الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة : الصديقان

بديع الآلوسي

2014 / 3 / 27
الادب والفن


في النصف الأول من القرن الثامن عشر وتحديدا ً عام ( 1739 ) ، ولد ( براكاش الملقب ب ( فينشو )1 في مدينة دلهي بشمال الهند ، وترعرع قرب ضفاف نهر ( يامونا ) . كانت أمه إنسانة رقيقة ، تحرق البخور كل يوم وهي تردد : الحياة تستمد نسغها ليس من الصيت الفارغ بل من الحلم. هي من أورثه حب الموسيقى والرقص . في ليلة حالكة وقبل ثلاثة أيام من موتها المفاجئ ، وبينما هما يعزفان على القيثارة ، قالت له عبارة حفظها في قلبه حتى مماته : إذا كنت قد عبرت المحيط فلا يعني الأمر أنك قد انتصرت عليه .

في الأربعين من عمره وبعد أن عاد من جولته في جبال الهملايا ، تخلى عن متاع الدنيا ووزع ثروته على الفقراء والتحق بمعبد صغير يسمى ب (اللوتس )2 . معتقدا ً أن السلام الضروري سوف يجده بين البشر المسالمين . هنالك ، وبفترة وجيزة ، تمكن بأن يحظى بثقة واحترام كل الرهبان الذين كان شعارهم : يجب أن لا نفكر إلا في اللحظة الآنية .
بعد خمس سنوات صار من حقه أن يدلي برأيه الحكيم لزوار المعبد الذين طالهم الإثم أو الألم . صحيح ، انه لا يتمتع بدهاء كبير ، ولا يتكلم إلا عند الحاجة ، لكن شخصيته الغامضة كانت تسحر الجميع . بعد أن تعمد قلبه بالتقوى والورع ، بدا له أن قول الحقيقة يسبب المزيد من المتاعب ، لذلك بدأ يبتعد عن الرهبان ، وما أن يلم به الضجر حتى يذهب إلى حديقة القردة ويعزف بقيثارته ألحانا ً تذكره بمغامراته مع صديقه الأقرب إلى نفسه( تانيشان ) .
وبغض النظر عما يقال عن علاقته بصديقه الذي يعيش على السرقة والقمار . فأنه يتصدى للرهبان كلما حاولوا الإساءة لتانشيان ، و يقول بسخط :
ـ انتم لا تعرفونه .
جاء صديقة ذات مرة لزيارته ، دخل إلى المعبد كمهرج شجاع ، وكان يقبع على كتفه ببغاء رمادي ، وقال له متسائلا ً وبحزن : لماذا لا تتبعني يا براكاش ، لكي نكتشف الحقيقة معا ً ؟. اندهش من تلك الببغاء الذكي الذي ردد : بماذا تحلم ( كورما ) الآن ؟ .
الرهبان في المعبد لا تروق لهم هذه العلاقة ، فأغلبهم لا يتذكرون من تانيشان سوى ذلك اللقيط او الشاب النذل ، الذي يتباهى بأيهام الفتيات بالحب ومن ثم يتركهن ، وهو يصرخ بتلك الجملة التي تعرفها كل نساء قرية ( راليغان سيدهي ) : جئت إلى هذا العالم لأفسد قلوب النساء وتدميرهن .

انتهت العشر سنوات في المعبد بسرعة ، تعلم خلالها كثيرا ً من الأناشيد الدينية القديمة ، ومارس كثيراً من العبادات والتلاوات التي ترافق تقديم القرابين ، وكذلك أصغى إلى الأغاني التي ينشدها المريدون أثناء أقامة الصلوات وتلاوة الأدعية ، كما أنه قد قرأ كثيرا ً من مقالات السحر والرقي الهندية القديمة .

في السنتين الأخيرتين حصل على لقب الراهب المبارك ، وركز جهوده على فكرة التسامح الديني ، والتآخي بين الهندوس والمسلمين والسيخ والمسيحيين ، وبدأ يمارس شعائر كل هذه الطوائف على حد سواء

لكنه في الشهور الثلاثة الأخيرة ، حدث تغير في حياته ، فصار يخلو إلى نفسه ويقوم بجلسات تأمل طويلة ، محاولا ً التخلص من تلك الجملة ، فهي تطارده وتكاد أن تخنقه، كان يمشي على العشب سادرا ً، متذكرا ً ما قاله صديقه في آخر لقاء : أنت جبان يا براكاش .
وهكذا لم يكن أمامه من خيار سوى أن يتدبر أمره ، ظل لليال طويلة قضاها يتفحص ما يزمع القيام به ، عثر في كلمات تانيشان على الكثير من الصدق ، ولم ينس عبارته الصادمة ، حينما حذره قائلا :
ـ لم تجد الحقيقة في المعبد .
لذلك قال في خلده : هل يمكن أن يكون تانيشان هو( البوذا)3 من دون أن أدري ؟ .

ترى من كان بوسعه أن يتصور هذا التحول الرهيب . لا أحد سوى تانيشان . ما أن تسرب خبر تنازله عن لقب المبارك بين الرهبان حتى عم حزن يشبه الحداد في المعبد . في الوقت ذاته ، كان متيقنا ً من أن لو سمع صاحبه بالخبر لغنى بأعلى صوته أغنيته البذيئة ، تعبيرا ً عن فرحه الذي لا يوصف .
ثمة ثلاثة أسئلة أثارت الحيرة في قلب براكاش وتأملها جيدا ً : لماذا جاء قراره متأخرا ً ؟ وهل خضوعه لطقوس المعبد الصارمة كانت ذات جدوى ، وكيف لم يقاوم ذلك الروتين الذي يبعث في نفسه على الملل .

في الشهر الأخير تخلى تدريجيا ًعن كل المهام التي تثقل كاهله ، حينها أحس بنوع من الارتياح لم يسعد به منذ عشر سنوات . وبدأ يواظب على العزف تحت ظلال
( الأزدرخت)4 متذكرا ً فكاهة تاينشان ومرحه وحبه للقردة ، التي كان يقول عنها : هؤلاء هم أصدقائي الحقيقين يا ….
إن أكثر ما أدهش الرهبان في المعبد ، هو أنهم كانوا يشاهدونه في الأسبوعين الأخيرين يقضى نهاراته تحت المطر ، في آخر يوم ومع مغيب الشمس حسم الأمر نهائيا ً ، وصار هاجس الرحيل أمرا ً واقعا ً . عاد إلى مهجعه و تمدد على سريره ونام كطفل وليد ، متنعما ً بحاله تشبه( النيرفانا)5.

إن ما أذهل كبار الرهبان وأوقعهم في الارتباك هو هذا التحول العنيد والمليء بالأسرار ، لكنهم تابعوا مهمتهم ، محاولين وعظه وإقناعه بالعدول عن هذه الفكرة المجنونة . كان يصغي لهم مثل( يوغي)6 خَبَر معنى الانسجام بين الجسم والعقل والنفس .
قال كبير الرهبان وأكثرهم وقارا ً:
ـ هل لك أن تكشف لنا عن الدافع الحقيقي والمنطقي لهذا القرار؟
في البداية شعر براكاش ببعض الحرج ، معتقدا ً أن ما سيقوله سوف يجرح مشاعرهم ، لذلك اكتفى بتلك العبارة الغامضة : وجودي هنا صار يسبب لي ألما ً .
أمضوا ساعتين ونصف يتناقشون ، من دون أن يكون أمامهم طريق آخر ، ابتغوا معرفة : كيف سيتمكن من تدبير أموره في هذه الجبال الموحشة ؟ … ولكن قبل أن يفترقوا قال أحدهم وكان يشد مئزرا ً يستر به عورته : ـ أيها الحكيم المبارك ، سوف لا تجد خارج المعبد سوى
الحمقى والأوغاد والسفلة .
أحس براكاش انه يقصد بصورة مباشرة أو غير مباشرة تانيشان ، لكنه لم يجب وفضل الصمت .
في صباح اليوم التالي أستيقظ رهبان المعبد ، فلم يجدوا سوى ورقه صغيرة تركها على طاولة مكتبه ، كتب عليها : أجل ..لا يفسر الحرية إلا الحرية .
وبهذا ترك المعبد وتوجه إلى ذلك المكان ، حاملا ً معه قيثارته متأبطا ً كتابه المفضل عن السحر . كان منذ ثلاث سنوات يحلم بالانزواء في نهاية وادي الجنادب ، توجه إلى هنالك باحثا ً عن مبتغاه .
يطلق رعاة قرية ( راليغان سيدهي) على الكهف الصغير ، الذي التجأ أليه بمغارة الدببة ، ولكن ما ان استقر بها حتى صارت تحمل اسما ً جديدا ً هو : صومعة براكاش .
هنالك وجد فأرة بيضاء ، تسللت من جحرها واستقرت في حضنه ، وبما أنه يؤمن بتناسخ الأرواح ، فأنه أعتقد أن روح حبيبة صباه قد تقمصت شكل تلك الفأرة ، لذلك أطلق عليها ( كورما ) ، والتي صارت تسرح وتمرح بسلام في تلك الصومعة ، حيث يقوم بإطعامها بيده ، وفي أحيان كثيرة تأكل معه في إناء واحد ، وتعامل معها ككائن مقدس .
بعد شهرين ، شعر أنه قد ولد من جديد ، عندما عثر على نفسه الضائعة التي عقد معها تصالحا ًلا زَيْفَ فيه ، في تلك العزلة الباذخة بالسلام صار يحاول أن يتحرر من الأفكار السلبية والعقيمة ، التي تثقل قلوب البشر بالهموم والمواجع .
بدأ يحس بخلو قلبه من شوائب البغضاء ، لكنه في كل يوم يستيقظ ، يسأل كارما :
ــ لماذا لا يريد تانيشان أن يعترف بأن الألم تؤججه الرغبات .
صحيح انه بات منفصلا ً عن وجود الآخرين ، إلا انه قد وجد أصدقاء جدد وحقيقيين منهم : الجنادب الخضراء ، وخرير الماء ، وشجرة التين ، والنار ، والماعز البري ، والدب سامبا ، وطبعا ً الشمس والقمر كانتا من أحب الأصدقاء إلى نفسه . نعم ، صارت المفردات الصغيرة للطبيعة أهم الموضوعات لجلساته التأملية ، وصارت بديلا ً عن كل ما قام به في المعبد من جلسات مبهمة تتمحور وتركز على التأمل في الذات .
كانت هنالك سيدة طيبة النفس تمر به مرة ً كل عشرة أيام ، أنها (نيشا ) ذات الشعر المعقوص كذيل حصان ، تأتي لتجلب له البيض والعسل الأسود وقليلا ً من ما يتصدق به أهالي القرى المجاورة ، كان يقول لها بصوت واهن :
ـ لماذا تكلفي نفسك يا غاليتي ، أن الغابة تتصدق علي َ بأكثر مما أستحق .
لكن نيشا المسرفة في طيبتها ، كانت تمازحه وتضحك أحيانا ً، و تذرف الدموع احيانا ً اخرى ، حيث تقول له وهي تنظره بفضول :
ـ أني احبك أيها المجنون .
كان يبتسم ويجيبها دائما ً :
ــ وأنا أحبكم جميعا ً.
في كل مرة تأتي لزيارته ، كان يسألها عن تانيشان الذي صار يلقبه الناس ب (شيفا )7 . كانت تتعجب من سر هذه العلاقة الغريبة بينهما ، فهي لم تدرك عمق صداقتهما أو سببها . لذلك كانت تكتفي بالقول :
ـ يشاع بين الناس ، انه أصبح أكبر مقامر في دلهي .
غير أنها في أغلب الأحيان كانت تصمت حين ترى الحزن باديا ً على عيني براكاش ، وأحيانا ً تردد بعض الكلمات لتبث المرح في نفسه :
ـ أنه عجوز مثلك ، الفارق الوحيد انه يقضي كل ليلة من حياته مع امرأة .

ذات مساء وبينما هو يتأمل أثر ذلك الجرح المندمل على كف يده اليمنى ، تذكر تانيشان وكيف جرح كل منهما نفسه ووضعا الجرح على الجرح ليختلط ويتعانق الدم بالدم ، حينها قال تانيشان : الآن أطمأن قلبي ، الآن تأكد لي بأنك سوف لا تنساني .
في عزلته نسى كثيرا ً من البشر الطيبين والأشرار لكنه لم ينس صديقه ، وكيف له ان ينساه وهو الذي أنقذه ذات يوم من ذلك الإحساس الهائل باليأس . لذلك و منذ أن وصل إلى صومعة الدببة لم يستطع التحرر أو إسكات هاذين السؤالين :
ـ هل تعلم كم أحبك يا تانيشان ؟ ، ومتى ستخصني بالزيارة ؟
كانت الأيام تمر كغيوم يطاردها تنين . وذات مساء وبينما هو منشغل بجمع الأغصان ، تسرب إلى ذهنه صوت يغني بشجن ، صوت ألفه منذ الصغر ، أرتجف لسماعه قلبه فرحا ً ، أحس أن هذا الإيقاع من الإنشاد لا يصدر إلا من قلب صديقه ، ترك ما يشغله محاولا ً التأكد من ما يسمعه ، بدأ الصوت يتضح ، وتحول الى صراخ يزعج كل الكائنات التي في الوادي ، أحس أن روح عنيفة تصرخ مستنجدة ً ، كغريق أصابه الهلع ولم يبق في عينيه سوى الدهشة.
في هذه اللحظات المضطربة ، براكاش لم يسمع بوضوح سوى :
ـ أينك يا مَن قتلتك الحكمة الزائفة ؟ ..
كادت تلك الكلمات أن تصرعه ، مؤكدة ً تلك الحقيقة التي بسببها قاطعهُ أهالي راليغان سيدهي ، إذ حقد عليه كثيرا ً منهم ولم يغفروا له حادثة تركه المعبد واختياره ذلك المسلك الفردي .

صار يلوح ويذرف الدموع فرحا ً ، مجيبا ً بنفس الكلمات التي كانا يتبادلانها حينما يكونان سعيدان : أنا بانتظارك يا طيب القلب .
كانت خطوات يانيشان تدك الأرض وتدلل على جسارته ، وعيناه يتطاير منهما الشر أو الغضب من كل البشر ، أتى هذه المرة قابضا ً بيده اليسرى على بندقية صيد قديمة ، وما أن رأت الببغاء وجه براكاش حتى بدأت تردد : بماذا تحلم كورما الآن ؟ .
أحس بالأسى ، متوقعا ً أن صاحبه جاء لمحاصرة صديقة الدب سامبا وقتله ، أو للتمتع بصيد الماعز البري ، الذي يأتي كل مساء ليرتوي بسلام من عين الماء القريبة من الصومعة . كانت السماء حبلى بغيوم قرمزية ، وهما يتعانقان بحرارة لم يعهداها ، قال تاشيان :
ـ أني لم أجد صديقا ً يليق بي سواك ، أتيت لأبوح لك بكل شيء .
ظن براكاش أن صاحبه ، ربما تمادى في مغريات الحياة ، لذا جاءه أخيرا ً ليصغي إلى نصيحة تجنبه ذلك الألم الناتج عن فوضى الحواس .
لم يتوقع أبدا ً ان صاحبه يبيت له أمرا ً مريبا ً ، لذلك كان يصغي الى ثرثرته السمجة وحماقاته البذيئة التي اعتادها منه ، وكان يحسده أحيانا ً ، لأنه يعرف جيدا ً أن تانيشان يحمل قلب أسد وعقل غوريلا ، وانه طاهر برغم تعرضه للإهانة والحيف .
وحين تأججت النار في الموقد الذي كان أمام الصومعة .. سأله :
ــ لماذا جئت اليوم ؟ .. أني أنتظرك هنا منذ ستة أشهر . أبتسم ثم أردف :
ـ لكن كان قلبي ينبؤني أنك ستحضر .
كاد تانيشان أن يقول له ، أني أفكر فيك دائما ً ، لكني آتي في اللحظة المناسبة ومتى أشاء . أما براكاش فقد واصل محاولاته لقراءة ما في عيني صاحبه أو حقيقة ذلك الكابوس المخيف ، وشعر بالانزعاج أكثر حين رآه يمسك بكلتا يديه وبشدة على بندقيته ، حين حدق بوجه صاحبه رأى يأسا ً مخيفا ً، جعله يتساءل في خلده : ما الذي جرى لك يا صاحبي ؟
كانت عيناهما تتقاطان بخشية وحذر . تانشيان لا يريد لصاحبه ان يعلم بما ينوي فعله . كذلك براكاش ، كان يقضا ً لما يتربص به ، محاولا ً تجاوز هاجس الخوف عبر تكرار تعويذته السحرية .
قال المقامر وهو يضحك : أنا غريب الأطوار ، كما عهدتي .
هنا غير براكاش نبرة صوته وقال مبتسما : وأنا غريب الأطوار أيضا ً .
لكن أكثر ما أضحكهما هو ما يتردد من أقاويل تؤكد أنهما أكبر فاشلين في رالغان سيدهي .
وعادت بهما الذكريات إلى أجمل اللحظات السعيدة والنادرة ، التي قضياها بمغازله الفتيات على ضفاف نهر يامونا . تحدثا معاً أحاديث مسهبة عن تلك الصبية الحسناء الوديعة كورما ، التي وهبت قلبها لهما معا ً، و لشدة اهتمامها بها كانا يلقبانها ب ( كاماديفا )8 ، لأنها كانت تثير مشاعرهما بدغدغات ناعمة ، لذلك نسيا كل النساء و لم يبق في خلديهما سوى عطر كورما الساحر، التي انتحرت لتطفأ نار الغيرة المفترسة في قلبيهما .
اخرج تانيشان من حقيبته الجلدية زجاجة أنيقة ، وشرع بالحديث قائلا ً :
ـ أنها أفضل خمرة ، لكنها لاذعة .
بعد أن أرتشف عدة جرعات أردف قائلا ً :
ـ أن حياتنا لم تعد تطاق .
ـ ما الذي يشغل بالك ؟
من المؤكد إنهما خاضا تجارب مختلفة وجريئة ، جعلتهما مُختلفي المزاج ، خاصة ً في التعامل مع موضوعتي اللذة والغضب . نعم ، أن المغامر الملعون كان يفكر بهاجس ملعون ، فقد قرر أن يقتل صاحبة ، لأنه يحبه ويشفق عليه حد الجنون .
بعد أن انطفأت النار ، دخلا إلى الصومعة . كانت نصف شمعة تتوسطهما وتنير لهما طريق الأحاديث . مع أن نوبة الغضب لم تهدأ في قلب تانشيان، لكنه فرح ما أن سمع صاحبه يقول له بمحبة :
ـ أجلس ! هيا اسمعني أغنية عاهرة المدينة .
لحظتئذ ، أغمض تانيشان عينيه الشريريتين وأجاب بهدوء عجيب :
ـ يعلم ( كريشنا)9 لماذا لا أستطيع غناءها اليوم ، لكني أ ُفَضل ُ أن تعزف لي معزوفتنا المفضلة .
ـ التي تحبها كورما ؟ ، تعني معزوفة الغراب الأسود والغراب الأبيض ؟
ـ نعم ، ربما تساعدني على تجاوز المحنة .
كان يوما ً مكفهرا ً والرطوبة تتغلغل في العظام . كانا يقاومان كل ذلك بمزاج متقلب ، لكن براكاش أحس أن ضحكات صاحبه الهستيريه لم تنم سوى عن وجع غامض أو فكرة مجنونه يتعذر عليه التكهن بها .
ودون تردد ، مد تانيشان يده التي أظهرت بوضوح ذلك الجرح القديم، وقال بتوسل :
ـ أرجوك ، أحتسي قليلا ً من هذه الخمرة الذهبية .
ـ هل نسيت ، إني زهدتها..
أحس المقامر بالأهانه ، جحظت عيناه ، تعالا صوته ، حتى أن الفأرة كورما بدأت ترتعد ، وبوجع قال : أشرب اليوم لأجلي واترك الزهد ، وإلا قتلتك .
تطلع ببرود براكاش بصاحبه ، اخذ القنينة وتأملها وردد كلماته السحرية ، وبدأ يحتسي على مهل ، لا خوفا ً من الفكرة المجنونة بل إكراما ً لحضور أعز صديق لديه.
وعاد يصغي إلى روح صديقه ، الذي باغته بتلك الجملة التي ما أن سمعها حتى فتح عينيه كمن يستفيق من إغفاءة مزعجة :
ـ يجب أن نضع حدا ً للألم بعد أن فقدنا الرضا .
صمتا بعض الوقت ، حينها فكر براكاش بما يجب قوله :
ـ باسم الجرح والقسم الذي تعاهدنا عليه معا ً ، بماذا تفكر يا تانيشان ؟
حينها شعر المقامر بالارتياح ، لذلك ودون تردد قال :
ـ أشعر أننا كجرذيين محاصرين . صمت ثم أردف :
ـ أنني لم اعد أحتمل تفاهات الحياة ، إلى متى نتحمل الألم يا براكاش ؟
ـ هروبي من المعبد ، خير جواب على سؤالك .
حاولا ولساعتين أن يفكراً بتلك التفاصيل المزعجة ، التي وإن اختلفا على تفسيرها ، لكنها في نهاية المطاف كانت تعود بهما إلى جذر ذلك السؤال : هل قلق الحياة سيطاردنا في العالم السرمدي ؟
سار كل شيء على ما يرام ، بعد أن تحاورا حول كلمات البوذا التي تقول : تجاوز الغضب بالحب . لكن تانيشان بدأ ينظر إلى الشمعة وينفخ فيها محاولا ً إطفاءها .
قررا ترك الصومعة لكي لا تسمع كورما وتموت من الألم ، وكذلك فأنهم خرجا ليتنفسا هواء الغابة والربيع . حينها كان تانيشان كذئب جريح لا يريد أن يحيد عن التفكير بتلك القضية التي ما أن قالها لبراكاش حتى فرك عينيه غير مصدق :
ـ اني خسرت كل شيء ، ، ولم يبق لي غير حبي لك . صمت ثم قال بوجع :
ـ ستقول أني مقامر أحمق ، يفضل الانتحار والهرب .
كان خرير الماء ينساب بين الأدغال منذهلا ًمما نطق به تانيشان ، كذلك الجنادب الخضراء صمتت ما أن سمعت براكاش يقول :
ـ فضيع كل ذلك ، لكني أجد أنك صادق وجريء ..صمت تم أردف :
ـ أرجوك تريث ، وأعلم بأنه ليس لي صديق سواك .
خيم هدوء عجيب ، كان القمر يلقي عليهما بنوره الحزين ، ذارفا ً الدموع بسببهما ، حينها أراد براكاش أن يقول لصاحبه ، إن عذابات الحياة تطهرنا .. لكن قلبه خفق وبحذر قال :
ــ أرجو أن تنحي البندقية جانبا ً .
لم يفكرا بالأكل أو يقلقهما البرد كثيرا ً ، اكتفيا في تلك الليلة الموحشة بالخمرة اللاذعة ، التي أهاجت روحيهما وأزالت تلك الحواجز التي اعترضت طريقهما .
كان الزمن يمر بسرعة ، والمقامر لم يتمكن من البوح بما في قرارة نفسه . رغب أن يوصل لصاحبه أن لكل إنسان طاقة للتحمل ، وأن إنهاء الألم دلاله على الشجاعة . تحول الليل تدريجيا ً إلى سديم مذهل مصبوغ بضوء القمر الفضي الفاتن ، لكن ما يدعو إلى الذهول أنهما شعرا باليأس والأمل في آن واحد .
في تلك الأثناء استرسل تانيشان في الحديث مطولا ً، أجهد نفسه ليعبر لصديقه عن مفهومه للحب ، وكيف انه لم يعشق من النساء إلا كارما التي لم يلمسها أو يلوثها بمخالبه القذرة .
لحظة الصمت والشكوى الطويلة ، أحالت براكاش وأعادته إلى نقطة الصفر ، وكيف كان لقاءهما الأول ، فهو لم ينس ذلك النهار. كان حينها لم يتجاوز الخمس سنوات ، حين خرج يبحث في الغابة عن نبات( الغاجا)10 ، ليهديها لأمه التي كانت تكابد الألم ، متمنيا إعادة الابتسامة والمرح إلى نفسها ، وبما انه لم يكتشف بعد مسالك الدروب ، فقد ضاع في الأدغال ، أنها تجربته الأولى في التمادي والذهاب بعيدا ً ، صار يبكي ، لا خوفا ً من الذئاب بل من إحساسه الهائل باليأس ، لكن في لحظات التيه تلك سمع صوتا ً يغني أغنية ً بذيئة ، حينها تشبث بالأمل ما أن رآه ، حتى ابتسم له ذلك الصبي ، الذي بذكاء وفكاهة قال له مشيرا إلى السماء المدلهمة :
ـ أنا من سأدلك على الطريق ، لكن إعلم ، إن لم تتوقف عن البكاء ستنزل الصاعقة وتقتلك .
منذ تلك الحادثة ، وهما يحتفلان كل سنه بيوم لقاءهما ، ويرددان نفس الجملة : حمدا ً لكريشنا ، إننا سنبقى جسدين بروح واحد .
في الساعة التاسعة من تلك الليلة وقبل أن تشرف قنينة الخمر على الانتهاء ، قال براكاش وهو يعاني من غم عميق :
ــ لقد أنذرتك من التمادي بالملذات .
ـ لكني شرحت لك حين افترقنا آخر مرة ، أن الحياة كزهرة اللوتس .
لم يجرؤ براكاش أن يجيب بشيء ، لأنه يعرف جيداً تلك الحقيقة ، التي تؤكد أن وردة اللوتس تطفو على سطح الماء لكن جذورها تتغلغل في قعر المستنقع وتتغذى من الخيسَة النتنة . سرت في جسده قشعريرة إثر تصويب فوهة البندقية نحوه ، على الرغم من ذلك استجمع شجاعته وقال بهدوء :
ـ فعلا ً يا صديقي تانيشان .
قبل منتصف الليل بقليل ، انبثقت عن ذهنيهما تفاصيل قصة تثير البكاء والضحك في آن واحد . حينها فقد براكاش سلسله أفكاره بدأ يتلعثم بكلام غير مفهوم ، لكنه ختم حديثه قائلا ً :
ـ أقول لك كل ذلك لأجنبك ما تنوي القيام به .
داهمت تانيشان أفكار كثيرة وتوقع أن سره على الأرجح قد أنكشف ، لكنه رد باسما ً :
ـ ماذا تريد أن تجنبني ؟
كانت هذه المرة الأولى التي تمنى براكاش رؤية وجه صاحبه ، لكن الظلام الرمادي لم يمنحه هذه الفرصة ليتأكد أن كان مبتهجا ً أو عبوسا ً ، بالرغم من ذلك ، وبحذر شديد قال :
ـ أنتبه .
ـ أنتبه إلى ماذا ! ، أنت ساذج يا براكاش.
أثارت تلك الكلمات موجة ً من الحزن في روح براكاش ، الذي عالجه بصمت طويل ، مرددا ًفي خلده تعويذته السحرية التي تعلمها من سحرة جبال الهملايا .
من المؤكد أنه أرد أن يقول له أشياء كثيرة ، منها : مفهومه حول الانسجام الذي تعلمه من خرير الماء ، وعن طاقة الحب التي تعلمها من الفأرة البيضاء ، كما تمنى أن يوصل له رؤيته عن السكون والحركة التي تعلمها من القيثارة، وأحب أن يكشف له أن العالم امتزاج كينونتين هما الذكورة والأنوثة .
كانا شبه ثملين ، لذا أرجأ الحديث عن دور الحواس في تشويش الروح وإرباكها ، حتى أن براكاش لم يقل له تلك الكلمات التي تقول : ( إن المعلوم في هذا الكون ، يلعب مع المجهول لعبه التخفّي ) 11 .
بعدها صمتا وكأن الكلمات فرت من ذهنيهما ، وبقى كل منهما جالس على صخرته يتأمل نجمة بعيدة باهته ،
فجأة ً وبدافع غريزي توثب تانيشان متحفزا ً ، ودون أن يقول أي كلمة وداع ، حث الخطى هاربا ً . حتى أن براكاش لم يعد يسمع سوى ما يردده الببغاء : بماذا تحلم ( كورما ) الآن ؟
هذا الرحيل المباغت والبارد كالثلج ، أربك صفاء ذهن براكاش ، وزاد من حيرته ودهشتة ، حين تذكر قول تانيشان : ثق أننا لا نعثر على السلام في أي مكان .
بعد ثلاث دقائق ، وبينما هو يهم بالدخول إلى صومعته ، سمع تلك ألإطلاقه التي أفزعت كورما ، ودون شعور منه ، صرخ جزعا ً ، كمن خلعوا فؤاده من بين ضلوعه : آه .. لماذا كل ذلك ... ؟.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ انتهى ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ فينشو : اسم آلهة في الهند ، ويسمونه الحافظ ، مهمته الحفاظ على العالم
2 ـ اللوتس : نبات مائي مزهر ، زهرته مقدسة عند الهنود ، لأنهم يعتقدون
أن الإله فيشو وكذلك البوذا قد انبثقا من زهرة اللوتس
3 ـ البوذا : هو ( سيدهارتا ) الذي ولد سنة 568 ق م ، وهومؤسس الفلسفة
البوذية لأنه نال لقب الحكيم أو المستنير

4 ـ الأزدرخت : شجرة يطلق عليها في الهند اسم (صيدلية القرية) وقد يمتد
عمرها في الغابة إلى ألمائتي سنة
5 ـ النيرفانا : هي حالة الانطفاء الكامل التي يصل لها الإنسان بعد فترة طويلة من
التأمل العميق ، وصفها بوذا : أنها حالة السلام التام للروح .
6 ـ اليوغي : هو من يمارس اليوغا وهي مجموعة من الطقوس الروحية القديمة
أصلها الهند، وتهدف الى اتحاد روح الفرد بالروح الكونية
7 ـ شيفا : هو إله الهلاك والفناء والدمار
8 ـ كاماديفا : إله الحب في الهند ، وتؤدى له الرقصات كي يعود إلى الحياة ، بعد
أن أحرقه الإله شيفا وحوله إلى رماد .
9 ـ كريشنا : يعني الأسود أو المظلم أحد آلهة الحضارة الهندية الكبار ، وقيل أن
كريشنا كان له 16 ألف زوجة ومات عندما أصابه صياد بطريق الخطأ في
قدمه ومات بسبب السهم المسمومة .
10 ـ الغاجا :نبات ذو تأثيرات مخدرة وله تسميات عديدة منها (ماريغوانا )
11 ــ هذه البيت من الشعر ، مستل من قصيدة للشاعر طاغور



10/10 / 2013








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا