , حتى انه اعترف بذلك صراحة بقوله في كلام البدايات : اكرر إنني شخصيا لا أجرؤ على أن أمارس مثل هذا الفكر وإنني لا أجد عربيا واحدا يمتلك هذه الجرأة .
ومما تقدم يمكن القول ان الحداثة عند أدونيس لا تخرج عن إطار التأملات التساؤلية دون ان تتحول تلك التأملات إلى تحقيق عملي ، بمعنى آخر ان الحداثة العربية ـ بحسب منظور أدونيس ـ يفترض ان تقوم على إحراق المراحل ضمن انتقال مفاجئ ومنفصل يناقض الوثوب المسير .
ويمكن لقارئ ادونيس ان يتساءل عن المنهجية النقدية لاسيما وإن الرجل قد اعلن صراحة انه ضد أي التزام منهجي .
ان المتصفح لكتب أدونيس يجد في اغلبها وبوضوح تلك النبرة النقدية اللاذعة للثقافة العربية بوصفها : ثقافة تحجب التاريخ والواقع فيما تحجب وتغيّب طاقة السؤال وتحل محله اليقين الدوغماتي (....) إنها ثقافة تقوم على المرجعيات المعصومة ولا تسائل المتعاليات التي تتحكم في إنتاج المعنى في الفضاء السوسيوتاريخي .
وليس من المبالغة القول ان طموح النقاد العرب ـ ومنهم ادونيس ـ لا سيما في سعيهم لتحقيق الريادة النقدية قد أدى إلى تهميش الخصوصية المعرفية والنقدية العربية من خلال محاولاتهم تفكيك أسس تلك الثقافة وتفريغها من محتواها بإدّعاء العالمية ، فأدونيس ـ مثلا ـ يفهم الواقع العربي من خلال الآخر الغربي , يقول وبلغته الشعرية المعهودة : حين اقرأ رامبو ومن يجري مجراه ، اقرأ شرقي العربي في صوت غربي : الهروب من نظام العقل والارتماء في حيوية الجسد وتفجير اللامنطقية كالسحر والحلم والرغبة والخيال وحين اقرأ ريلكه ومن يجري مجراه أقرأ التصوف العربي ..... وحين اقرأ دانتي او غوته او لوركا او غانا ايكلوف أرى اضواءا عربية تتلألأ في الدروب التي تسلكها كتاباتهم .
ويتضح الأمر أكثر في رؤية أدونيس للدين الإسلامي والثقافة العربية ربما أكثر من وضوحها من رؤيته للموروث الأدبي , اذ يرى أدونيس ان الثقافة العربية ترتكز على مسلمات رجعية لا يمكن الانعتاق منها إلا بإحداث شرخ في منظومة التفكير العربي , حتى ان كمال أبو ديب ـ على الرغم من حداثته وصداقته لادونيس ـ وصف حداثة أدونيس قائلا بأنها : ليست انقطاعا نسبيا فقط بل هي اعنف شرخ يضرب بالثقافة العربية في تاريخها الطويل ، ليس في هذه الثقافة في أي مرحلة من مراحلها ما يعادل هذا الانشراخ المعرفي والروحي والشعوري الذي يكاد يكون انبتاتا عن الجذر.
لقد جسد أدونيس طابع اللانتماء المنهجي ليس على صعيد ثقافته فحسب وإنما على المستوى الشخصي أيضا فقد ارتأى أن يعيش ذاتا في المنفى ، لا عربية ولا شرقية ولا غربية ، ذاتا حرة ، اذ يمحى فيها كل اتجاه ويمحى معه زمنه .
وفي كلام البدايات يتنصل أدونيس من أي خصوصية او منهجية بصراحة تامة اذ يقول : لا ازعم أني ناقد ولا أتبنى في تذوق الشعر وفهمه أي منهج ولئن صح لي ان احدد في أي مجال أنا ، فإنني أميل إلى ان اصف نفسي بـ (راء) يتجه نحو أفق غير مرئي وفي سيري ألاحظ واختبر واكتشف (.....) ثم ان المنهج قد يكون جيدا لمبتكره لكنه بالنسبة إلى غيره ليس الا مدرسة وأنا غير مدرسي ـ كل مدرسي باطل ـ ولا اكتم رأيي ان هذا المنهج او ذاك مما يفخر بإتباعه كثير من الأصدقاء وغير الأصدقاء لا يغريني أبدا .
وأدونيس في الحداثة التي يريدها يشرّع المصطلحات ويتداول المفاهيم ــ بحسب تعبير الغذامي ــ لغرض انتهاك اللغة والعالم وتحويل اللغة إلى خادمة تنصاع لمراد السيد الشاعر (.....) مع الرغبة في إذلال العالم وإخضاعه لنزوات الفحل, وبهذا فان أدونيس يضع القرّاء أمام خيارين لا ثالث لهما : اما ان يسلّموا معه بمقولة موت الخلفيات الفكرية والثقافية والدينية عموما ـ واما أن يسلموا بأنهم ضد الحداثة وان الزمان لا يتحرك منذ أكثر من ألف سنة . وواضح ان أدونيس قد اختار الوجهة الاولى وهو لا يجد أدنى غضاضة في الافصاح عنها حينما يقول في الثابت والمتحول : لابد إذن من إزالة الدين من المجتمع وإقامة العقل , والإزالة هنا لا تقتصر على الدولة او الدين العام ، بل يجب ان يزال الدين الخاص أيضا ، أي دين الفرد ذاته .
ونتيجة لما تقدم فان أفكار أدونيس واضحة في الدعوة الى التمرد على ماهو ثابت وقار , وتكشف عن قطيعة مع التراث , رغم انها عولت على منهجيات غربية إلى درجة انه قد اتهم على لسان كاظم جهاد بأنه يذهب إلى حد الانتحال المطلق , وقد ذهب احد الكتّاب العرب إلى القول انه : من سوء حظ المثقفين العرب ان كثيرا منهم وعلى رأسهم أدونيس ـ يؤسسون في خلطة عجيبة لمفاهيم حداثية وما بعد حداثية ـ مثلا ـ في وقت واحد ، وهذا ان دلّ على شيء فإنما يدلّ على انسحاق مكشوف تحت رؤية المركز.
ومهما يكن من شيء فان النقاد الحداثيين العرب ـ ومنهم أدونيس ـ حاولوا ممارسة النقد تكثر من محاولتهم الإصلاح او ايجاد البدائل انطلاقا من مقولة التغيير الجذري الذي يحاول ان يفكـك المسلَّمات بالانقطاع عن التراث .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الشاعر والناقد المناصرة لا يقل أهمية عن أدونيس
جمال بو شوارب.. الجزائر ( 2014 / 11 / 15 - 05:45 )
صحيح أن بعض الشعراء النقاد كانت كتابتهم النقدية هامشية. وصحيح أن نازك الملائكة أصدرت كتابا واحدا هو قضايا الشعر المعاصر وهو بالفعل كتاب مؤثر.. لكن كاتب المقال ظلم شاعرا كبيرا هو شاعر الثورة الفلسطينية ( عزالدين المناصرة ) فهو لا يقل أهمية عن أدونيس في النقد والفكر . هو صاحب كتب جريئة مثل:
1. علم الشعريات2. المثاقفة والنقد المقارن 3. علم التناص والتلاص 4. الهويات والتعددية اللغوية.5.موسوعة الفن التشكيلي في القرن العشرين في مجلدين.6.جفرا الشهيدة وجفرا التراث.7. النقد الثقافي المقارن.8جفرا الشهيدة وجفرا التراث.9. الأجناس الأدبية. 10. اشكالات قصيدة النثر .11.جمرة النص الشعري.12.شاعرية التاريخ والأمكنة .13. لا أستطيع النوم مع الأفعى. 14. فلسطين الكنعانية ( قراءة جديدة لتاريخ فلسطين القديم ). 15 قصة الثورة الفلسطينية في لبنان 1972-1982. .... وغيرها حتى وصلت كتبه الى 25 كتابا في النقد والتاريخ والفكر.. وهي كتب تتميز بالتعددية الفكرية وطرح الأسئلة العلمية الجريئة وتقريب الفنون والاداب. وفي الخلاصة نقول: الشاعر والناقد المناصرة ينتمي الى مدرسة فكرية وشعرية مختلفة عن أدونيس وهذا هو الفرق .


2 - أدونيس والمناصرة وبنيس
حسن قاعود- العراق ( 2014 / 11 / 21 - 15:25 )
هناك اجماع حول أدونيس الناقد والمفكر وليس هناك اجماع حول شعره. ونلاحظ أن نازك الملائكة (قضايا الشعر المعاصر )و يوسف الخال(الحداثة الشعرية العربية ) لم يمتلكا أي اجماع حول كونهما نقادا كبارا أي أن لهما مشروعا له خطوط واضحة. وقد يقال ان ( محمد بنيس ) ليس شاعرا كبيرا لكن الرد هنا أنه ناقد( بنيوي تكويني ) له مشروع نقدي واضح. أما ( عزالدين المناصرة ) فهو أوضح من الوضوح في خطه النقدي إذا ما درس مشروعه النقدي دراسة جدية فهو يتميز يالعمق والشجاعة ( جدلي تفكيكي ) بينما اتخذ أدونيس تفكيرا مثاليا. ويبقى هنا أن نعترف أن النقاد يصنفون المناصرة ( شاعرا كبيرا ) من شعراء الستينات.
- يبقى أن الثلاثة (أدونيس والمناصرة - ومحمد بنيس) هم من ذوي الثقافة الأجنبية: الفرنسية(أدونيس وبنيس ) - والسلافية(عزالدين المناصرة) فقد حصل على الدكتوراه عام 1981 في جامعة صوفيا أي الجامعة التي درس فيها (تودوروف - وكريستيفا )قبل هجرتهما الى باريس
- أما الشعراء الكبار من أمثال نزار قباني وصلاح عبد الصبور فهما ناقدان انطباعيان تفسيريان ليس لهما مشروع نقدي أصلا..

اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا