الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شيء من الروح

ماجد رشيد العويد

2005 / 7 / 8
الادب والفن


إليها
.. ومن يومها بدأت الحكاية، ولعلها تشبه تلك الحكايات البعيدة والمستقرة في الليالي الشهرزادية. كانت الفتاة على أشد ما تكون متعة للناظر، وعلى أحسن ما تكون هيئةً.
وعلى حافة الأمسية، ولا أقول على هامشها، نمى ذلك الشعور ليدهم مع الأيام صاحبه ويتركه نهب تلك الهواجس المقلقة.
كانت تقرأ بشفافية نادرة، كأنها التجلي النهائي لملاك هابط من الأعلى السماوي، من تلك الذرى التي تخضبت بالدم الإلهي، تغني، وهي تقرأ، عزّها ومجدها وفخارها، وكل هذا تضيئه ابتسامة كأنما هي بقعة ضوء في نفق مظلم. ومع مخارج الحروف السليمة، وضياء تلك النظرة الآسرة، انطلقت القصة من فيها تروي للعالم ببراعةٍ شوقَ الأنثى إلى نشر معالم الفتنة، وإلى البوح بأسرار الضياء وقد فاضت من رحابها مجداً ينشر فوق الربوع وعلى الذرى شذاه.
أجل هكذا كان الحال، لغة علت على اللغات، وهمسة فجّرت صمتاً يشبه صمت القبور، ونغمة أغلقت الأبواب على صراخ خدش العقل فاستوى هذا على البلاهة، ومزّق الشغاف فانتهى القلب صريع الحماقة.
كان المنبر عالياً بها، وشامخاً بثقتها. وإذ جاشت القلوب بمحبتها وانشدت إليها، انطلق التصفيق، دافئاً، دافقاً بأطياف من الروح العذبة، الروح التي أطلقت ربما نشيدَها الأخير ليعلو الرؤوس جميعها تاجاً مرصعاً بجمال الحكمة. وذلك لعمري يوم من أيام الأدب. وإذ انحدرت من منبرها، هبط القلب خافقاً بها ثم ليعلو من جديد فوق مستقرّه ليصبح نجمة ربما أو قمراً تضيئه تلك الابتسامة الرقيقة.. ثم فجأة غابت...
بعد يوم أو يومين غابت، فدبّ في الربوع قلق موحش مسح كل زمنه من بعدها. ولعلّة فيه لم يسع إلى الاتصال بها ليس خشية من شيء محدد بقدر ما هي الحاجة إلى الحفاظ على ذلك الإطار الذي وضع نفسه فيه.
***
ولكن ما لبث أن تعرف بها صوتاً لصوت. بثّها جمر القلب وبثته جمر اللغة ثم اشتعلا معاً ولفّهما معاً حريقُ الرغبة بالتواصل. لم تُبتذل الكلمة بل سمت وهي ترسم بينهما حدود العلاقة التي يرميان صناعتها. وانهمر الدفق سخياً والتقيا.. في دمشق مرة وأخرى في حلب. ثم إنه استطاع أن يبلور تجاهها شعوراً نقياً مبرّءاً من كل نزغ، فلا " شيطان " بينهما، ولا منفذ للتحايل.
كانا كأنهما معلقان أو مشدودان إلى ذلك الإيقاع الذي انشقت عنه سعة الزمان، ليشكّلا به حياةً هي الآن في أوج شفافيتها، ويغزلان معاً دقائقها وساعاتها. ولكنهما معاً يشكوان من علّة تكاد تكون واحدة، بل هي كذلك، فهي حادة المزاج وهو عصبيّه كأن السبب فيها توغّلهما في العمر. تنظر إليهما فتراهما كأنما يتحدثان سعيراً، ولذلك فهما يغليان على الدوام فإن تحقق لهما أن يتصلا فلابد أنهما منجبان اللظى وهاويةً ووادياً يشبه في كثير أو قليل وادي " ويل " ذاك الذي ينتهي إليه الظَلَمَة والمارقون.
ومع ذلك فهي أشبه ما تكون بالرَّوْحِ والريحان. إن مشت يحتفل الأديم بوقع حذائها، وإن ارتدت ثياباً، أي ثياب، فإنما تصبح بجمال الآية وقد هبطت من "سدرة المنتهى " إلى أرض من وهَج شمسها الغاربة شُدّت بَشَرَةٌ تفيض بالمعاني، وبمسحة حزن رقّت عبرها الأفكار. إذ ذاك غشاه موج من الفكر، وعمّه الغمام فدشن أول لبنة لحياته القادمة عندما قال: لعل الحزن يكون جميلاً وساحراً وقابلاً للحياة في رحاب أنثى من البلور، تعانق فجرها فيكتبها الصباح قصيدةً على خدّ آية، وتعانق صبحَها فيكتبها الندى آية على خد "سورة "، أنثى تعانق جمالها فتفضح ما بالكون من قبح، ثم ترمي إليه ببعض رونقها فيزهو فتيا. إن مشت تَفَاخَر بها ترابُ الأرض، وإن ضحكت هللت بالمطر سماء نشوى بليلها الزاهر. وإن نطقت فلؤلؤ مكنون، يذيب بسحره العيون وتصطلي بشدة لمعانه القلوب. وإن رفعت إلى أعلى شَعرَها اصطبغت بلون الذهب سماء من الأمنيات، وإن نزلت به على كتفيها وظهرها، عُميت من بريقه العيون. وقال الذين من حولها ما هذه "بشر" قلت: أجل، إن هي إلا بضعة من آلهة قديمة، أو هي من سحر الشرق القديم، أو هي ريحانة أيامنا هذه. وإن رنت إلى داخلها وشّحت حضورَها بتلك المسحة من الضياء الناعس، وما لبث أيضاً أن قال إنها بضعة من الجنة على أرض لم تكن كذلك إلا بها. هي التفاصيل وقد نخلت تفاصيلَها، فشبَّ الجمال ومشى على رخامتين مدورتين من نور ونار. ولم يستغرب أنها استحوذته، ولم يدهش أنها نزلت من نفسه هذه المنزلة... بل لقد آمن بإسرائه إليها فيلقاها روحاً لروح.. وآمن أكثر بعروجه إليها في فضائها العاجي عروجَ الملتقى في سِدرة الهُيام بغنى تفاصيلها. وهناك قال: سأجعل من كلماتي رموشاً أدثرها بها. وكيف لا، وقد غدا في مواجهة أنثى ما هي من " مارج من نار " وما هي من "صلصال كالفخار"؟. هي أنثى من نور، وهي ابتداء اللغة وجوهرُها.
***
والتقاها في دمشق، فإذا بها كقطرة الندى على خد ياسمينة دمشقية، أو كأنها الندى يورق به الشجر، أو كأنها النجم تزهو به صفحة الفضاء، أو كأنها بردى الذي غاب ثم عاد بها لتزهو دمشق مفتونة بجمالها وسحرها، وليتألق مجدُ الأمويين، ثم لتغني فيروز من بعد ذلك فيشمخ مسجدهم الكبير، وليشمخ أيضاً قاسيون منيعاً. ولعلها كانت النسمة الفارة من جحيم البلاد... أو أنها الطلّ الذي أصاب أرضها فأنبتها همساً رقيقاً دافئاً، ودفقاً رشيقاً من حياة عذبة في ليل بدا كأنه ليل هادر مع صخب المهرجان.
في حلب بـدت له قمراً مناراً بوضوح الرؤية، وتجلياً من تجليات الدرّ في نفس، وإن عكرها الحزن، صافية متجددة. وقال لنفسه على طول الطريق في عودته إلى بلده: إنها هي المطلوبة، وهي المنتجبة والمجتباة والمنتقاة، وهي فـوق هذا كله نعمة تسير على قدمين فتملأ الدنيا شذا ورحيقاً. وهي عنده أعظم من مال الوجود كله، وهي تعدل عنده نساء الأرض كلهن، لأنه وباختصار يملكهن جميعاً في شخصها وفي أنوثتها المتبدية في ابتسامة، لم ولن يحفل بها ثغر في الوجود كله، وفي الأنوثة المشبعة بشيء سماوي مقدس، وكيف لا تكون كذلك وهو ينهل من معينها، ومن عذب رحيقها ما تورّدت به أيامه؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو


.. في عيد ميلاد عادل إمام الـ 84 فيلم -زهايمر- يعود إلى دور الس




.. مفاجآت في محاكمة ترمب بقضية شراء صمت الممثلة السابقة ستورمي