الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صراعات الوعي العربي تاريخياً (7)

عبدالله خليفة

2014 / 4 / 1
مواضيع وابحاث سياسية



ترافق مع نشوء المثالية البطيء المتعثر نمو المثالية الذاتية ببطءٍ وتعثر كذلك، فقد كانت أعمال التجريبية المنطقية وترجمة الفلسفة الوجودية والبرجماتية تتصاعد، كما رأينا في أعمال زكي نجيب محمود وعبدالرحمن بدوي وغيرهما، وكان لهذا النمو عدة أهداف وخاصة هدفه الرئيسي بعزلِ الدين عن ظاهرات الوعي الحديث وحفر مجرى تحديثي بدون الدخول في معركة معه بل تحييده، ولهذا ركزت التجريبية المنطقية على العلوم الطبيعية وتشكيل مجرى تبريري لها، وهي قد أخذت هذا المجرى منذ الفلسفة الإسلامية الوسيطة، فلم تدخل المعركة الحقيقية وهي معركة العلوم الاجتماعية.
كان جعلُ الحقيقةِ تجريبيةً ذاتية، وعدمُ قراءة القانون العام في الظاهرات، عمليةً تحصرُ الفلسفةَ بنتائجِ المعامل غير الموجودة باتساع في المنطقة، وهذا ما جعل التجريبيةُ المنطقية لا تتغذى على هذا الفتات العلمي، فلم يكن هناك تلامس بين التجريبية العربية ونتائج هذه العلوم، ولا تحليلات غنية أو فقيرة لها، مما جعل زكي نجيب محمود يترك هذه اليافطات الغربية البراقة ويدخل في تحليل للتراث والوعي السائد بتلك التجريبية الانتقائية التي رفضت قراءة القوانين في البُنى الاجتماعية.
اعتمد زكي نجيب محمود على تطبيق معيار الفائدة، فالظواهر والنتاجات المفيدة لـ(الأنا) الاجتماعية التي يعبرُ عنها هي التي تــُنقلُ من التراث، وهو كذاتٍ تحديثيةٍ يتوجهُ للظواهر المفيدة والمضيئة القديمة ويحاول بعثها، لكن هذا هو معيارٌ ذاتي، قد يعودُ لجماعةٍ تماثل المفكر هنا، ولكن ثمة جماعات كبرى سوف تستعيد ما هو مفيد لها، وقد تتعارض العمليتان، أو قد يقوم وعي زكي نجيب بتبرير الاستعادات غير المضيئة الأخرى.
فيشكل هذا معياراً ذاتياً لا يقوم بدرس التراث درساً علمياً، ويكشف مختلف تجلياته وتناقضاته بغض النظر عن الفائدة الذاتية.
وهذا ما تفعلهُ الوجودية حين تتراءى لها ظاهرات التاريخ بوصفها أعمالاً فرديةً عبقرية، فكأن إضاءات التاريخ هي إنجازات (الأنا الفردية).
وكل هذه الاقتطاعات من التاريخ والتراث تقودنا إلى إسقاطات ذاتية على الوجود الموضوعي، وليس إلى عملية تشريح علمية لتلك السيرورة التاريخية والفكرية المركبة والمعقدة.
وهنا سنجد أن الفئات الوسطى التي انبثق منها هؤلاء المفكرون تركز على أناها الذاتية، فمصالحها الشخصية - العامة هي في بؤرة نظرتها، وهي تقطعُ وشائجها بهذه الفئات نفسها التي تنبثق منها، فهي لا تقيمُ دائرة واسعة بشرية، ويتركز عملها على النشر، وهذا النشر الواسع والمهم لا يقود إلى انتشار مثل هذا الوعي.
إنه يقود إلى الاهتمام بالواقع والتراث وبعثِ نصوصٍ مهمة ونشر معلومات قيمة ولكن لا يحيل هذه النظرات الفردية إلى تيار مؤثر، لكنه ينشر فكرة النفعية ويبررها، وهو وعي يقوي الوعي التقليدي الذي ينظر للواقع والتراث من جانب تكريس هياكله المحافظة وتوظيف العناصر السلبية من التراث ولكن بذات النظرة النفعية وإن كانت الأهداف مختلفة كلياً.
فكما رأينا عبدالرحمن بدوي وكيف راح يعثر عبر بحوث طويلة وشاقة على البذور المضيئة الفردية، وهي في معزل عن التشكيلتين الإقطاعية التي انبثقت داخلها، فلم تستطع فرديتها أن تفجر ثورة نهضوية كبرى داخلها، وفي معزل عن التشكيلة الرأسمالية التي استقى منها تلك الفرديةَ غير المرئية كنتاجٍ فاعل للجماعات، فأدى العزل للذات في هذين التاريخين إلى أن تنحصر الذاتية في زمنية انسحاق هذه الفردية المثقفة وتفكك روابطها في الغرب، في حين يعيشُ هو مرحلة مختلفة في تاريخ العرب المعاصر.
إن غياب الرؤية العامة للتشكيلات والطبقات ومسارات التطور تجعل من هذه النظرات التجريبية الذاتية ومن النزعات الفردية الخلاقة تائهة وسط مخاضات التغيير والسيطرة، فنجد التجريبية المنطقية ذات مناخ غربي وأمريكي تحديداً، ثم تؤيد أي إصلاحات تحديثية من دون رؤية البنى الاجتماعية التي تتشكلُ فيها تلك الإصلاحات، أي قد تكون الإصلاحات المحدودة أداةً في قيام الإقطاع المذهبي بتجديد نفسه، وليس أن تقوم بمراكمة وعي نهضوي قطعي مع هذا البناء، بعد أن فقدت روابطها مع فئاتها الوسطى التي تنتمي إليها، ويفترض أن تتوجه لتراصها وتطوير فاعليتها الاجتماعية والسياسية النضالية كي ترى نفسها طبقة لذاتها، وليس فقط فئات تابعة للإقطاع السياسي والديني.
وقد تترابط هاتان المدرستان مع نزعات أخرى كالقومية والوعي الديني، فتصبحان لهما مسحة عربية - إسلامية، فتغدو التجريبية المنطقية تقنية تكنوقراطية يوظفها مثقفون وعلماء في مجال تطوير العلوم وقوى الإنتاج، بغض النظر عن الدلالات التوظيفية والأبعاد الاجتماعية.
وهو أمرٌ يحيل العلوم الطبيعة والاجتماعية إلى قوة تقنية خاضعة لاستخدام الطبقة المسيطرة على المصانع والمؤسسات العامة والجامعات خصوصاً، ويفتحُ الطريق كذلك لنشر المدارس التقنية الحديثة التابعة للقوة المسيطرة، سواء كانت في الغرب أم في البلدان العربية والإسلامية، كتدفق مستمر منذ البنيوية ومدارس الحداثة وما بعد الحداثة.
وهذه الفئة المثقفة التقنية سوف تأخذ العلوم بدون جذور أو دلالات عامة، أو كظاهرات في بــُنى اجتماعية ذات قوانين، وهو أمر يشكل الفئة المثقفة التكنوقراطية الخاضعة لأي سياسة رسمية.
لقد وضعت التجريبية المنطقية الأساسَ الفلسفي لمثل هذه التيارات، وروجت للذاتية والنفعية، وقطعت المسار الغربي الفكري الديمقراطي التحويلي، أي تلك المدارس الباحثة عن قوانين الظاهرات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الانتخابات الأوروبية: من هم نواب البرلمان الأوروبي... وما ال


.. الوزير بيني غانتس يستقيل من حكومة الحرب الإسرائيلية ويدعو إل




.. دراسة إسرائيلية: جبهة حزب الله لا تحتمل الانتظار. فهل تشتعل


.. ما المشهد بين عائلات المحتجزين وأقطاب السياسة الإسرائيلية؟




.. رئيس لجنة الطوارئ برفح: توقف مولدات الكهرباء في المستشفيات س