الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة : حانة الملائكة

بديع الآلوسي

2014 / 4 / 10
الادب والفن


ـ ينوون اليوم تنفيذ حكم الإعدام بالحانة … هذا الخبر الفظيع قاله ابن محفوظ وهو مقطب الجبين من الاكتآب .
طبعا ً انه يعني حانة الملائكة  ، كان يوما ً باردا ً من أيام شهر آذار عندما أطلقوا عليها هذه التسمية ، في الحقيقة إن عامة الناس ينعتونها بخمارة البلد .
مَن يزرها للمرة الأولى تستيقظ في ذهنه شهيه الاسترسال في الحديث .
فيها بالإضافة الى العشرين طاولة ، ثلاث طاولات كل واحدة منها  بكرسي واحد ، خصصت للزوار الذين يفضلون الاختلاء بأنفسهم ، كما أن الحائط القريب من صندوق الحساب قد زين بصور لكبار المبدعين ، وكذلك نجد في زاوية معزولة كتب لمؤلفين أجانب وعرب . لكن أكثر ما يدهش هو ذلك القفص المتدلي من السقف ، الذي يحوي بلبلا ًعراقيا ً يطرب الزبائن ، صوته هذا البلبل يثير الشجن كثيرا ً ، خاصة ً بعد أن يتجرع قليلا ً من الخمر . وكأنه يريد أن يذكر الجميع : (أية قيمة للفضيلة ستكون إذا لم توجد حرية ) (1 ) .  
وككل خميس، وفي كل الفصول ، ومنذ أربع سنوات، يلتقون بتلك الحانة بحثا ً عن الضحك والبكاء معا ً، لكن شرطي المرور ما أن يراهم يدخلون حتى يُسمعهم في اغلب الأحيان العبارة نفسها : تذكروا ان الله يراكم .
لا يعرفون بماذا يجيبون ذلك الفضولي ، المتيقن من أنهم سيدخلون الجحيم لا محالة . وهو لا يعرف أن  عامر بن النجار فقد أعز أخوته بعبوة قاتلة ، وهو لا يفقه أن  ياسين بن بركات لم يسلم من الضجر بعد خيانة زوجته ، وهو لم يتبين أمر  صابر بن محفوظ  الذي لا يحب الحياة منذ الصغر ويعتقد أنها مجموعة من الخيبات .
 
هؤلاء الأصدقاء لم يفكروا بالهجرة لأنهم يحبون مدينتهم ، التي يصعب عليهم أن يتخيلوها تفقد بريق حيويتها . لم يسألوا : لماذا صار الأنَس والحبور شحيحا ً فيها ؟ وطالما تساءلوا : كيف غدت تتمسك شيئا ً فشيئا بأفكار غريبة وعجيبة ، ويتألمون لأنها تفجع يوميا ًبهوس الانتحار . كان يعتريهم الغضب ، لأنهم يتوجسون ان أيام سوداء قادمة ستكون حبلى بالمفاجآت المباغتة ، التي لا يمكن التكهن بها .
لذلك كانت حالتهم المزاجية تزداد سوءاً يوما بعد يوم  .
وما يدعو إلى العجب أن القمر كان باهتا ً ذلك المساء ، وبدا حزينا ً وكأنه يوحي بسؤال واحد هو : كيف ورط الجميع أنفسهم بهذا الانحطاط ؟  .
كل تلك التفاصيل الصغيرة والمهمة تركها ذلك الشرطي جانبا ً وهو يتكلم مع احد المارة مشيرا ً إليهم والى الحانة :
ـ والله ، لا رب ولا دين لهؤلاء  .
 
في الحلم لا يرى ابن النجار أخاه ، المحب للعزف على الناي فوق سطح الدار، وكان يعد ذلك إشارة شؤم . نعم ، الكآبة التهمت أحلامه البيضاء وجعلت منه كسولا ً محبا ً للنوم .
أما ابن بركات فقد حلم البارحة أنه يهرول في حقل مطير ، وأن ذئبين يتعقبان آثاره ، لكنه ما أن صحا حتى تساءل وهو يحتسي القهوة : هل الواقع كابوس مستمر ؟.
أما عن ابن محفوظ فيمكننا ان نقول أنه أتعسهم حظا ً ، فالحر السياسي و المناخي الرتيبين لمدينته لا يتلاءم مع حواسه المتيقظة والمتذمرة . لذا نجده بلا مثل سامية ، كل ما يؤمن به هو : أن ارسم سفرة في الوجدان والخيال . معتقدا ً ان ذلك يعيد التفاؤل إلى نفسه و ينتشل مخيلته من الترهل .
 
ساعات رهيبة تحيط بالحانة ، فالأشباح مجهولو الهوية ، كانوا قد قرروا غلق هذا المكان . الذي ليس مهما ً ما يقال عنه ، بل الأهم أن الأصدقاء الثلاثة يحبونه أكثر مما يتصور الآخرون ، فهو بالنسبة لابن النجار مصدر التوازن ، بينما أبن بركات يعتبره محفزا ً لطهي الرغبات ، أما  ابن محفوظ فيشعر انه الزاوية السرية لجعل الحياة أقل عتمة أو بلا شوائب .
 
في الغروب الدامي لهذا اليوم ، لم يحن بعد تنفيذ الإعدام بحانة الملائكة ، والتي يجد فيها الأصدقاء الثلاثة منتجعا ً أو منفى يليق بهم داخل مدينتهم المتوترة .
قبل أن يدخلوا تجهمت وجوههم ، وهم يصغون إلى ثلة من الناس وقفوا قريبا ً من الحانة ، لم يكن أدنى شك في أن هذا اللقاء يخبئ  ضغائن منفعلة .  كان الموقف يزداد سوءا ً وتشنجا ً ، أثار المشهد فضولهم ، لذلك مكثوا فترة وجيزة يصغون إلى ما تضمره الكلمات المتناثرة . نعم ، أنهم ألفوا ما يشابه هذا الموقف في أثناء حياتهم . لكن بعد خمس دقائق ، استحوذت عليهم فكرة قد أزعجتهم ، ما أن قال قزم صغير : ان الأشباح سترجع بعد اختفاء القمر . بالرغم من كل ذلك كانوا هادئين ولم يفصحوا عما يدور في خلجاتهم ، لكن وجهات النظر بدت أشبه بالصراخ واللغط الغامض ، كان كل واحد يريد ان يفتي بقناعاته الذاتية فقط من دون الاهتمام بما يقوله الآخرون .
قال احدهم وقد توهجت عيناه : تحولت الخمارة إلى وكر للسفلة .
قال آخر ويداه تلوحان وترتجفان : الكحول يؤثر في الذاكرة  .
في تلك الأثناء ، سمعوا صوت رجل عجوز لم يرق له كل ذلك ، كانت تفوح منه رائحة التبغ ، وبلا خوف لم يقل سوى : هراء .
ضحك الأصدقاء الثلاثة ، كانوا يراقبون الحدث بهدوء وهم ينظرون خلسة الى ذلك الصبي المؤدب الذي تساءل : متى سيأتون ؟ .
كانت هذه الدقائق من الزمن مؤلمة ، لم تكن حالتهم النفسية رائقة و تسمح لهم بإجراء حوار ذي جدوى ، لحظة التخاذل تلك ضاعفت الشعور بالخيبة في نفوسهم ، كانوا ينظرون بغضب إلى بعض الوجوه التي تفوح منها رائحة الريبة والخطر . كاد أبن بركات ان ينفجر ما ان سمع أحدهم يقول بخبث : صحيح ، إنهم من طينة عفنه . أوشكوا أن يصرخوا في وجهه لكنهم تذكروا أن ذلك سيفسد عليهم فرحة اللقاء . عندئذ انحنى ابن النجار وهمس لصديقيه ما شعر به :
ـ إن محاسبة الناس على الصغيرة والكبيرة شيء مقرف  .
دوامة الخوف والشك علاوة على الإزعاج ، دفعت ابن محفوظ على أن  يقترح عليهما الانصراف وتجاوز محنه هذه الليلة المشؤومة ،الإ إن ابن بركان لم ترق له هذه الفكرة ، وكانت الكآبة تغطي وجهه وهو يقول بصوت أجش :
ـ حسنا ً ، ارحلوا .
صمت ثم أردف بكلمات حزينة غيرت الموقف لصالحه :
ـ اللعنة عليكم ، أتتركاني أواجه ما سيحدث بمفردي؟ .
 
كانوا مشغولي البال ويفكرون في مصير حانتهم ، التي ربما ستختفي عن العيان ، كما توارت وضاعت كثير من أحلامهم ما أن فقدوا السلام . وتظل ردود افعالهم مختلفة ، لكن رؤاهم توحدت امام ذلك التساؤل : ما الذي يتوجب فعله ؟ كانوا متفقون على هاجس واحد هو  : أن الطقس سيء ، ويجب أن نتهيأ إلى ما هو أسوء  .
 
في ذلك المساء ، وبينما هم يدخلون الصالة ، قرروا عدم التخلي عن ممارسة طقوسهم في هذه الليلة المشوبة بالوجل . دفعوا الباب ، كانت القاعة تبدو هادئة ومسالمة ، اتجه ابن بركات الذي تميز بشاربه الكث الطويل نحو البلبل ووجده حزينا ً ، لم يعجبه ذلك ، فبادر وسأله  :
ـ هل الأخبار سيئة إلى هذا الحد ؟ .
تبادلوا الأنخاب ، كان ابن بركات يتلذذ ويرتشف الويسكي بهدوء ، بينما ابن النجار سرعان ما أفرغ كأس العَرق في جوفه بجرعة واحدة ، مغمضا ً عينيه ومرددا ً كعادته :
ـ انه فظيع ، انه فظيع .
رفع ابن محفوظ كأس البيرة الى شفتيه ، وهو يراقب حركة البلبل ، بيد ان ذهنه كان منشغلا ً بتساؤل يحز في نفسه : هل يريدون ان نهتدي الى الخير بالإكراه ؟
ابن النجار ما أن تذكر غرفته حتى تملكه الفرح وأغمض عينيه ، فهو في  خلال الأسبوعين المنصرمين نسخ على جدران غرفته قصائد عديدة لابن الرومي .
أما أبن بركات فقد أحس بالتوتر والإنهاك، فخلال الخمسة أيام الماضية كان منهمكا ً، بنص قصصي اختار له عنوان غريب هو : بكاء شجرة الزيتون ، بعد مرات عدة من البناء والهدم لما كتب ، لم يشعر انه قد أستطاع التعبير عن جوهر الانحطاط ، لذلك كان راغبا ً بتمزيقه  .
لم يجب ابن محفوظ على الأسئلة التي تناثرت ، كان هادئا ً ، فهو اليوم لا يحب الثرثرة ، لهذا  وصفه بن بركات بالمغرم الذي يلفه النعاس ، لكن في حقيقة الأمر أن عينيه الرماديتين قد دربهما بالغريزة على تحويل حيرة الشخصية إلى خطوط وألوان وتكوينات ، لا عيب فيها ، لكنها تذكره بفراغه الروحي ، لذلك يشعر بالريبة ولم يجرؤ على عرضها على الملأ .
داهمتم أفكار كثيرة ، وشعروا  بالإرباك وهم يتذكرون سؤال الطفل ، ربما حتى النادل لم يوافق على مغامرتهم ، لكنهم بالرغم من كل ذلك كانوا يريدون أن يثبتوا لأنفسهم أنهم ليسوا جبناء ، وأن صمتهم لا يعني إذعانا ً للأصوات التي تردد : مساكين هؤلاء ، يناحرون التيار  .
وضع ابن بركات قطعتين من الثلج في قدحه ، بينما ابن محفوظ كان شاردا ً وهو يوزع الخطوط بدفتر الرسم الذي لا يفارقه .
حل المساء وتجاوزت الساعة الثامنة ، حينها أصيبوا بنوع من الأسى ، لم يجرؤ  أحد دخول تلك الحانة ، لم يستطع النادل أن يعبر لهم عن ما يجيش في صدره من أحساس بعدم الرضا ، لكنه كعادته أشعل الفوانيس للإشارة إلى أن الحانة تستقبل وترحب بزبائن جُدد . أَوَّلَوا أمر خلو الصالة من الزبائن لا يعود إلى نقص في الشجاعة بل إلى ما ينتاب الناس من حذر يجنبهم المشاكل والأبتعاد عن الخطر.
 
كان ابن النجار مندهشا ً وهو يتبادل الكلام مع النادل  :
ـ أريد أن أعرف ، لماذا البلبل لا يغرد ؟ .
ـ لأنه يعتقد أن أبن عرس سينقض عليه غدا ً .
وصدرت ضجة من الضحك لفتت انتباه البلبل ، ونمت في قلب ابن النجار رغبة خفيفة من الألم وساوره فضول لمعرفة السبب الحقيقي ، تأمل الأمر واحمَرت وجنتاه ، وتساءل : هل هو حزين مثلنا؟  .
فأجاب النادل : لا ، انه يشعر بالتقزز .
أنخرط الأصدقاء الثلاثة في ذكرياتهم وعادت الغبطة إلى نفوسهم ، متلذذين بما يأتيهم من فرح شحيح ، وأحسوا وهم يدخنون الأركيلة أنهم يحاولون تناسي ذلك الأمر الذي يبعث على الحزن ، رفع ابن بركات عينيه ونظر إلى ابن النجار وسأله  :
ـ هل من بدائل ؟
ثمة قشعريرة تسربت إلى جسد صاحبه النحيل، صمت لحظة ، ثم قال :
ـ نعم ، ولكن ..
اعترته الحيرة ، ورد قائلا ً :
ـ ولكن ماذا ! ، هل تعتقد أنهم سيمنعون الخمر يوما ً ما ؟
حملق فيهم ابن محفوظ ، وكان ساخطا ً وهو يردد :
ـ في هذه المدينة لا يريدون الخمر ، تعالوا نخلق مع كل السكارى وطنا ً آخر .
ومما يدعو إلى الدهشة أنهم كانوا يحاولون عبر الضحك تجاوز الإحساس بالغضب أو  الإحباط ، الذي اعتلى عيونهم وحاصر أذهانهم .
 
احتاجوا  نصف ساعة  من الوقت حتى هدأوا  ، بعدها راحوا يتخيلون الأماكن البديلة التي تعوضهم عن حانة الملائكة ، مع ذلك ، لم يجدوا  بصحبة النهر أو حديقة البيت السعادة نفسها التي يقضونها باسترخاء ولذة كما ها هنا . مر كل ذلك في خاطرهم ، شاكرين المصادفة التي ساعدتهم على اكتشاف هذا المكان ، والذي ما أن عثروا عليه حتى أيقنوا  أن هذه الحانة بالذات ، لها دور في تعزيز علاقتهم  ، وأنها استدرجهم  لتلمس أنفسهم والعالم من زوايا جديدة  .
خيم الصمت بعد أن نهض ابن النجار  الغريب الأطوار ، راقب البلبل وقال له بصوت واضح  :
ـ أنا اشعر بالقرف أيضاً .
مرت بضع لحظات من الصمت والخوف ، خفق قلبه ، أستدرك وصرخ منفعلا ً ، موجها ً كلامه إلى كل الكراسي الفارغة  :
ـ أجل ، لن تجدوا حانة أخرى تليق بكم  .
جفل ابن بركات ، ما أن سمع تردد رنين تلك العبارة في الصالة، خاف من ان الأمر سيزداد سوءا ً، نهض محاولاً أعادته إلى مكانه  :
ـ بالله عليك ، حاول أن تهدأ .
كان ابن محفوظ مطأطئ الرأس ، وعلى مهل يحتسي كؤوس البيرة تباعا ً ، يده اليسرى لا تفسر الأفكار بل تحاول أن ترتيب الخطوط والذاكرة ، كل من يشاهده يتوقع انه يقضي أمسيته برسومات تطرد عنه السأم ، لكن خطوطه المتخيلة بدت رويدا ً رويدا ً مثيرة للفضول .
أخيرا ً أستجمع طاقته ، وتساءل بصوت مختنق :
ـ اللعنة ، ماذا حل َّ بهذه المدينة ،  أأصيب جميع رجالها بالإخصاء ؟ .
 
في جلسة المسامرة تلك ، أرهقوا أذهانهم في تخيل ما سيحصل للحانة وكانوا ممْتِعَضين من إغلاق الأشباح لدور السينما وصالات الفن أيضا ً ، كان أحساسا غريبا ً يعتريهم : أذا ما استمرت الأوضاع على حالها فسوف لم يكتب لهم أن يحيوا حياة هانئة . كانوا يعزون كل ذلك للأشباح الغامضة ، التي بدأت تفقس هنا وهناك ، محاولة ً بسطوتها ملء الفراغ .
على الرغم من أنهم يمقتون السياسة ، لكن اختطاف الأبرياء يثير استهجانهم وكذلك شيوع روح العنف وما يرافقه من تخلف أعمى . هكذا أصبحت قناعاتهم تفقد الأمل ، بعد أن تأكدوا من أن السنين العشر الأخيرة من حياتهم مليئة بالتعاسات ، ولا تغيير نحو الأفضل يلوح في الأفق . وكلما أوغلوا بالحديث ، تزداد شفقتهم على أنفسهم ، وعلى أهالي مدينتهم ، الذين يتناسون ما مر بهم من كوارث لا يصدقها العقل ، ويشغلون أذهانهم بخمرة الرب .
 
تأملوا الطاولة التي بدأت تعج ، بالقناني الفارغة وقشور الباقلاء والليمون  كؤوسهم المهملة ، عندئذ  لم تعد الأشياء كما كانت ، ولا حتى الزمن .
وعلى الرغم من أن الخمرة دارت في رؤوسهم لكنهم ظلوا مدركين أن ما يساورهم يبعث على القنوط ، هذا ما عبر عنه ابن بركات بقلق :
ـ إنها ليلة تصيب بالهلع ، فليس ثمة حياة خارج هذه الكاتدرائية  .
فضحكوا ، وظل ابن محفوظ منشغل الذهن ، يتفحص ما رسمه على تلك الورقة التي بدأت تمتلئ بالكراهية والحب  .
بعد ذلك تغيرت ملامح وجه ابن النجار ، وبدا على وجهه احتقان واضح ، كمن تلفه رغبة للبكاء ، متذكرا ً علاقته البهيجة والفريدة بأخيه ، لذلك بادر وعبر عن مكنون غضبه ، وتساءل بألم :
ـ هل أحببتم  إخوتكم ، كما أحببت أخي  ؟
 
كانوا على موعد غامض ، كل شيء يشير أن حكم الإعدام بحانتهم سينفذ قريبا ً ، كان ذلك واضحا ًمن الصمت الحزين الذي يلف المكان ، واتضح الموقف أكثر حين أزاح ابن بركات الستارة قليلا ً ودلهًم وجهه بعد ان رأى ما رأى  .
في بعض الأحيان ، عندما نكون في قاعة مأتم يساورنا الضحك ، هذا ما يحس به هؤلاء الأصدقاء  الثلاثة ، على الرغم من اختلاف أمزجتهم وهواياتهم  .
لاعتقاد  ابن النجار أن ثمة كلمات تبعث على أيقاظ الحواس ، لذا رفع كأسه وقال مبتهجا ً :
ـ يا إلهي ، لست أدري ،هل نحن مخطئون أيضا ً ؟.
فردّ ابن بركات :
ـ ربما ، ولكننا لسنا قتله أو مُخْتَلِسين .
 
في ذلك اليوم كانت الفوانيس تتوهج وتشكل بقعا ً بيضاء وصفراء وحمراء . وهم يرصدوها متأملين ، انهالت الهواجس على رؤوسهم ، لكنهم فضلوا أن يحتفلوا بسهرتهم الأخيرة على نحو لائق ، غير مكترثين لذلك الأمر الفظيع ، حينها بدات عيونهم تبرق من أثر السكر والضحك .
مرت لحظات من الصمت ، ثم قال ابن النجار بيت من الشعر لابن الرومي ، لم يكن يعرفوا لماذا احمر وجهه خجلا ًً ، وهو يتمتم منتشيا ً:
ـ إلى الله أشكو سخف دهري فإنه ــــ يعابثني منذ كنت غيرَ مُطائب ِ(2 )
 
عندما سمع ابن محفوظ هذه الكلمات ، ابتسم وأحس بالزهو ولم يخف إعجابه بصديقه ، ذي العينين المتقدتين حد الهوس بعذوبة ابن الرمي . نهض بصعوبة ابن النجار وحدق فيهما  ، وأطلق ضحكة خفيفة ساخرة ، ثم تذكر ما يتوجب قوله  :
ـ آمن ابن الرومي بالموسيقى والشعر والرقص كسبيل أكيد للوصول إلى الله .
لكن ابن بركات أبدى ملاحظة صغيرة ، حيث قال مبتسما ً :
ـ انه رجل  متشائم  ، مثلنا  .
حينها رفع الرسام قدحه إلى الأعلى وهو يردد :
ـ يا له من شاعر .. بصحة ابن الرومي .
 
أنهم لا يريدوا أن يتخيلوا أنفسهم قد تجاوزوا الثلاثين من العمر، لذلك فضلوا ممارسة الفوضى والتصعلك والمشاغبة خارج السرب ، وكانوا يتصرفون في كثير من الأحيان  وكأنهم مراهقون لا يبالون بالسلطة ولا بخشونة الأيام  .
كان ابن بركات يتفاخر انه طفل خارج على القانون ، ومنذ أن طلق زوجته ، أحس أن قوة غامضة تشبه الوهم بدأت تدفعه للكتابة ، التي لا يتفاعل معها سوى أصدقائه المقربين ، وقد لاحظ في السنتين الأخيرتين ان قصصه تقوده من معانات إلى أخرى ، كأن الرب يعاقبه في كل مرة ويتخلى عنه بمنتصف الطريق . لكنه اليوم كان بمزاج طيب وهو يحتسي ألكاس الرابعة من الويسكي ، تجنب الحديث عن نصه الأخيرة الذي لم يكتمل ، وفضل أن يقص لهم حكاية طازجة قرأها قبل أيام، قال بلطف استمعوا وأتمنى أن تعجبكم :
ـ)  يُحكى أنّه في قديم الزمان ، أراد حكيم التعرف على كيفية تفكير العميان في محاولة رؤيتهم للواقع الغائب عنهم ! فطلب من مجموعة عُميان بعد أن أحضر لهم فيلا أن يلمسوه ويصفوه له ، فمضى كل واحد منهم إلى الفيل وأمسك بجزء منه وبدأوا بوصفه ، لمس أحدهم أذنه ، والثاني خرطومه ، والثالث أرجله الأربع ، والرابع ظهره ، أما الخامس فلمس رجلا واحدة من الأربع!
بعدها احتسى ابن بركات عدة جرعات من الويسكي ، صمت واضعا ً رأسه بين كفيه ، كأن المفردات قد فرت من ذاكرته .
حينها شعر ابن النجار بخيبة الظن ، ما أن رأى ملامح وجهه صاحبه قد تغيرت . لكنه بالرغم من ذلك ، تساءل بهدوء :
ـ ألا تعتقد من المبهج وضروري أن تنهي حكايتك ؟
وظل الصديقان ينظران له حين ابتسم وقال وهو يمسد شاربيه :
ـ وبعد ذلك وقف كل منهم يصف الفيل، فقال الذي لمس أذنه: الفيل منبسط ورقيق يشبه ورقة الشجر الكبيرة وهو يتحرك نحو الأمام والوراء  وبثبات وقال الذي لمس ظهره : الفيل كالهضبة العالية والرابية المرتفعة، أما من لمس أرجله الأربع: الفيل كالطاولة وله أربع أرجل، والذي لمس خرطومه: الفيل يشبه الثعبان، طويل ونحيل ويتحرك في كل اتجاه! أما الذي لمس رجلا واحدة، فقال: الفيل كالعمود أو كجذع نخلة! هكذا أخذ كل منهم يصفه كما رآه في خياله بعد لمسه . وفي ذات الوقت كل من العميان سمع وصف الآخر له ، فأخذ كل منهم يُنكر على الثاني معتبرا إياه مخطئا ويقول للآخرين : الفيل ليس كما تصفون.. أنتم إما كاذبون أو مخطئون، فأنا لمست الفيل بيدي أيها الأغبياء ! . (3 ) 
 
ما أن انتهى ابن بركات من حكايته حتى بدأ النادل بإطفاء الفوانيس تباعا ً ، تأملوا الساعة المعلقة ، تأسفوا  كيف أزف الزمن كالبرق ، ما أثار الجميع أن البلبل وكأنه استفاق من نشوته المخدرة ، كان صوته ذا نبرة تشبه الصراخ ، كل ذلك جعل الأصدقاء الثلاثة بنوبة تشبه البكاء  .
 
قبل أن يهموا بالانصراف ، حاولوا أن يجيبوا على ذلك السؤال، الذي كان له علاقة بحكاية العميان : هل يعرف شرطي المرور الوجه الآخر لهذه الحانة ؟ .
في تلك اللحظات الحرجة ، أصبحوا يسمعون الضوضاء في الخارج ، تتخللًها صرخات تثير اضطرابا ً في القلب  .
كانوا قلقين ، إلا أنهم شعروا من الحماقة أن يحتفظوا لأنفسهم فقط بهذه الحكاية التي أعجبتهم . ارتجفت عينا ابن النجار وأحس ببصيص من الأمل ، لكنه ما أن سمع صوت البلبل الذي يذكرهم : ( أنه لا فضيلة دون الحرية )، حتى عثر على الكلمات التي قالها بوضوح  :
ـ حقا ً أنها رائعة ، بالله عليكم ، إن رأيتم الصبي ، لا تنسوا أن تحكوها  له .
راقبهم النادل ، كان وجهه يتألق بلون وردي ، نعم ، قد سمع هو الأخر ، بهدوء ووداعه قال متسائلا :
ـ لماذا لا يعلمون هذه القصص الجميلة في المدارس ؟ .
هنا قال ابن حافظ ساخرا ً  :
ـ كل ما أخشاه ، أن نكون جميعا ً عميان .
فأجاب ابن بركات :
ـ عونك يا رب .
لكن ابن النجار وقف وكان متوترا ً وأراد أن يجهش بالبكاء وهو ينظر إلى الباب ، متمنيا أن تكون الأحوال بالخارج على ما يرام ، وبدأ يتحدث بصوت يشبه الدعاء :
ـ اللهم نحن عبادك ، لم نؤذ  أحدا ً، فنريد عدلك في قضائك .
 
ما أن نهض الأصدقاء الثلاثة ، حتى تقدم نحوهم النادل الذي هو الآخر قد بدا متوترا ً ، كما لو انه كان متيقنا ً أن الأشباح المجهولي الهوية سينفذون حكم الإعدام بحانته قبل طلوع الفجر لا محالة .
وبينما هو يتأمل الطاولة ، أصابته الدهشة مما رسم ابن محفوظ ، وكانوا  ثلاثة ملائكة وسبعة أشباح ، ظنها خربشات منفعلة صادرة عن عقل متوهج . أحساس فضولي دفعه أن يتساءل بسذاجة :
ـ من هؤلاء الملائكة ؟
لم يجد ابن حافظ صعوبة في الرد ، لكنه قال بخجل :
ـ هؤلاء نحن  .
ـ رائع ، وهذه الكتل السوداء التي تشبه الأشباح ؟
ـ هذه ! أنها هم  .
 
أيقظ هذا الجواب الفكه ضحكات تراكم عليها الصدأ ، كأنها آخر لمسات الفرح .
تأهبوا لمغادرة المكان ، القوا نظرة ً أخيرة على البلبل الذي أقلقهم بصوته الغريب .
توقفوا يتأملون الصور المبدعين التي ربما ستمزق آو تحرق يوم غد ، ذرفت عين ابن بركات دمعتين ، تقدموا بخطى متثاقلة ، تجمدوا في مكانهم حين صرخ النادل :
ـ أيها الملائكة ، تحف بكم السلامة .
تباطأ الزمن آو تعثر مع لحظة دوار لفت الأصدقاء الثلاثة  .
استقبلهم في الخارج ، الهواء الجارح والظلام المحفوف بالوجع ، كان أبن النجار في الزاوية المظلمة وهو يدخن سجارته ، مفكرا ً بذلك السؤال اللجوج :
ـ ما العمل ، أذا سقطنا في البئر ؟
أما ابن محفوظ فلم ير في هذا العتمة سوى صور لأشباح تضحك ، وتحملق متفحصة ً عربه زفاف لعروس بشعرها البرونزي .
تقدم صوبهم شبحان ببطء ، أحتفظ ابن بركات لنفسه بتلك الكلمات التي ربما ستكون نواة أو خميرة لقصة قد يتوفق بسرد ملامحها  :
ـ أيتها الحانة ! سنتغير إذا ما ابتعدنا عنك  .
فجأة ً تعالى الهتاف والصراخ ، خجلوا لأنهم لا يستطيعون فعل أي شيء ، وهج الطلقات النارية صار يتلألأ ، بعدها جاء صوت أثقل من الرصاص :
ـ كلاب الحانات نحن بانتظاركم .
نال الرصاص جسد حانة الملائكة ، هكذا قتلوها ، كانت تلك الجريمة علامة تنذر بموت مدينة العميان ، التي تواطأ وتناسخ القتلة فيها ، القتلة الذين لا يسألهم احد : ما أسماكم ، ولماذا تحبون سواد الليل ؟.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ******* ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 



1 ـ العبارة  إلى  لامارتين : وهو شاعر رومانتيكي ولد 1790- ومات 1869  .
2 ـ مُطائب :غير مطيع له .
3 ـ حكاية من التراث الهندي


آب 2013



 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا