الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من دفاتر الطفولة

نورا جبران

2014 / 3 / 28
الادب والفن


أولعت في عمر الطفولة بعبقريات العقاد، التي قادتني إليه، وفتحت الطريق أمامي لمعاقرة أدبه النفيس.. في مكتبة العقاد قرأت قبل أن أنهي المدرسة الإعدادية سيرة حياته، وعبقرياته، وروح المهاتما غاندي، والتفكير فريضة إسلامية، وهدية الكروان، وحياة قلم، وابن رشد، ومطالعات في الكتب والحياة. والحقيقة أن بعض هذه الكتب شق علي سبره فكنت أستعين بين الحين والآخر بمعلمة اللغة العربية لفك طلاسم الأفكار والكلمات، وقد استفدت منها جدا فما يتعلق بالكلمات، إلا أنني اكتشفت بعد سنوات أن استعانتي بها في مجال الأفكار كانت سقطة كبرى، فالمعلمة المؤتمنة على عقلي فرضت وصاية أفكارها وقيمها على عقلي الصغير وأشبعتني بالشبهات!
استوقفني أن أخشى ما كان يخشاه العقاد أن لا تكون في الجنة مكتبة! كان لا يتصور حياة الخلود بلا كتب ومكتبة، ويتخيل الحياة بدونها مملة جداً!
قرأت في تلك المرحلة من حياتي أيضا أدب جبران، كان أول ما جذب انتباهي اتحادنا في اسم الأم والعائلة، ثم حين قرأت في سيرته الذاتية وجدت الكثير مما نتشاركه على مستوى الحياة الخاصة والأحداث الشخصية، حين بدأت قراءة كتبه أدركت الكثير مما يمكن لمن خُلق مأخوذا بالحب والخير والجمال والوطن أن يتشاركه مع العظيم جبران، قرأت الأجنحة المتكسرة، ثم "النبي" الذي اخترته ليكون ضمن قراءاتي لمسابقة أوائل المطالعين، في أول مشاركة لي فيها، كان عمري حينها 12 سنة، فاعترضت أمينة المكتبة وقالت بأنه صعب، وبأن المحكمين لن يجدوا في كتاب فلسفي كهذا ما يسألونني عنه، فعقدت معها اتفاقا ملفقاً بأن أقرأه ولا أشارك به في المسابقة، ثم وضعته في قائمة الملخصات التي قدمتها للجنة الامتحان، تفاجأ المُمتحِنون باسم الكتاب، فخاطبني أحدهم ضاحكاً: حدثيني عن كتاب النبي؟ فاعترضت زميلة له، قائلةً أن الكتاب صعب على فتاةً في مثل سني، فابتسم، وقال: حدثيني فقط عما أعجبك في الكتاب، فأجبته بأن جبران يحب أكثر أربعة أشياء أحببتها في حياتي، وملكت عليه قصائده على لسان الحكيم، جذبتهُ العبارة واسترعت انتباهه، فسألني وما هي هذه الأشياء؟
قلت: الوطن والجمال والخير والمحبة.. وكلما قرأت في هذه الموضوعات أكثر شعرت بجوع أكبر في أعماقي..
فقال: أضيفي إليها الفوز إذن!
مبكراً أيضا عرفت الشاعر الإيرلندي أوسكار وايلد، كانت قصائده التي تكفّل صديق الطفولة والمراهقة آنذاك بترجمتها لي، ليقنعني أنه شاعر عبقري، جميلة، زاخرة بأفكاره الثائرة على كل ما هو تقليدي، وربما يكون قد استلهم روح أمه الأديبة الوطنية الثائرة.
كان أجمل ما قرأت لوايلد قصيدته "إن الجمال يبكيني".. بقيت هذه القصيدة تلح علي طويلا، كانت أفكارها وكلماتها موضوع نقاش مع الصديق المعجب بأوسكار زمناً، كنت أشعر أنني ألتقي مع الشاعر في تفاصيل الشعور.. كنت ولا زلت أبكي كلما هبت على روحي نفحة من جمال.. جمال الروح والنفس والجسد.. رائحة التراب بعد المطر تثير شهيتي للحياة.. ضحكات الأطفال الآسرة.. دموعهم الطاهرة.. قصص الحب.. فكرة الوطن.. الشعور بالانتماء إلى شيء أو آخر.. قطرة المطر تداعب أول بروز في الجسد.. وقع الندى على رقة الياسمين.. رائحة القهوة والزعتر.. شطائر الجبن الذائبة.. سكرة الروح بعد الوصل.. الصمت في حرم الجمال.. خفقات الذاكرة المحملة بالحنين.. لذة العطاء.. روعة التمرد على زيف القيود..
لماذا يبكيني الجمال؟!.. بقي هذا السؤال يحيرني حتى قرأت ابن القيّم، في سنيّ بحثي عن حقيقة الله، كان يقول: "العين تتبع القلب، فإذا رق القلب دمعت العين!!" فكّرت حينها، ولا زلت أفكر: أي شيء يمكنه أن يأخذ بشغاف القلب كما يفعل الجمال، وكل ما يأخذ بشغاف القلب يستجلب ماء العين! ولكن القلوب لا تتشابه، كما لا تتشابه العيون.. بعض القلوب لا ترق! كما أن بعض العيون عصي عليها أن تدمع!

كان الأشخاص الأكثر قدرة على تذوق الجمال دائماً، هم الأقرب إلى نفسي، والأكثر انسجاما مع عقلي.. ومع مرور الوقت بدأت أشعر أنهم قلة، أو أن البشر لا يمنحون أنفسهم فرصة تذوق الجمال، أو ربما لا يكبدون أنفسهم عناء تذوقه، علاوة على البحث عنه.. بعض البشر لا يستعذبون من الجمال إلا ما وافق هواههم، وارتبط بشخوصهم، ولا يفهمون من الحب إلا ما قدّس ذواته، ولا يجيدون من الفرح إلا ما جعل منهم في مقدمة الحضور، وهؤلاء يفوتهم جمال وفرحٌ كثير..
تعلمت مع مرور الوقت ألّا أقترب من هؤلاء، لأنه ما من متسع في قلوبهم لعطاء الحب، ولا لضجيج الفرح..
أذكر –وأعتقد أن ذاكرتي لن تسعفني بالكلمات، ولكنها ستسعفني بتفاصيل الأفكار- أنني كتبت إلى ذلك الصديق قبل رحيل طفولتنا، ورحيله إلى أقاصي العالم: "بعض الكتب عابرة.. بعض الأماكن عابرة.. بعض البشر عابرون، حتى وإن شاركونا تفاصيل حياتنا العمر كله، ففي الروح غربة، لا يؤنس وحشتها سوى شقائق الروح، أولئك البشر الذي ترتقي ذائقتهم وتخف أرواحهم إلى الحدّ الذي لا نشعر معه بوقع خطاهم حولنا.. أولئك الذين خُلقوا على تنافر مع الفضول، وقطيعة مع فرض ذواتهم على الآخرين، متجردين من الوصاية على عقول الناس ورغباتهم وحتى كلماتهم، ولدوا متمردين على عادية الحياة، فمنحوها بتفردهم قيمة الحياة..
وأنه رد قائلاً:
تستعذب الفراشات الاحتراق بنار الهوى.. وإن كانت لا تعلم أنه حتفها.. ولكن الأماني لا تموت .. والأرواح الجميلة لا تعرف الغياب.. تتباعد الأجساد قاراتٍ ودهوراً، ولكن ما سكن النفس عميقاً لا يغادرها أبداً، ولا تغادرها خواطره..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب