الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في السلطة والأخلاق

فراس المصري

2014 / 3 / 31
مواضيع وابحاث سياسية


أثناء تخصصي في طب العائلة قدمت لي المشرفة التعليمية ـ وكان من عادتها تقديم هدية في نهاية كل سنة ـ هدية وهي عبارة عن كتاب الأمير لميكيافيلي باللغة السويدية، وكانت تعلم عن نشاطي السياسي وقتئذٍ، ولا أدري ما الفكرة التي دفعتها لإهدائي هذا الكتاب بالذات تلك السنة. وربما يرجع ذلك لارتباط السياسة بأفكار ميكيافيلي في الأذهان والتي تبرر الوسائل غير الأخلاقية للوصول إلى الغايات ، فأمير ميكيافيلي لا يبدي للملأ إلا صفات الصلاح والكرم والشرف بينما هو في الخفاء لا يتورع عن اقتراف الجرائم والرذائل في سبيل مصلحة تخدم سلطته. وربما كانت المشرفة الدراسية تريد تنبيهي لكي لا أقع في مزالق وسيئات السياسة. وعلى كل حال فقد وجدت هذا الصنف الميكيافيلي في كثير ممن يعمل ليس فقط في السياسة وإنما أيضاً في ضروب العمل العام المختلفة. مؤخراً شاهدت المسلسل الأمريكي "بيت البطاقات" الذي يصور كيف يحيك بطل المسلسل السياسي فرانك عضو الكونغرس المكائد ويرتكب كل المحظورات والجرائم ليصل أخيراً إلى منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. السياسي فرانك هو تطبيق معاصر لمبادئ ميكيافيلي في "الأمير". وفي كل العصور والبيئات كان للمكر والكيد دوره وأساليبه. المكر في اللغة يعني التخطيط لأمر في الخفاء قد يكون سيئاً وقد يكون نافعاً فيه مصلحة
وحكمة. أما الكيد أو المكيدة فهو الجانب التنفيذي والتطبيقي لمخطط المكر. السياسة في حقيقتها هي نشاط وممارسة تهدف لخدمة الناس وتحقيق مصالحهم وفق مبادئ نبيلة سامية حالها كحال الأنشطة الدينية والوظائف الإنسانية والثقافية المختلفة. لكن في الممارسة الواقعية وفي سياق الصراع والتنافس قد يستخدم العاملون في المجال السياسي والشأن العام أشكال المكر والمكيدة مما يؤدي إلى مفاسد ومشكلات عديدة إن لم تكن هناك قواعد ضابطة وممارسة ذات شفافية. وفي القرآن ورد المكر في مواضع عديدة (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) و (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ )، فليس كل مكر هو شر وضرر بل قد يكون لاتقاء شر ودفع ظلم وتحصيل حقوق. وكذلك الكيد ذكر في عديد من الآيات القرآنية ( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً. وَأَكِيدُ كَيْداً) وفي لسان العرب الكيد هو التدبير بباطل أو حق، فالكيد هو القيام بأعمال تؤثر على آخرين على نحو لا يريدونه وليس بالضرورة أن يكون مآل ذلك إلى الشر بل قد يكون إلى الخير.
ويظل منهج ميكيافيلي في الواقعية السياسية يستلهم القادة والساسة حتى يومنا هذا وخاصة الطغاة والمستبدين ، منهج يقوم على فصل الأخلاق عن السياسة واعتبار الدين ضرورياً لخدمة السلطة الحاكمة لا لخدمة الفضيلة ولكن لتمكينها من السيطرة على الناس. ورغم بزوغ شمس نظرية العقد الاجتماعي في بناء الدولة القائمة على القبول والتراضي إلا أن أفكار ميكيافيلي لازالت سارية المفعول في الصراع السياسي وخاصة في العلاقات الدولية.
ومن باب المقارنة نذكر خطبة أبي بكر الصديق يوم تولى الخلافة وفيها يقول: ( أيها الناس! لقد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق ). فأبو بكر الصديق الخليفة الأول في الدولة اللإسلامية الوليدة يقدم منهجاً سياسياً وبرنامجاً للحاكم والمسؤول مستوحىً من قيم الإسلام الأخلاقية ومنسجم مع المفهوم الحديث للدولة في اعتبار الحاكم أو المسؤول هو شخص منتخب من الشعب أو مجموعة من الناس ومفوض من قبلهم بأداء مهام معينة بكل صدق وأمانة وهو مستعد للمحاسبة أمام من كلفه بهذه المسؤولية.
لكن دائما كان هناك صعوبة في تلاقي الأخلاق مع السلطة مهما كانت عقيدة أو توجه من بيده السلطة ، لأن حيازة السلطة تمنح صاحبها حرية أكبر في التصرف دون حاجة للرجوع إلى الآخرين، مما يجعله لا يشعر بضرورة الالتزام بالمعايير الأخلاقية. والسلطة في مصدرها والولاءات التي تنسجها تختلف بين حركة مدنية السلطة فيها مستمدة من الأعضاء وبين مؤسسة أو منظمة أو شركة ذات طابع مهني تخصصي تنشأ فيها السلطة من القمة، ومنها تتم توزيع الوظائف والمهام. لكن قد يحدث تداخل بين هذين النمطين حين تتوسع مشاريع الحركة ذات الطابع المدني والنفع العام لتضم مؤسسات وربما شركات يقوم بإدارتها وتشغيلها موظفون متفرغون وعندها تتكون شبكة مصالح وربما تظهر عمليات فساد.
وفي مختلف الثقافات والانتماءات السياسية والدينية نجد ظاهرة فساد السلطة وميلها للإنحراف الأخلاقي إذا تم تركيز السلطة في أيد محدودة العدد مع عدم وضع ضوابط أو أنظمة رقابية كافية. واحتمال الانحراف الأخلاقي هذا لا نجده في السلطة السياسية فحسب، ولكن في كل أصناف السلطة.
وعلى عكس السياسيين فإن كبار رجال المال والأعمال غالباً لا يخضعون لنفس الدرجة من الرقابة والمحاسبة من مجالس الإدارة أومن المتابعة من قبل عيون الإعلاميين وعموم الناس، لا سيما إذا كانت مجالسها تفتقر إلى الكفاءة اللازمة وكان تأثير ونفوذ مديري هذه الشركات يمتد إلى أعضاء المجالس الذين من المفترض أن يمثلوا الجهة الرقابية. فشل مجالس إدارة الشركات في ممارسة رقابة فعالة على الشركات أدى إلى إصدار قانون ساربينز أوكسلي في الولايات المتحدة الأمريكية بعد الفضائح المالية والانهيار الذي ضرب شركات كبرى. ولا شك أن السلطة المطلقة في أيدي عدد قليل جداً هو وصفة للفشل الذريع، ولا سيما عندما تتغلب المصالح الخاصة على المصلحة العامة عند من بيدهم زمام السلطة.
السلطة هي إذن مجرد أداة يمكن أن تكون مصدر شر وإفساد وانفصال عن الإخلاق في يد أصحابها في حال كانت مطلقة غير منضبطة، بينما إذا كانت خاضعة لنظام ورقابة تجعل من هذه السلطة أداة للنفع العام لا الخاص تمارس صلاحياتها بحكمة دون استغلال أو إساءة، عندها تكون السلطة سبباً في التقدم والنمو والنجاح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحوثيون يعلنون بدء تنفيذ -المرحلة الرابعة- من التصعيد ضد إس


.. مصادرنا: استهداف مسيرة إسرائيلية لسيارة في بنت جبيل جنوبي لب




.. تصاعد حدة الاشتباكات على طول خط الجبهة بين القوات الأوكرانية


.. مصادر عربية متفائلة بمحادثات القاهرة.. وتل أبيب تقول إنها لم




.. بروفايل | وفاة الداعية والمفكر والسياسي السوري عصام العطار