الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهزيمة كان اسمها فاطمة... عن الإنسان الرخيص

حسين محمود التلاوي
(Hussein Mahmoud Talawy)

2014 / 3 / 27
الادب والفن


لا ريب أن الأديان كافة والكثير من الفلسفات تنظر إلى الإنسان باعتباره كائنًا مكرمًا عاليَ القدر، لكن هذه النظرة تتنافى بشكل كبير مع الواقع الذي يعيشه الكثير من البشر، والذي يظهرون فيه ككائنات رخيصة منحطة القيمة، وهو الوضع الذي وصلوا إليه إما بكامل الاختيار الحر أو نتيجة لذلك العدو الغامض المسمى بـ"الظروف". لا نحمل الأديان ولا الفلسفات مسئولية هذا التناقض؛ فالمسئولية الكاملة يتحملها الإنسان نفسه إما بالسكوت على هذا الوضع المتدني (إذا كان هو من يعيشه)، أو بالتسبب في أن يحيا الآخرون في هذا الوضع (إذا كان قد تسبب في إيذاء الآخرين).
لم تغب هذه اللقطة عن عين الكاتب الرائع الراحل "إحسان عبد القدوس" الذي سجل في الكثير من أعماله الأدبية معاناة الإنسان مع ظروفه، ومحاولات الأفراد التغلب على المآسي التي يتعرضون لها، مع رصد المصير الذي تؤول إليه هذه المحاولات إما بالنجاح أو الفشل أو بالاستمرار في الرحلة. ومما يميز نظرة عبد القدوس لهذه المسألة أنه لم يقصر مفهوم التدني على انخفاض المستوى الاقتصادي والمعيشي، ولكنه رأى أن أبناء الطبقة الميسورة ربما يقعون أيضًا فريسة لهذا الوضع المتدني الذي يتسع مفهومه لدى عبد القدوس ليضم البعد الأخلاقي؛ بما يعني أن مسألة التدني هي مسألة تشمل حياة الإنسان بشتى جوانبها؛ أي أنه تدنٍ إنساني وليس فقط ماليًّا أو علميًّا أو مهنيًّا أو حتى أخلاقيًّا.
وجاءت مجموعته القصصية المعنونة "الهزيمة اسمها فاطمة" في هذا السياق، وهي المجموعة التي صدرت عام 1975 عن دار المعارف في طبعتها الأولى؛ فقد تناولت هذه المجموعة — التي اعتُمِد هنا على طبعتها الصادرة عن مركز الأهرام للترجمة والنشر عام 1998 — أنماطًا من البشر ضلوا الطريق جراء الظروف أو بإرادتهم الحرة. تقع المجموعة في أكثر من 300 صفحة موزعة على 14 قصة تناولت الكثير من الأنماط الإنسانية شكلت فيما بينها لوحة لمجتمع ربما لا نراه كثيرًا، ولكنه موجود في مجتمعنا الكبير المسمى المجتمع المصري.

فاطمة...
تـأتي قصة "الهزيمة.. كان اسمها.. فاطمة!!" ثالثةً في ترتيب القصص وفقًا لطبعة مركز الأهرام للترجمة والنشر. وتروي وقائع حياة امرأة خرجت من منطقة القناة ضمن من تم تهجيرهم أعقاب هزيمة 1967، إلى واحدة من القرى مع والدها وزوجها وأبنائها، قبل أن يهرب والدها ومن بعده زوجها بسبب قلة فرص العمل في القرية التي تم تهجيرهم إليها. فماذا كان خيار فاطمة؟! قررت أن تهجر بيتها، كما فعل زوجها، ولكنها قررت ذلك سعيًا وراء العمل لكسب لقمة العيش؛ فوصلت إلى القاهرة؛ حيث مارست الرذيلة مجبرة أو بإرادتها لكسب قوت يومها، وأحيانًا مقابل وجبة ومكان للنوم.
حسنًا، ربما يرى البعض أن مجيئها إلى القاهرة كان هو بداية رحلتها نحو التحول بشكل كامل إلى الإنسان الرخيص. ولكنني أعود إلى الفقرة الأولى من هذا المقال، والتي أشرت فيها إلى أن الإنسان يتحول إلى رخيص بإرادته أو جراء الظروف المحيطة، وهي الظروف التي يستجيب لها بإرادته أو مكرهًا.
قد يكون من الأفضل إلقاء الضوء على الظروف التي عاشتها فاطمة قبل أن تنتقل إلى القاهرة لتبدأ رحلتها في الحياة كإنسانة ساقطة. عاشت فاطمة مع أسرتها — قبل هروب زوجها — في مساحة من أحد المنازل لا يفصل بينها وبين الأسرة الأخرى سوى ستار بسيط، كان يمثل دلالة رمزية على أن هذا "بيت" وهذا "بيت" آخر.
ومن جانب زوجها، فقد عانى كثيرًا لكي يجد فرصة عمل في القرية الجديدة التي انتقلوا إليها، ولكن أهل القرية أنفسهم كانوا يعانون البطالة، وبالتالي فقد فشل تمامًا، وضاقت أحواله، عندما اكتشف أن الجنيهات الستة التي كان يتقاضاها من الدولة كبدل معيشي لأسرته للمهجرين لم تكن تكفي الاحتياجات. ضاقت الأحوال، وضاقت المساحة، وضاق معهما صدر الزوج، فقرر الهروب؛ ربما لإيجاد مساحة لمن تركهم لكي يعيشوا.
إلا أن رهانه كان خاسرًا.
فلم تخلف هجرته مساحة للآخرين لكي يعيشوا فيها، وإنما تركت فراغًا هائلًا حاول الكثير من الرجال أن يملئوه؛ لكن فاطمة تمنعت كثيرًا. وعندما وجدت نفسها على شفا الاستسلام، قررت أن تطلق آخر الرصاصات لديها، وهاجرت إلى القاهرة؛ تلك المدينة الشبحية ذات الطاقة الهائلة التي تجثم على صدور أهلها. فما بالنا بالوافدين إليها؟!
وهناك استسلمت لأول من طلب، وكان المقابل هو صفعتان — لأنها كانت "باردة" فلم تكن قد أتقنت بعد أصول لعبة السقوط — مع إتاحة مكان للمبيت في المطبخ. ولما تجرأت وتناولت طعامًا مما كان في المطبخ لتسد به جوعها، كان المقابل صفعتين أخريين في الصباح، عندما اكتشف "الزبائن" الجريمةَ التي ارتكبتها بالتهامها الطعام.

الإنسان الرخيص...
كلا، حتى لا نظلم القاهرة، يتعين علينا القول إن فاطمة بدأت حياتها كإنسان رخيص منذ الفترة التي سبقت حتى التهجير من مسكنها في منطقة القناة. كيف ذلك؟!
هل أخذت القيادة السياسية رأي فاطمة في خوض حرب تدور رحاها بالقرب من منزلها؟! هل وضع العسكريون في اعتبارهم فاطمة ومسكنها وهم يقررون خوض هذه الحرب غير المتكافئة؟! هل تمت استشارة فاطمة في الوجهة التي تذهب إليها بعد التهجير؟!
للأسف الشديد، كانت فاطمة رخيصة من قبل أن تبدأ رحلتها في القاهرة كساقطة. كانت رخيصة من قبل حتى الهزيمة المسماة تخفيفًا بـ"النكسة". عاملت القيادة السياسية فاطمة باعتبارها متاعًا لا قيمة له ينقل من هنا إلى هناك دون استشارة حتى في الوجهة التي ينقل إليها. لم تقل القيادة السياسية لفاطمة عن الوجهة، فهل يمكننا أن نلوم فاطمة، إذا ضلت الطريق؟!
ولكن... هل تتحمل القيادة السياسية عبء رخص الإنسان؟! في تقديري الشخصي أنه سيكون من الظلم أن تتحمل القيادة السياسية وحدها المسئولية. ولكن مهلًا... ليس معنى هذا أنني أحمل فاطمة المسئولية عن هذا الرخص "السياسي" إن جاز التعبير. ولكن المتهم المشارك في الجريمة مع القيادة السياسية في عملية "ترخيص المواطن" التي تعرضت لها فاطمة هو النخبة السياسية التي كانت متواجدة على الساحة السياسية؛ لأنها تسببت في استفراد القيادة السياسية بعملية "إدارة مصير" المواطن؛ فكان أن نتج عن هذه العملية بيع الإنسان بأرخص الأثمان!!
كذلك، رخصت فاطمة نفسها بأن باعتها إلى أقرب مشتر نظير لقمة العيش والاستقرار. وحتى عندما حاولت أن تحافظ على كرامتها بألا تبيع جسدها، عجزت عن الاستمرار، عندما رأت أن المقابل المادي لبيع الجسد سيكون هو الاستقرار المفقود، وكذلك سيكون ثمنًا أعلى من ذلك الذي حددته الدولة لكل فرد من المُهَجَّرين وهو جنيه واحد شهريًّا.....!!

نهاية الرحلة؟!
لا أحد يدري، ولا عبد القدوس نفسه، الكيفية التي انتهت بها رحلة فاطمة؛ فقد أشار في نهاية القصة إلى أنه يود أن يقابلها بعد أن تكون قد عادت إلى منزلها في منطقة القناة علها تكون قد بدأت حياة جديدة.
إلا أنه لم يشر إلى باقي الحكاية في أي من حكاياته التالية.
وكذلك لم تظهر فاطمة في كتابات أي من الكتب الآخرين.
فهل انتهت الرحلة بفاطمة كإنسانة ساقطة رخيصة؟!
يقولون إن العبور في حرب رمضان — أكتوبر قد أعاد الاعتبار إلى الشخصية المصرية، ورد كرامة المصريين. فهل انطبق هذا الأمر على فاطمة؟!
لا أحد يستطيع أن يجزم بذلك. والدليل؟! عندما جاءت مسرحية "المتزوجون" وأشارت إلى أن الشباب المصريين من حملة المؤهلات العليا يعملون في الصرف الصحي، كانت تقدم التجسيد لعبارة "الذين عبروا والذين هبروا" في إشارة إلى أن من حصدوا مكاسب النصر ليسوا هم الجنود الذين عبروا، والذين اكتفوا بأن تم تعيينهم في وظائف حكومية بعد تسريحهم من الجيش.
لا أحد يعرف أين فاطمة، ولا أحد يعرف إلى أن سارت بها الأمور، ولا إلى أين قادتها الاتجاهات بعد حرب العبور.
هل لا تزال في رحلة بيع الجسد؟!
هل استجابت للعربي الذي "تذوق" جسدها من قبل؛ فأعجبه، وطلب منها أن توافق على السفر معه لـ"تراعي" له أسرته؟!
هل صاغت مستقبلها بعد العبور تحت مظلة "استرداد الكرامة"، أم تحت شعار "الذين عبروا والذين هبروا".
لا أحد يعرف أين فاطمة...
لكن هل للهزيمة اسم واحد فقط؟!
لا أعتقد... فالهزيمة ليس اسمها فاطمة، فقط.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - عشرين مليون فاطمة
هانى شاكر ( 2014 / 3 / 27 - 20:40 )

عشرين مليون فاطمة
____________



حكم مصر عبر 70 سنة أعوج نوع من ألبشر .. أنانيتهم وجنونهم لا يجاريها مثيل فى ألتاريخ ألحديث .. دمروا ألحجر و ألشجر و ألبشر .. فتحول ألأنسان ألمصرى إلى مسخ مشوه .. يقتل ويحرق بأجرة 20 جنيه فى أليوم .. لأنه جائع ، عاطل ، مريض ، و جاهل

خلال حكم ألخمسة ألمجانين .. تكاثر ألمصريون حشريا من 15 مليون إلى 90 مليون .. تحت سمع وبصر وحكم ألخمسة ألمجرمين .. و هانت و وهنت قيمة مصر و ألمصريين ... لدرجة أن ألمصرى يبيع أبنته ب 500 دولار لعجوز خليجى .. لكى يشترى ألكيف .. حتى أن أستهلاك ألمخدرات سنوياً ألأن يفوق ميزانية ألصحة وألتعليم و ألمواصلات مجتمعين ...


لا كرامة ولا حرية ولا سلام لبلاد غير قادرة على تغذية وتعليم وطبابة مواطنيها

...

اخر الافلام

.. تزوج الممثلة التونسية يسرا الجديدى.. أمير طعيمة ينشر صورًا


.. آسر ياسين يروج لشخصيته في فيلم ولاد رزق




.. -أنا كويسة وربنا معايا-.. المخرجة منال الصيفي عن وفاة أشرف م


.. حوار من المسافة صفر | المخرجة والكاتبة المسرحيّة لينا خوري |




.. -عملت له مستشفى في البيت-.. المخرجة منال الصيفي تروي حكاية م