الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة ( ارغفة وطن )

سمرقند الجابري

2014 / 4 / 5
الادب والفن


انها أمي ، صنعتها من ورق الجرائد، وخبأتها في حقيبة سوداء ، تلك الحقيبة وحدها رافقتني كبصمات يدي، وشهقات سنوات سترونها سطورا من دهشة، لها مذاق حنظل وضلال أسـري في عالمكم.
كيف لا أكره أمي وأصنع لها بديلا ، وهي من جعلتني أطوف كل بيوت الاقارب، فهي تزوجت من آخر بعد رحيل أبي ، جعلها ترى قاموس عريضا من الاهانات ، صمم لها جحيما باربعة جدران يسمى " غابــــة آدم" !
حُكِــم عليّ بالنفي من حياة امي وزوجها، فما دمتُ أسير نحو الفتوة وأشكل عليها خطرا على رجل يراني كحروف العلة، اعذب ضميره المستتر.
رأيتُ أول المطاف بيوت اعمامي ، عائلة تغص بالسياسيين ، رجالها يحتلون صفحات كل الصحف التي صنعت منها امي الورقية، يتنافسون بالصراخ في برامج التلفاز كأن الجياع لم يعرفوا لعبة الاقنعة، يرتدون أفضل ثيابهم ويخفون بشاعتهم بابتسامات أعرف إنها كاذبة ، ليس مفرحاً تناول الطعام مع عائلة لا تعرف ان يُتماً مؤلماً يدور بلاحظر تجول في اوردتي ، لا تردهُ عني الخراف المشوية على الغداء او اطعمة المساء الغريبة.
انتهى العام، وثقل تواجدي رصاص ساخن سُكب في دهاليز آذانهم ، فصدروني كتحفة مسروقة الى بيوت عماتي ، اولهن لا تعرف غير السحرة ومريدي الدجل وأطباء التجميل ، والاخرى يسعدها ان تغمض عيونها عن سنوات قحط تحولت الى ثراء مفاجيء بعد الحرب لزوجها ، وكثرة المال بيد ناكر الجميل مصيبة لا يعلمها إلا عمتي التي هجرها زوجها لأحضان خادمته النحيلة ، فتحولت رعود غضبها ونقمتها عليّ انا صاحبة سِفر الانكسارات، ونخاسة اليتامى في القرن الجديد.
وهذا بيت (خالي) صياد السمك ،رجلٌ عمل في أحد الاحزاب وانهارت شعاراته ، فتحول بين مأساة وضحاها الى صياد يصنع شباك صيده بيده ،ويهدي بائعات الشاي واليانصيب المتغنجات قلائدا من الصدف ، ويحكي لنا كل ليلة عن جولات العشاق قرب النهر وعن مخمورين يبكون على بيع الوطن ويكتبون الشعر الرافضي، ويحلمون بالفرار من البلاد .
وهذه زوجة خالي تأكل الخضروات فقط كالارنب لعلة ما في جسدها ، جسمها يشبه كرة البولنغ ، لها شعر كأسلاك محترقة ، غير ان لها صوتاً يأمر الحجر بالبكاء وقلب يتسع لمجرة حزينة، تعشق الورد، وتزرع انواعه في علب صغيرة ، تطلق على كل نوع منها الاسماء كانهم اولادها ، و تخاطبهم :
-" يا بعد عيني، ألم تنامي يا " سارة" يوووه نسيت اطعامك آسفة ، بابا سيأخذ اليوم بعض الدنانير لشراء ثياب العيد ، وقد نذهب غدا لطبيب الاسنان فلا تخافي منه فهو يُحبكِ، لنرى ان كان "علي" سيذهب معنا....يا "عمار" أتأتي معنا غـدا ...ألم أقل لك أن تدع " نور" وشأنها.......".
لعلها لعنة السماء التي حرمتهما نعمة الانجاب فتقارير من صار الان صيادا للسمك كانت ترسل أكثر الاصدقاء الجيران الى حبل المشنقة !
بعد ان تعلمت انواع السمك واشكال الورد والكثير من اغنيات كوكب الشرق ومزاج المد والجرز وحوارات القوارب النائمة قرب نوارس لاتهدأ عن التفكير بموج متراقص ،حصلت على عقود من الصدف ، صارت حقيبة متاعبي- صديقتي الوحيدة - تجيد لفظ اسمي غامزة لي بالرحيل الى محطة ترقب أخرى .
إذن خالتي " نوسة" خبازة الحي صباحا وباعة للثياب المستعملة مساءاٍ ، ارملة ضفائرها تنافس ليالي الشتاء سوادا ، لا تبادل رجال الدنيا بأظفر زوجها الراحل ذات عضال.
لها أولاد كأقمار انجبتهم السماء على مهل، فتأملت طين خليقتهم وسكبت ماء الكوثر عليهم، فتخمرت فيهم ملامح النبلاء ، بيتهم يغص بحب الله ومحطة نور لكل الزائرين ، خالتي لا تحب الصحف ومن يظهر فيها ولا السحرة وكره الاخرين ، ولا تتحدث بالسوء عن صياد لم يتب من دماءٍ ستظل برقبته طول العمر .
لقد غسلتُ على اعتاب بابهم عقدة يُتمي ، علمتني" نوسة" ببساطتها بأن تنورها يشبه رحم الدنيا ، لذا علينا ان نخبز للاخرين .
ذات فجر صحوت قبل أحبتي في الدار ،أوقدت التنور ،اخرجت أُمـــاً من ورق، لاودعها عالم النسيان فأطعمها للهيب الحطب المتلهف ،خبزت ما قدرت ،لاني قررت أن بيت "نوسة" هو الوطن الامن ، فلا حقيبة تدور على بيوت الصوان ولا نخاسة بعد الان ولا هم يحزنون.
من مجموعت القصصية (ناطور الضوء ) الفائزة بالمرتبة الخامسة عربيا بجائزة الابداع الادبي لعام 2009








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة أسطورة الموسيقى والحائز على الأوسكار مرتين ريتشارد شيرم


.. نحتاج نهضة في التعليم تشارك فيها وزارات التعليم والثقافة وال




.. -الصحة لا تعدي ولكن المرض معدي-..كيف يرى الكاتب محمد سلماوي


.. كلمة أخيرة - في عيد ميلاده.. حوار مع الكاتب محمد سلماوي حول




.. لماذا تستمر وسائل الإعلام الغربية في تبني الرواية الإسرائيلي