الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-وَدِّينِي لماما-

حسين محمود التلاوي
(Hussein Mahmoud Talawy)

2014 / 4 / 10
الادب والفن


عندما تباطأت حركة السيارة الميكروباص، استيقظ "عصام" من غفوته داخلها، وراح ينظر من النافذة ليعرف إلى أين وصل في مشوار العودة إلى منزله. إلا أن النظرة التي ألقاها أشعلت في قلبه الكثير من الغيظ والضيق؛ فقد أدرك أنه على بعد شارعين فقط من منزله، إلا أن الطريق كان مسدودًا بعربتين من عربات الأمن المركزي الكبيرة، بينما تعالى صوت هتافات لم يميز منها "عصام" شيئًا.
لكن المشهد بات مألوفًا.
إنها واحدة من المظاهرات التي تشهدها المنطقة بين الفينة والأخرى في الأونة الآخيرة لقرب منطقة سكنه من واحد من المساجد الرئيسية في محافظته الريفية، والتي لم تكن تعرف المظاهرات قبل 25 يناير.
"الله يلعن المظاهرات على يوم ما عرفناها".
هكذا فَكَّر "عصام" في نفسه، وهو يرى مضطرًا للنزول من السيارة التي أعلن سائقها أنه لن يكمل طريقه المعتاد، وسيضطر للانحراف في الشوارع الجانبية بناءً على التعليمات التي أعطاها له أحد الضباط المكلفين بمحاصرة المظاهرة.
نزل "عصام" من الميكروباص، وهو يفكر في الطريق الذي يمكن أن يسلكه على قدميه للوصول إلى منزله في ظل حصار عساكر الأمن المركزي للمظاهرة، وفي ظل وجود المظاهرة نفسها.
وبينما كان يهم بالدخول في أحد الشوارع الجانبية استعدادًا لدورة طويلة على قدميه، ألقى نظرة على المظاهرة، وقال: "يا ما نفسي أولع فيكو يا ولاد الكلب"، ثم بصق أرضًا في ازدراء وقال: "أنا مش عارف فاضيين دول وللا واخدين فلوس وللا إيه حكايتهم بالظبط"، ثم تابع سيره، وهو يتمتم في سخط: "فاكرين نفسهم هيمسكو البلد!!".
ولكن، قبل أن يدخل الشارع الجانبي، انفتحت أبواب الجحيم؛ حيث تعالى صوت يشبه انطلاق قذائف، قبل أن تنتشر في المكان رائحة مقيتة، أدرك "عصام" على الفور أنها رائحة الغاز المسيل للدموع؛ فانطلق يجري في الشارع الجانبي، وهو يقول: "الدَّب بدأ...! منكو لله يا بُعَدا!".
وراح يجري بسرعة محاولًا الابتعاد عن مكان المظاهرات، إلا أن خط سيره كان يحتم عليه السير في شارع جانبي موازٍ للشارع الرئيسي الذي تدور فيه الأحداث، فأخذ يحث الخطى قبل أن يبدأ المتظاهرون في الانتشار في الشوارع الجانبية فرارًا من الغاز المسيل للدموع. لكنَّ أصوات الطلقات التي تصاعدت أنبأته أن الاشتباكات اشتدت حدتها؛ فزاد من سرعة جريه، لكنه وجد نفسه فجأة وسط عشرات المتظاهرين الذين اندفعوا من الشارع الرئيسي إلى الشارع الجانبي الذي يجري فيه فرارًا من قنابل الغاز وطلقات الخرطوش.
وعمت الفوضى في المكان.
الجميع يجرون، وقد راح كثير منهم يسعلون، بينما وضع آخرون أيديهم على عينيهم، وأخذ الكثيرون يتخبطون بعضهم في بعض، فيما اختلطت سحب الغاز بالتراب المتصاعد من الأرض جراء ركض العشرات في وقت واحد.
اندفع عصام محاولًا شق طريقه وسط هذه الفوضى، ولكنه بينما كان يجري، تعثر في جسد ساقط على الأرض لأحد المتظاهرين.
كانت السقطة قوية، لكنها لم تؤذه بأكثر من اتساخ ثيابه مع بعض السحجات في يديه اللتين ارتكز بهما إلى الأرض أثناء سقوطه. وبينما كان يهم بالنهوض، استدار ليوسع المتظاهر الذي تعثر فيه سبًا، لكنه وجد نفسه يحدق في جسد فتاة لم تتجاوز العشرين من العمر، ارتمت إلى الأرض على بطنها، وقد راحت تسعل بشدة، وهي تضع يدها اليمنى على ركبتها اليمنى.
وجد "عصام" نفسه يمسك يد الفتاة ليساعدها على النهوض بسرعة، فاستجابت له، وأسرع يجري بها بعيدا عن موقع الاشتباكات وهي تجاهد لتجاري سرعته بسبب إصابة ركبتها. لكن "عصام" وجد نفسه وهو يجري أنه لا يبعد فقط عن مكان الاشتباكات، ولكنه يبعد أيضًا عن مكان بيته إلى أحد الشوارع القصية. لكنه لم يهتم، فقد كان كل ما يهمه هو إبعاد هذه الفتاة عن موقع الاشتباكات.
حقًا هي من المتظاهرين، ولكنها فتاة ضعيفة على أي حال، هكذا فكر "عصام" في نفسه.
ولما شعر أنه ابتعد بالقدر الكافي عن موقع الاشتباكات، بدأ في التخفيف من سرعته، والتفت إليها، وهم بقول شيء ما، لكن قنبلة من الغاز انفجرت فجأة على بعد أمتار قليلة ليكتشف أن وصل إلى شارع جانبي تسرب إليه بعض المتظاهرين الآخرين ولاحقتهم قوات الأمن فيه؛ فأسرع يجري بها بعيدًا عن هذا المكان أيضًا، وهي تحاول جاهدة ملاحقة سرعته بينما انفجر صدرها بالسعال جراء رائحة الغاز، الذي كاد يخنق "عصام" أيضًا لولا أنه تماسك لإدراكه أن حياته وحياة الفتاة معلقتان بقدرته على الاحتمال.
لو أن أحدًا أخبره قبل 20 دقيقة من الآن أنه سيكون في خضم اشتباكات بين قوات الأمن ومتظاهرين ساخطين على النظام الحاكم، لنعته "عصام" بالجنون وسخر منه إلى يوم يبعثون.
لكن هذا يحدث الآن بالفعل.
فها هو ممسك بيد فتاة مصابة في ركبتها لم يرها من قبل — ولا يعرف حتى ملامحها الآن من هول الموقف يجري بها — هربًا من اشتباكات سياسية.
وفجأة، شعر بها تسقط أرضًا لدرجة أنها كادت تأخذه معها لولا متانة بنيانه؛ فالتفت إليها ساخطًا، وهو يعتزم توجيه عبارات قاسية لها، لكن لسانه انعقد عندما رأى تلك البقعة الحمراء تلوث ظهر ثوبها السماوي.
في البداية، لم يدرك طبيعة هذه البقعة لثوانٍ.
أو لعله أدرك، ولكنه لم يصدق نفسه.
إنها الدماء.
لقد أصيبت الفتاة بطلق ناري.
أسرع يحيط وسطها بذراعيه القويتين، ويجرها خلف إحدى السيارات، وأراح رأسها على إحدى عجلات السيارة، وأمسك يديها اليمنى الشاحبة في يديه، ولأول مرة نظر إلى ملامحها.
أول ما شد انتباهه في وجهها الذي بات يحاكي في شحوبه وجوه الموتى، كان ذلك الخيط الرفيع من الدماء الذي راح يسيل على أحد جانبي شفتيها الدقيقتين ممتدًا عبر وجنتها إلى حجابها الأبيض الذي كاد أن يصبح رماديًّا بفعل التراب.
لمح الألم في عينيها العسليتين الصغيرتين اللتين زينتا وجها بيضاويًا صغيرًا لم يفقده بهاءه الترابُ الذي لوثه، فربت على رأسها، وهو يتلفت حوله باحثًا عن نجدة، لكنه كان يبحث عن المستحيل وسط الهول المحيط به؛ فعاد ينظر إليها، وهو يسألها لائمًا في ألم دون أن ينتظر منها إجابة: "إيه بس اللي جابك هنا؟!"، ثم هم بالنهوض ليطلب النجدة من أي من الفريقين ولو كان من قوات الأمن، ولكنه لمح شفتيها تتحركان؛ فأسرع يقرب أذنه منها، فسمعها تهمس في إعياء بشيء لم يسمعه جيدًا.
فسألها في حدة رغمًا عنه: "بتقولي إيه؟!".
فعادت تكرر الهمس بصوت أعلى قليلًا؛ فسمعها تقول بعينين نصف مغمضتين:
"وَدِّينِي لماما".
طفرت الدموع من عينيه رغمًا عنه، وأشاح بوجهه عنها في ألم، وهو يقول في همس مماثل: "حاضر... حاضر". كان يدرك أنه كاذب، وأنه لن يستطيع أن يعيدها إلى أمها، ولكنه وافقها، وهم بالنهوض مرة أخرى، لكنها انفجرت في السعال بقوة شديدة، وخرج من فمها هذه المرة رذاذ أحمر مخيف انتثر على وجهه وثيابه، فلم يتمالك نفسه، وضم رأسها الصغير إلى صدره بقوة، في محاولة لطمأنتها، وراح يردد قائلًا لها في لوعة وهي مستمرة في السعال: "ما تموتيش... أبوس إيدك ما تموتيش"، ثم علا صوته بالصراخ: "الحقونييييي... واحدة بتموت... الحقونييي".
لكن صراخه راح وسط الاشتباكات التي لم تهدأ؛ فتفتق ذهنه عن فكرة، وأسرع يضعها موضع التطبيق على الفور؛ فأراح رأس الفتاة على واحدة من عجلات السيارة، ثم تلفت حوله، قبل أن يلتقط قالبًا من الطوب وجده بالقرب منه ويحطم زجاج السيارة، التي تصاعد منها صوت جرس إنذار لم يعبأ به "عصام".
أسرع "عصام" بفتح باب السيارة المجاور للسائق، وأدار السيارة، ثم نزل إلى الفتاة وأدخلها إلى السيارة التي لم يجرؤ أحد من سكان الشارع على الخروج لشرفته ليعرف سبب انطلاق إنذار السيارة. وبعد أن وضع الفتاة داخلها، انطلق بالسيارة نحو منزله، ولكنه بينما كان ينطلق بسيارته، لمح مجموعة من عساكر الأمن المركزي تأتي في الاتجاه المعاكس وقد رفعوا أسلحتهم تجاهه، فخشي أن يعتقلوه لو رأوا الفتاة المصابة معه في السيارة، أو يطلقوا النار عليه في سخونة الأحداث؛ فأسرع يعود بها إلى الاتجاه المعاكس.
ولكن كان هذا أكبر خطأ ارتكبه في يومه.
فقد استفز هذا التصرف العساكر، وظنوا أنه من المتظاهرين ويحاول الفرار، فأسرعوا يطلقون النار على عجلات السيارة فأصابوها فعلا، مما أدى إلى اختلال عجلة القيادة في يد "عصام" فاصطدمت السيارة بالرصيف، وتوقفت تمامًا.
وقبل أن يفعل أي شيء، كان عسكري يقف بجوار باب السيارة، ويفتحه، ويخرجه من مكانه قبل أن يلحق به زملاؤه ليوسعوه ضربًا بكعوب أسلحتهم ليترنح، ويسقط أرضًا وسطهم.
وكان آخر ما وعاه قبل أن يذهب في غيبوبة مشهد أحد العساكر وهو يفحص الفتاة، ويقول لزملائه في لهجة تقريرية: "دي باينَّها ماتت... لازم نبلغ الباشا".
وقبل أن يظلم المشهد أمام عيني "عصام"، تراءت له فتاة صغيرة بيضاء البشرة عسلية العينين دقيقة الشفتين ترتدي حجابًا أبيض نظيفًا وثوبًا سماويا يخلو من الثقوب؛ فتاة لا يعرف لها اسمًا امتلأ وجهها البيضاوي بالسعادة والبشر، كانت تلوح في وجهه بسبابتها، وهي وتقول باسمة:
"أنا مسامحاك... مع إنك ما وَدِّتْنِيش لماما".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكرا
قاسم حسن محاجنة ( 2014 / 4 / 10 - 05:59 )
قصة رائعة تقطر انسانية
لك تقديري


2 - تحياتي
حسين محمود التلاوي ( 2014 / 4 / 10 - 10:29 )
شهادة منكم محل إعزاز وتقدير
تحياتي

اخر الافلام

.. لطلاب الثانوية العامة.. المراجعة النهائية لمادة اللغة الإسبا


.. أين ظهر نجم الفنانة الألبانية الأصول -دوا ليبا-؟




.. الفنان الكوميدي بدر صالح: في كل مدينة يوجد قوانين خاصة للسوا


.. تحليلات كوميدية من الفنان بدر صالح لطرق السواقة المختلفة وال




.. لتجنب المشكلات.. نصائح للرجال والنساء أثناء السواقة من الفنا