الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أوجه الكمال في كمال**

عقيل الناصري

2014 / 4 / 11
سيرة ذاتية


أوجه الكمال في كمال**
منذ نهاية القرن التاسع عشر .. بدأت النبتات الأولى للانتلجينسيا العراقية تشق طريقها الابداعي وسط المعرقلات والكوابح المادية والمعنوية وفي ظروف التخلف العام وانعكاساته على تجليات الوعي الاجتماعي النافية الطبيعية لصيرورات الارتقاء بالانسان وواقعه.. فكان مطلع القرن العشرين من اخطر مراحل صيرورة الظاهرة العراقية ، حيث بدأت ملامح الصراع الاجتماعي بين القوى التقليدية وتلك النبتات النامية للانتلجنسيا؛ بين قوى التحديث وقوى السكون الاجتماعي؛ بين قاطرة التحديث المادي والانفتاح على عالم الضرورة وتلك المتمثلة بتجارة القرون الوسطية؛ بين مركزية السلطة والعشائر المتشظية والمتحاربة.. فكان بداية الحراك نحو الدولة المركزية الحديثة التي تسارعت معجالاتها بتأثير العوامل الكونية وانهيار الامبرطوريات الروسية والعثمانية والالمانية وبروز قوى عالمية جديدة.. انعكست أثارها على قوى التحديث المحلية فخطت سنوات فتوتها، في صراع مستديم مع واقعها، بكل ابعاده، ومحيطها الاجتماعي من جهة ومع ذاتها الطامحة إلى تغير ذلك الواقع من جهة ثانية.
لقد ترتب على هذا الصراع عواقب جمة صاغت من الكثير من هذه الانتلجنسيا سماتها العامة والتي بدورها انشطرت على ذاتها وعلى وفق سرعة منطلقها التغييري فكان بعضها ذات طابع ذو منزع استعجالي.. والآخر ذات سكونية لا تخرج عن وهدة الواقع.. والثالث كان يحاول تقنين سنن التطور على وفق درجة الوعي الاجتماعي ببعده المستقبلي ودرجة تطور القوى المنتجة.. وهذا الأخير يمكن أن نطلق على مناصريه (المثقفيين العضويين) الذين ربطوا بين مهماتهم الحياتية عامةً وغائية التغيير التي نظروا إليها كصيرورة اجتماعية سياسية ذات ضرورة وأولوية على باقي المهمات المركزية للقوى الاجتماعية الجديدة، على وجه الخصوص، التي تشكلت في واقع ما بعد تشكل السلطة المركزية.. وبالتالي وسموا الثقافة العامة بطابعها الاجتماعي ذو المنحى الموضوعي العام وبنزعته التقدمية، والتي تبلورت بكل ابعادها في تجليات الوعي الاجتماعي: الجمالية والحقوقية والفلسفية والسياسية بل وحتى الدينية. هذا النزوع يمكن رصده في مختلف مراحل التطور التاريخي لسيرورة الظاهرة العراقية المعاصرة.

كما يمكننا رصد قرينة أخرى ارتبطت ورافقت هذه الصيرورة ، مفادها أن كل عقد زمني قد أفرز مجموعة انجزت بعض من مهامها، وربما الكثير حسب ما امكنها من توفر الظروف العامة، وبعضها الآخر كان ذو منزع استعجالي يحاول مصارعة الواقع المتخلف بأدوات تغييرية غير متلائمة مع ذات المهام، ولا مع ما متاح من امكانيات، كما لو أنهم يصارعون السماء بأيديهم العارية.. يدفعهم ويحفزهم إلى ذلك ايمانهم بعدالة غائية التغيير ذاتها وضروراتها لواقع دينامكية التطور المرغوب وأهميته وحاجة الفرد العراقي إليها.
وثالثة الظواهر التي يمكن رصدها من تاريخية الانتلجنسيا العراقية.. أن الكثير من هؤلاء دعاة التغيير الاجتماعي ، ومنهم كمالنا، قد نذروا أنفسهم لهذه الغائية التي هي بمعايير :
- الاخلاق فكرة سامية؛
- وبالجمال ايثار سيمفوني ؛
- وبالسياسة غائية نبيلة ؛
- وبالتطور ضرورة موضوعية؛
وبالانسانية ماهية ما بعدها ماهية.
وقد تحملت هذه الانتلجنسيا شتى صنوف العذاب والحرمان بل حتى أن الكثير منهم كانوا قرباناٌ لهذه الضرورات ولذات الغائية، بقدر ما كانوا من ماهيات معالم الذات العراقية في تجلياتها الجمالية. الأمعان في هذه العوالم سترنو وستشخص الابصار، بالضرورة، نحو اولئك الرواد الأوائل، منذ عشرينيات القرن المنصرم حيث رواد الفكر المساواتي الاجتماعي والتمدن الحضري ، وثلاثينيات الفكر التقدمي والديمقراطي، واربعينيات التبلور النقابي والسياسي، وخمسينيات المثقفين وتبلور الطبقة الوسطى وتأثيراتهم المتصاعد.. والجمهورية الأولى وما حققته على الصعيد التغيرات المادية لسكة التطور.. والجمهورية الثانية وكوابح النمو الحقيقي للانسان والعود القهقري لمؤسسات ما قبل الدولة.. وها نحن في الجمهورية الثالثة وفقدان معالم طريق الرواد الاوائل والضرورات الموضوعية والعود إلى الصراعات والبدهيات الأولى.
أما عن مستوى افراد الانتلجنسيا فيصعب عدهم وحصرهم وتكاد الارقام لا تستوعبهم.. لكننا نتلمس وجودهم المعنوي بل وحتى المادي المتجسد ونسترشد بهم وبتأثيرهم على مجمل الحياة بابعادها الاجتصادية والسياسية الثقافية.
ينتمي كمالنا رفيق الدرب والكلمة، العالم والاكاديمي إلى هذه الفئة من الانتلجنسيا العضوية.. حيث ربط مهامته الثقافية والعلمية وابحاثه الرائدة في سيسيولوحية صيرورة التغيير الغائي المرغوب والمعبر عنه جمعياً.. حيث ساهم بقوة روحية وزخم فيزيائي ليس في تهيئة تربة التغيير العلمي والثقافي حسب، بل كان مساهما ومدركاً، حسب الممكن والمتاح، في فعل البناء المعرفي ..وبهذا كان مساهما واعيا في استحداث تاريخ جديد لذاته ولحراكيته السياسية وانتماءه، بالمفهوم الواسع، القومي والوطني. لقد مزج كمالنا كمال الوعيين بمدرك جدلي دون تناقض بينهما.. بل أنهما متكاملان لديه.. بين انتماءه لقومية لها عمقها التاريخي والطامحة لتحقيق بعدها الانساني وتكوين ذاتها المستقلة وبين تحقيق الاستقرار والتطور لبعدها الوطني المتمثلة بالهوية العراقية وإمتدادها القومي الأرحب وكذلك ثقافته ذات البعد الانساني.
لقد ولج كمالنا الفاضل الفعل العضوي( السياسي والمعرفي) منذ نعومة اضفاره.. وتعلم صلابة العود في البحث والتنقيب، وفهم حراكية الحياة وروابطها الفلسفية وحل بعض من ألغاز محركات الصراع الطبقي واسترشد به ليس كمفهوم مجرد بل كوسيلة تحقيق لغائية التغيير وفعل العمل الواعي. والتخصص في البحث وأنتبه إلى الكلمة وتأثيرها.. فأسترشد بمنظومة القوانين والمفاهيم الجدلية التي تسربت إلى روحه بتناغم هرموني رغم استعصائها عليه في البدء.. لفهم الفكرة ومن ثم التعبير عن المكنون، سواءالذاتي أو/و الاجتماعي، الوطني أو/و القومي والانساني.. فكانت مرحلة التهيأ إلى الانطلاق.. فكان الاندماج في ماهية الاستشراق السوفيتي والمقترن بالروح النقدية واستبعاد قلة ادراك الباحثين للظروف الملموسة وسيكولوجية الوقائع أو استبعاد الطارئ من العوامل عن المضامين الحقيقة لظاهرة الاستشراق والتي غالبا ما تفضيها الجوانب الذاتية للباحث أو متطلبات الممارسة السياسية أو غيرها من العوامل.
لقد دخل كمالنا مجال الابداع ونحت الأفكار وتنامت مكونات تركيبته المعرفية وتصلبت أبعادها النفسية وتعمقت مطالعاته.. فكان البحث الجاد منطلقه ومن ثم الدراسة المكثف لمختلف المناحي التاريخية فأبدع في الكثير واختلف بل تناقض مع الكثيرين. واشتغل على ابعاد المعرفة التاريخية فكان له نصيب.. كل هذه الجوانب خلقت منه مَعلَماً ثقافياً ذو نظرة جدلية متجذرة، اثارت الاستفهامات في مكامن المعرفة السائدة.. فكان بحق ابن الاستشراق السوفيتي في نظرته اللا استعمارية وذات الغائية الكامنة في البحث الموضوعي كي يعيد انتاج المعرفة التاريخية التي غيبها الاستشراق الغربي .
هذه العوالم الابداعية وولوجه الحياة المعرفيه والتثقيف الذاتي والسياسي.. قد فتحت له بابا واسعة في عالم الابداع.. وولجها بثقة وابدع، فكان له منجز في هذا الحقل. كان عالمنا الجليل تواقاً أن تأخذ صيرورات التقدم الحضاري الذي أسست له ثورة 14 تموز، مجالها في تحديث الواقع العراقي..لكن هجوم الجراد على حقول الطلع أثر في هذا الحقل المعرفي وأرتدت الحياة الى سنون مضت وعادت المؤسسات الاجتماعية السابقة للدولة التأثير على كل مساحات الحياة.. فسادت الفكرة الواحدة واللون الواحد والطريق الواحد والنغم الواحد.. فتحولت الحقول إلى ارض جرداء.. لقد تألم كمالنا وراودته، كأمنية، فكرة تغير هذا الواقع منطلقا من ايمانه بماهية منطلقاته الفلسفية، كمبدع ومثقف عضوي، وربما، إذا سمح لي، أن عدم ربطه بين الواقع بكل تعقيداته، وبين الأمنية، لانه كتقدمي عراقي غلبته الأمنية، ومع هذا كان يزرع الأمل في النفوس الباحثه عن الحقيقة ويحاول كسر طوق النظرة الاحادية ويعيد انتاج المعرفة التاريخية بما كان مسموحاً له ولغيره من المبدعين.
هذا المثقف العضوي، كما أرى،عاش العلم فيه.. وحمله في ضميره ووعيه.. مستهدفاً تهيئة تربة التغيير الديمقراطي بغية كتابة تاريخ جديد معبر عن المجتمع بأطيافه ويعيد انتاج العلم بتشعباته والوطن بتكويناته، رغم مطبات الزمن وتغيرات الظروف والضرورات.
وهنا نتسائل واياكم من كمالنا بعد هذا المسير الطويل في الدرب الصعب، ذو الشجون والسجون
هل اصاب عالمنا الجليل في اختياره الطريق الصعب؟
هل ارتكب خطأ معرفياً ؟ واين مكمنه؟
هل تغيرت نظراته إلى الحياة بعد ما شهد تغيرات العالم المادي بأعمق صورها غير المدركة ؟
لكن في الوقت نفسه هل أصاب ووصل إلى المبتغى؟
كيف يرى ذاته الآن؟؟
وهل سرى اليأس إلى قلبه وضميره المعرفي قبل السياسي ؟ أم لا يزال هو والتفاؤل متتوئمان؟
وهل أدرك ماهية الانسان بعد هذه التجارب الحياتية؟

الاجابة عن هذه التساؤلات متروكة له ولزملائه وطلابه.
لكن اصراره، كما أرى، على تغيير نمط الحياة العامة والفكرية على الاخص، من خلال دراساته وابحاثه وإشرافه العلمي المتواصل، وهو ابن السبعين ونيف، وتشبثه بالفكرة الغائية للانسان وبالابعاد الجمالية للذات الواعية وبما أمن به من فلسفة التنوير والصراع؛ والتطور والارتقاء وعدم فقدان بوصلة التوجه.. والتناغم بين الواقع المتغير لغائيتيه الوطنية والقومية؟؟ كلها دلالات ربما تجيب على بعض من هذه الاسئلة. ومع كل ذلك ارسى حجرا في الثقافة العراقية وخاصةً التاريخية منها، فله أكثر من حسنة معرفية واخلاقية ..
له العمر المديد والعطاء الدائم ..
كمالنا غصن من شجرة الحياة .. دائمة الخضرة


د.عقيل الناصري
الاكاديمية العربية المفتوحة في الدنمارك ستوكهولم / السويد

** الكلمة التي ارسلت بمناسبة الاحتفاء بالعالم الجليل الدكتور كما احمد مظهر ، والذي اقيم يوم 10/4/1014 في عاصمة كردستان/ اربيل والذي اقامته جامعة صلاح الدين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحياتى لك الدكتور الناصرى
على عجيل منهل ( 2014 / 4 / 11 - 15:27 )
مقال مهم حول عالم جليل الدكتور كمال مظهر احمد شكرا لك


2 - تحية
علي فهد ياسين ( 2014 / 4 / 11 - 17:44 )
اجمل تحية للدكتور عقيل الناصري على مقاله الرائع الذي اعتمد المناسبة لالقاء الضوءعلى احد الجوانب المهمة في التاريخ الوطني العراقي


3 - واجب اخلاقي
عقيل الناصري ( 2014 / 4 / 12 - 11:57 )
العزيزان المنهل والياسين
شكرا لكما ..انه وفاء للعديد من علمائنا وكذلك للمثقفين العضويين الذين يحرثون ارض التاريخ باقلامهم ويشيدون صرح تاريخ جديد.. هب لكمال احمد مظهر لكنها في الوقت نفسه لهؤلاء المثقفين جميعا.. بناة المستقبل
شكرا لكما ويا حبذا لو نساهم جميعا في رصد هذه الظاهرة ونشبعها بحثا وتكريما للاحياء منهم والاموات. قبلة ووردة

اخر الافلام

.. إسرائيل.. تداعيات انسحاب غانتس من حكومة الحرب | #الظهيرة


.. انهيار منزل تحت الإنشاء بسبب عاصفة قوية ضربت ولاية #تكساس ال




.. تصعيد المحور الإيراني.. هل يخدم إسرائيل أم المنطقة؟ | #ملف_ا


.. عبر الخريطة التفاعلية.. معارك ضارية بين الجيش والمقاومة الفل




.. كتائب القسام: قصفنا مدينة سديروت وتحشدات للجيش الإسرائيلي