الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طالب غالي عندليب البصره الاسمر

رزاق عبود

2005 / 7 / 10
الادب والفن


في مدرسة الجمهوريه النموذجيه "الفيصليه" سابقا. كنا نحن الذين نقف مصطفين لاول مره في حياتنا في ساحة المدرسه التي حلمنا بها. بعد ان لبسنا البنطرون بدل الدشداشه، وقمصان يغلب عليها اللون الابيض. كان بعضهم قد طوي الدشداشه في خبايا بنطرونه ليطلق صراحها "بعد الحله" . كان الزي الموحد امر طبيعي منذ اليوم الاول للدراسة الأبتدائيه. كما علمنا "ابو ناجي" والسنه الدراسيه غير اعتياديه فهي الأولى بعد ثورة 14 تموز1958. لذلك كانت ساحة المدرسه غاصه بعدد غير طبيعي من طلبة الصفوف الاولى ربما تعادل مجموع طلبة الصفوف الباقيه لان الثورة اتاحت للعديد من ابناء المناطق الفقيره، وشجعتهم على الدراسة "لتحمل اعباء بناء الجمهوريه الوليده". كما قيل لنا وقتها.

كانت الفرحه، والخوف يمتزجان معا. وجوه المعلمين الصارمه تزيدنا خوفا، والمدير الذي يقف عند الباب الرئيس لم يكن يبدو انه سعيدا من غزو ابناء المناطق الشعبيه لمدرسته التي كانت معقلا لابناء الاغنياء، والموظفين الكبار، وتجار العشار المعروفين وقله قليله من ابناء الطبقه الوسطى. فسرعان ما ادعوا ان البنايه لا تكفي. وابتكروا مدرسه جديده اسموها "النضال الابتدائيه" وحشروا الطلبه في بيت قديم هرم مقابل القاعه المركزيه. نقلوا اليها، ليس الطلبه الجدد فقط، وانما، ايضا، من كانوا مضطرين لقبولهم بسبب قلة المدارس من عوائل الفقراء، والموظفين الصغار . وسرعان ما انشطرت هذه المدرسه ايضا الى مدرستين بسبب اندفاع العوائل الى تسجيل ابنائهم في مدارس الجمهوريه الجديده. انبثقت مدرسه جديده اسموها 14 تموز وكان هذا الاسم اقرب الى القلب، والحفظ، والاوضاع الجديده. كان المفروض ان تكون المدرسه الجديده لابناء المناوي، والبراضعيه، والكزاره. وتبقى مدرسة النضال الى ابناء محلة البجاري، والساعي، والطمامه وغيرها من ابناء منلطق البصره الفقيره. وخير ابناء محلة بريهه القريبه فاخترت 14 تموز لانها اقرب الى القلب، ولان اغلب اصدقائي كانوا من ابناء المناوي.

نعم كان الخوف، والاضطراب يغلب على المصطفين من ابناء الصفوف الاولى، وخاصة ابناء الفقراء الذين ما تعودوا على البنطرون، والاحذيه الجديده التي "تعصر" الاصابع. اضافة الى القمصان التي كان بعضها ليس فيه من البياض الا الاسم بسبب قدمها. فجاة، وقف امامنا معلم كان الوحيد الذي يبتسم، ولم يحمل عصى في يده . كان انيقا، رشيقا، ونحيل لدرجة تشعرك بالعطف . صوته بالكاد يسمع. وبريق عينيه ينم عن طيبه، وبساطه غير عاديه. تباهى احدهم كان يقف الى جانبي، وهمس: "هاذه اخوي"! التفت على عجل لارى ملامحه ان كان جادا، او لا، فقد كنت خائفا ان يلمحني احد المعلمين المتجمعين امامنا، وعصيهم بايديهم. كنا نقف مصطفين في حالة استعداد، وكاننا جنود نتهيأ للتفتيش. لقد فتشونا فعلا. فحصوا نظافة جلودنا بحك المنطقه قرب الزلف. تفحصوا هندامنا. تاكدوا من تقليم اظافرنا، وان منديل الجيب كان معنا، ونظيفا. وقصة شعرنا مناسبة. الياخات قلبت، وعدلت. فتشوا جيوبنا للتاكد من اننا لا نحمل خرز، او "مصيادات". فنحن الصغار، وخاصة ابناء المناطق الشعبيه، كنا كما كان الكبار يرددون: "رب الوكاحه".

سمعت صوته بصعوبه، وهو ينادينا: "بابا، اولادي، عيني، سمعوا، انتو بس رددوا وراي"! عجيب لا يمكن ان يكون هذا معلما. لا عصا، ولاقرصات اذن، ولا "راجديات" ولا صياح، وصريخ، وشتايم، أوتهديدات بالفلقه، والزوبه. معقوله هذا معلم؟ فكرت مع نفسي. وأخيرا ردد معه من حفظ النشيد. لا اتذكره. ربما موطني. لا اتذكر، ولكنه ليس نشيد مليكنا،على اية حال، فقد كانت الملكيه قد قبرت والى الابد . ردد صاحبي النشيد كاملا فازداد فضولي. كيف عرف النشيد وهو طالب جديد. في طريق عودتنا الى الصفوف سالته هامسا: كيف حفظت النشيد؟ فاجاب بانزعاج: قلت لك انه اخي. مااسمه؟ سألته. طالب، طالب غالي. ماسامع بيه، يغني في الحفلات. رد مستغربا.

كيف لي ان اسمع به، وابي لا يسمع الا القرآن، او المقتل؟ ومنذ ذلك الحين بدانا نتلقف اخبار الحفلات، والاحتفالات كان هناك العديد من المنظمات، والتنظيمات. والشعب يعيش افراح تموز. مختلف المناسبات. اول ايار، 14 نيسان، ثورة العشرين، يوم الجيش، وغيرها،وغيرها . كانت احتفالات اتحاد الطلبه، والشبيبه الديمقراطيه، ورابطة المراه، ونادي النفط. وصادف قربها من بيتنا فكنا نستطيع ان "نملص" من البيت، ونتسلل الى الخيم، والقاعات، ونستمع خلسه الى اسمر يا اسمراني، وفوق الشوق، وغيرها من اغاني العندليب المصري عبد الحليم حافظ يرددها عندليب البصره، والعراق العذب الرقيق المرهف الحس. الملئ بحب الوطن، والشعب، والفقراء. ومع الزمن تلاقى ابداع طالب غالي مع عذوبة صوت فؤاد سالم، وغنوا معا للبصره، والعمال، والفلاحين، والحريه، والامل، وتموز، والمرأه. واصبحت اغنية: "عمي عمي يابو مركب يابو شراع العالي" نشيدا، وطنيا في كل حفلات البيوت، والنوادي، والسفرات، والامسيات. وقبلها كانت الحانه في اوبريتات المطرقه، ونيران السلف. لا زالت بساتين البصره، ونخيلها، وشواطئها تردد صداها، وتتناقلها الاجيال تراثا غنيا متجددا.

طالب غالي هذا المغني، والملحن، والمطرب، والشاعر، والكاتب، والوطني الغيور، والغريب المعذب الهائم بهموم الوطن جسد كل اهات شعب، وصور ماساة الغربه في قصيدة السياب وصوت فؤاد، والحانه و"غريب على الخليج" وهو ينوح مع عوده، وصوته الحنون: "عراق، عراق، عرق، ليس سوى عراق". حمل العراق اينما ذهب. والعراق الذي انجب العباقره والشعراء انجب طالب غالي.

في الحفلات كانت الفتيات يتسابقن للوصول الى الصفوف الاماميه للتمتع بصوته الهادئ، وسمرته البصريه الحنونه، وشخصيته الاخاذه، ومظهره البسيط الجميل، وحركاته الرشيقه. ولكن عينيه الناعستين، الحالمتين لا ترى الا "ام لنا" ذلك الطائرالمرافق الذي حمل مع جناحيه كل لوعة، وعذاب، وتغرب، وتشرد الحبيب ورفيق العمر طالب.

سفر من الحب، والحنان، والغربه، والشعر، والموسيقى، والكلام الجميل، والعشره الطيبه، والنضال، والصداقه الوفيه. ذلك المتواضع الخجول بركان ملئ بالموسيقى الشجيه، والابداع المتواصل، تتفجر حممه رغم سكونه قلائد مستمره باهره تزين صدر ثقافة وادي الرافدين الحديثه، ليتسطر اسمه مع باقه لماعه من المبدعين وجلهم اصدقائه.

كان احد الاصدقاء يلح على زيارته فاتعذر بالانشغال، والوضع الصحي. ويوم ما فاجئني: "اذا جئت سنذهب لزيارة طالب غالي". فهمت انه استقر في الدنمارك. وكالسحر زالت كل العوائق، والموانع. وفي ليلة وضحاها كنت في ضيافتة. ذات الكرم، والطيبه والحنيه، والبساطه. وقف امامي، كما وقف ليعلمنا النشيد، ورغم حيائي، واحترامي الفائق له تماديت. ومازحته: "شنو كاشان، وكانك لم تكبر، ولم تمر عليك السنين". ورد بضحكه هادئه: "لا، وين، شيبنه". واردف: "الفضل كل الفضل لام لنا". وقفت الى جواره، وكانهما مخطوبان حديثا. عيني بارده.

ولأنه،بطبعه، قليل الكلام، وهادئ الطبع حاولت، ان استفزه ليتحدث قلت له: "تغربنه، وتشردنه كله منك!" . وبهدوء عجيب ضحك،بخجل، متسائلا: "ليش شنو سويت". هكذا لا دفاع، ولا تمترس، سال، وكانه يريد، ان يعتذر لخطأ لم يرتكبه. مازحته بخبث: هل تتذكر نادي الجامعه، وانت تغني: "شده يا ورد شده، جبهتنه ورد شده، لمتنه ورد شده". ابتسم بالم، ورد بحسره، وتأوه: "حتى الورد بيه شوك. نحن كنا، ولازلنا صافي النيه، ولكنهم غدروا، وهذا ديدنهم دوما". و اضاف بعد صفنه قصيره: "مع هذا فما كنت اقصدهم كنت اتحدث عن شعبنا الطيب، الذي التف حولنا يومها، على امل ان، نضع حدا لجراحه، وايقاف نزيفه الدائم". وانعطف مزاجه فجاة محتجا: "ولك حتى الغناء لا يروقهم. هل تتذكر كيف حاربوا اغنية عمي عمي يا ابو مركب، وكيف خرج هذا التافه طارق عزيز من القاعة عندما صعد فؤاد، وبعده العطار ليغنيا للوطن". نحن لم نغن لهم ابدا . غنينا للوطن، والكاع، والناس. للعمال، والفلاحين، للارض، والبساتين. للطلاب، والشمس، والحقول العامره، التي يبست بعد غربتنا. وسنبقى نحمل هذا الوطن في قلوبنا اينما حللنا.

كم كنت، ولا زلت صادقا ايها الحبيب. فالشريط "الكاسيت" الذي بعثته بالبريد قبل اكثر من عشر سنوات لم تكن فيه اغنيه واحده لا تتغنى بالعراق، وتنوح لترابه، وتحن لاهله، وتشتاق لربوعه، وتبكي للوعته وعذابه، وتشيد بطيبة اهله وقيمهم النبيله.

للصديق، والحبيب، والاستاذ، والأخ، والرفيق المبدع الكبير طالب غالي كل الموده، والاعتذار. فلن نكتب ما يوفيه حقه ابدا.

رزاق عبود
6/7/2005








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - حقوق المراءه
بان عبد الرحيم دولاب ( 2011 / 9 / 2 - 22:46 )
نتمنا ان يكون حقوق للنسوه اي حق للنسوه لعراقيه ممتوفره في العراق


2 - فشل الحكومه يشككني
بان عبد الرحيم دولاب ( 2011 / 9 / 3 - 07:11 )
الحكومه لها دور في فشل المواطن في البطاله ولعدم الثقافه

اخر الافلام

.. الجزائر تقرر توسيع تدريس اللغة الإنجليزية إلى الصف الخامس ال


.. حياة كريمة.. مهمة تغيير ثقافة العمل الأهلى في مصر




.. شابة يمنية تتحدى الحرب واللجوء بالموسيقى


.. انتظروا مسابقة #فنى_مبتكر أكبر مسابقة في مصر لطلاب المدارس ا




.. الفيلم الأردني -إن شاء الله ولد-.. قصة حقيقية!| #الصباح