الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حدثَ في عرس رنيم (1). رواية قصيرة

نعيم إيليا

2014 / 4 / 11
الادب والفن


الإهداء: إلى (إيمي. ج) الفكرة التي عشقتها حتى الرثاء!

توضيح: في الطبعة الأولى جاءت قصة (حدَثَ في عرس رنيم) ثانية من حيث الترتيب داخل هذه المجموعة القصصية التي منحتها اسم (الكلب العقور) تغليباً، وكانت في فصل واحد. وكنت في تلك الطبعة، زودتها بحاشية ألصقتها في نهايتها، جهرت فيها بالمناسبة التي ألهمتني إياها. وقد زيَّن لي أن أحتفظ بهذه الحاشية في الطبعة الثانية ما تلمسته فيها من النفع. ولكني لم أحتفظ بها من دون أن أهذبها، ومن دون أن أضيف إليها معلومة طفيفة، ولكن ضرورية، تشرح علة إقدامي على إلحاق فصل ثان بها. كما زدت عليها زيادة فنية بأن رقَّيتها إلى توطئة تتصدر القصة.

1- (توطئة كانت حاشية في الطبعة الأولى).
(( ليست قصة (حدث في عرس رنيم) من ابتداع الخيال؛ بل هي، باختصار، قصة من إبتداع الواقع. وهذا يعني، بلفظ مبسط، أن الواقع هو الصانع الحقيقيُّ لهذه القصة؛ أي مبدعها الأول، لاخيال القلم وشطحاته. فعسى أن يجد القارئ في قولي المختصر هذا، ما يغني عن الإيضاح بأن كل قصة يكون الواقع صانعها الحقيقيَّ لا خيال المؤلف وهذيانه؛ فإنما هي قصة واقعية لا محالة.
غير أني، حين أؤكد هنا أنها قصة "واقعية" لا أقصد إلى أنها من القصص التي تنتمي إلى مذهب الواقعية بخصائصه الفنية تلك المتفردة وسماته البنيوية تلك المتميزة؛ المذهبِ الذي تكون الأحداث فيه، قبل أي عنصر آخر من عناصر القصّ، مستمدةً من الواقع المعيش دون اشتراط أن تكون وقعت فيه حقيقةً، وإنما حسبها عند أصحاب المذهب أن تكون ممكنة الوقوع على تناغم وائتلاف مع منطقه الخاص.
لا! ليس هذا ما أعنيه بالضبط والدقة، وإنما أعني ما هو أبعد من ذلك ضبطاً وأكثر منه دقة.. أعني أن (عرس رنيم) قصة "حقيقية" لا بالمعنى المصطلح عليه عند دارسي الأدب، بل بالمعنى الحرفي لهذه المفردة؛ بالمعنى المعجمي الصريح لها؛ هذا الذي يفيد بأنها وقعت بالفعل لا بالقوة، كما يقع الآن أمام سمعي نباح كلبي في الخارج - وأنا أخط هذه الكلمات - وكما وقع حادث الأمس في عمارتنا؛ فأودى بحياة جارنا (...) الذي كان يدنو من الشيخوخة بقدم وجلة متعثرة. يا لتعسه! لقد همّ المسكين أن يهبط الدرج كما في كل يوم، ولكنه في هذا اليوم فقد توازنه عند أول خطوة؛ بسبب نوبة قلبية (ربما دماغية) فاجأته - على قول ابنته - أو بسبب تآكل ركبتيه الناجم عن الاحتكاك الطويل بالزمن - على قول زوجته – أو بسبب إفراطه في شرب الخمر - على ما أسر إلي عنه جارنا التركي الذي يسكن في الشقة التي تستقبل شقته في الطابق الثاني - وسقط المسكين فتدحرج من أعلى الدرج إلى نهايته ومات. فليرقد براحة وسلام، لقد كان جاراً حسن الجيرة!
وكان وقوع هذه القصة في بلدة (شمخا) المضجعة في سكون على كتف دجلة الأيمن قبالة بلدة (آيسيل) التركية من الطرف الآخر للنهر. ولقد كنت شاهداً على وقوعها في ذلك اليوم... شهدت في ذلك اليوم كيف وقع الحدث الأخير منها – وأشدد على "الحدث الأخير" مراعاةً مني للصدق؛ فأنا في الحقيقة لم أعاين غير هذا الحدث، أما الأحداث التي سبقته فقد تلقفتها من الناس كما سيأتي بعد قليل – شهدت هذا الحدث بأم عيني، كما يقولون، داخل كنيسة القديسة (مارت شموني) القديمة التي يعود تاريخها إلى القرون الأولى للمسيحية، والتي تحولت الآن إلى كنيسة فخمة بعد ترميمها. ويتضمن هذا الحدث سقوطَ فتاة تدعى (بدور) في حالة ذهانية عجيبة غريبة نادرة داخل الكنيسة في الوقت الذي كان طقس إكليل صديق طفولتي (سولاقا بَرْخو شَكْوانا) الذي كنت في ضيافته بدعوة لطيفة حفيّة منه، يجري عقدُه على الأخت الفاضلة أم عشتار رنيم موسى - وهي التي استعرت اسمها فأطلقته على هذه القصة اعترافاً مني بفضلها علي وعلى قلمي يوم كنت في ضيافة عريسها - ما يزال في بداية النهاية.
حدث هذا في سنة 1989 في عزّ الصيف - إن لم تخني الذاكرة - في العصر قبل غياب الشمس غياباً كلياً. وأذكر أنني كنت وقتذاك جالساً على المقعد الذي كان يضم مجموعة من أقرباء العريس المتأنقين المتعطرين؛ أتتبع مجريات طقس القران مغتبطاً مبتهجاً بمشاهدة سولاقا صديق طفولتي عريساً، إذ سمعت فجأة صرخة تلك الفتاة المدوية؛ صرخةَ بدور - وكانت جالسة إلى جانبي الأيسر في صف المقاعد الخشبية البنية اللامعة؛ في الصف الذي اعتادت النسوة أن يشغلنه، لا يفصلني عنها إلا عرض الممشى الطويل الضيق الذي لا يكاد يتسع لأكثر من اثنين متلاصقي الكتفين ليس لهما وزن زائد – رأيتها... ورأيت كيف انتفضت بعد صيحتها المدوية تلك، وكيف تلوَّت كدجاجة مذبوحة، والزبد يدفق من فمها كأنه رغوة صابون، وأمُّها المروَّعة ممسكة بها تضمها بشراسة إلى صدرها مستغيثة بمن حولها استغاثة الجريح في موضع التفجير، والسيدات اللواتي كن على مقربة منها خلفها وأمامها، حائرات مضطربات يتلجلجن من الذعر ويجهدن، توقيراً منهن لقدسية المكان والمناسبة، في خنق صرخاتهن وضبط حركاتهن الهوجاء المتلبّكة، ولكن عبثاً دون جدوى؛ لأن الذعر كان أقوى من أن يتمكّن من خنقها ومن ضبطها.
وحين تبين لي من التحرّي، الذي يحركه عادة الفضولُ في نفس كل من له صلة بالصحافة والأدب عندما يواجه حدثاً ما مثيراً، أن هذا الحدث، ليس واحداً من الأحداث المألوفة المكرورة في حياة هذه البُليدة ذات العمران القديم، وإنما هو حدثٌ فريد طريف لم يقع له نظير فيها قط من قبل؛ انتهزته وبادرت إلى صوغه، بما تجمع لي من أجزائه المتناثرة، وأشتاته المتفرقة في قالب الخبر الصحفي لنشره في مجلة (المغترب الحزين) التي كانت تصدر آنذاك في العاصمة استوكهولم باللغة العربية في القسم الأكثر قراءة من قبل المهاجرين؛ وهو (أخبار من الوطن). إلا أن إغلاق المجلة حال، مع الأسف!، دون ظهور هذا الخبر.
وبعدُ، فلما راجعت الخبر بعد مضي أعوام، وكنت عثرت عليه مصادفة بين أوراقي المهملة المنسية، رأيت فيه نواة قابلة للنمو والتطوير؛ قابلة للتحويل إلى قصة جديرة بأن تُضمَّ إلى مجموعتي القصصية هذه في طبعتها الأولى، فأقدمت على المشروع برغبة وشجاعة، وبدأت في العكوف عليه بهمة قعساء ورغبة جياشة؛ فإذا بتلك النواة الصغيرة تزداد نمواً واتساعاً يوماً بعد يوم، فكأنما هي غرسة وما زلت أحدب عليها، وكأنما هي رحْبة وما زلت أوسّعها، حتى أخرجتها في هذه الحلة التي أرجو أن تحوز رضوان القارئ الكريم.
وليعلم قارئي العزيز! أنني سردت أحداثها كما يسرد المؤرخ النزيه أحداث تاريخه بأمانة وحياد؛ فلم أستعن بخيالي على تأليف عناصرها؛ أعني لم أضف إليها من خيالي شيئاً، اللهم إلا ما أملته علي الصنعة الفنية إملاء قهرياً لا حؤول عنه. لقد حافظت عليها؛ نقلتها نقلاً أميناً صادقاً من مكانها وزمانها إلى مملكة الورق، ونسّقتها متسلسلة وفق خطة فنية استوحيت عناصرها مما أفادتني به تباعاً التحرياتُ الخاصة التي سمح لي وقتي القيام بها يومذاك. كما جهدت في أن أصون شخصياتها جميعاً – تلك الجديدة التي تعرفتها في زيارتي لمسقط رأسي ولم أكن أعرفها قبل هجرتي، وتلك القديمة التي أعرفها منذ الصغر - من عبث القلم بملامحها وطبائعها وعاداتها وأذواقها ومميزاتها الحقيقية الأخرى. حتى إني لأذكرها بأسمائها كما هي دون تحوير؛ حتى إني لأتفادى اللجوء إلى تحريفها تحريفاً مخادعاً بما يدل على أصحابها ولكنْ من بعيد بإيحاءٍ وإيماء ورمز عميق؛ على عادة بعض الكتاب الحذرين الذين يتجنبون التصريح بأسماء شخصياتهم الحقيقية خوف العاقبة.
ورب ناقد يعترضني هنا قائلاً: وما فائدة الإخبار عن حقيقة عدم تغيير الأحداث، وعدم التصرف بطبيعة الشخصيات وأسمائها؟
هل من فائدة تجتبى من الإخبار عن حقيقة، لو طويت ما كان لها أي تأثير على القارئ؟
وإنه لاعتراض وجيه! وإني لأقرُّ هذا الناقد الذكي الفؤاد على اعتراضه الوجيه هذا الذي لا تعزِّه حجةٌ. فما هذه القصة (وما سواها) في واقع الأمر إلا هذه القصة التي بين يدي القارئ والناقد بعُجَرها وبُجَرِها؛ ما هي في واقع الأمر إلا هذه القصة حقيقيةً كانت القصة أو متخيَّلة: فإن تكن القصة حقيقية، فإن كونها حقيقية، لن يكون معياراً لنجاحها بصورة تلقائية حتمية، ولن يكون أيضاً سبباً لرضى القارئ عنها، وإن تكن متخيَّلة، فإن ذلك لن يكون معياراً لنجاحها، ولا سبباً لرضى القارئ عنها.
هذه هي القضية. وإنها لقضية واضحة محسومة من قضايا علم الجمال والنقد. وسيكون من العبث أن يُمارى فيها، مثلما هو من العبث أن يمارى في قضيةٍ مشابهة لها هي قضية منهج السرد أو (تكنيك؛ تقنية القصة) هل المنهج الفني (تقنية القصة) علة نجاح القصة أم علة إخفاقها؟ فإن التجربة تثبت بما لا يُدحض بالرأي والنظر، أنّ تقنية القصة ليست عاملاً حتمياً من عوامل نجاح القصص أو عاملاً ضرورياً من عوامل إخفاقها؛ فما أكثر القصص التي حظيت بالنجاح، ولم يكن نجاحها منوطاً بالتقنية! وما أكثر القصص التي أخفقت، ولم يكن إخفاقها بتأثير تلك العلة!
ولعل من الجائز أن أضيف إلى ما سبق، قضية ثالثة هي قضية شخصية المؤلف! "هل هي معيار لنجاح القصة؟" مع علمي بأن هذه الإضافة قد تفضي إلى سؤال شائك صعب، ليس من اليسير أن يجاب عنه، وقد يمكن أن أطرحه على الوجه التالي:
" إذا لم تكن شخصية الكاتب بالإضافة إلى تقنية القصة، وبالإضافة إلى قضية الحقيقة والخيال، معياراً لنجاح القصة، فما هو المعيار إذاً؟".
إن محاولة تسوية المعضلة بالرأي المنطقي القائل: لمّا كانت القصة كالإنسان، ولما كان الإنسان ليس إنساناً إلا بمجموع أعضائه من الرأس إلى القدم - فليس إنسان بالرأس وحده، وليس إنسان بالساقين وحدهما، وليس إنسان بالقلب وحده، وليس إنسان بالذراعين وحدهما... – ترتّب على ذلك نتيجة منطقية هي أن اجتماع هذه الأعضاء الضرورية للإنسان مع وجوب أن تكون متآزرة فيما بينها متضافرة على القيام بوظائفها بتساوق وانسجام، يجعل الانسان إنساناً؛ فلما كانت هذه النتيجة المنطقية صادقة بالنسبة إلى الإنسان، فهي صادقة حتماً بالنسبة للقصة أيضاً للتماثل الكلي بينهما في هذا الجانب، لن تكون محاولة ناجحة - في نظري – كل النجاح، أو تكونَ حلاً شافياً للمعضلة؛ لأن الاعتراض بمثل: " وهل حصول ذلك للإنسان يجعل الإنسان إنساناً حقيقياً؟" سيزعزع الأساس اليقيني لهذا الحل أو الرأي: فما يخلو أن يكون الإنسان مكتملاً بأعضائه وبمظهره، ولكنه مع ذلك لا يخلو أن يكون دميماً، أو مجرماً، أو مكروه الطباع. وما يخلو أن يكون الإنسان ناقصاً بيدٍ واحدة، أو ساق واحدة، أو عين واحدة، أو قلب آلي، ولكنه لا يخلو أن يكون جميلاً، صالحاً، طيب الشمائل، محبوباً.
بيد أن القارئ الذي آمل أن يقتني مجموعتي القصصية (الكلب العقور) في طبعتها الثانية؛ فيتاح له الاطلاعُ على حكاية الفنان التشكيلي الشاب (بسيم المقسي برصوم) التي ألحقتها فصلاً ثانياً بقصة عرس رنيم إلى جانب بدور، وجعلت ترتيبها مقدَّماً، كما سبق أن ذكرت، على حكاية بدور لاعتبارات فنية تقنية تنظيمية، أو لغير ذلك من الاعتبارات الخفية التي ربما استكشفها الناقد الأريب، واستنبطها القارئ الخبير، أبت إلا أن تتمرد على السياق الزمني وترتيبه؛ لن يفوته أن يتدبر حقيقة أن ما كان حقيقياً من القصص، فلربما كان له أثرٌ أقوى في نفس القارئ من أثر تلك القصص التي ليس لها من الحقيقة إلا صورتها الخارجية العائمة.
أنطون كَرَباشي، استوكهولم المحروسة، خريف سنة 1999"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً


.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع




.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو


.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05




.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر