الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مخطوطة : على مقربة من سلمى والحرب

سعدي عباس العبد

2014 / 4 / 11
الادب والفن


..
مخطوطة : على مقربة من سلمى والحرب

كانت النوارس ماتزال تتتوسل باطرف النهار المسفوح على كتف النهر . لما قدتها برفق من يدها في اطباقة حميمة .. تركنا النهر خلفنا ... قالت__ : ياليت تكون معي دائما ..تطوّقني بذراعيك وانفاسك ورغباتك ورائحتك ... طوال مدّة غيابك هناك في الجبهة . يأتي ليّ طيفك . محمولا على اكتاف من الذكريات .. تلوح وانت ساكن وسط ظلوعي وقلبي وروحي .. قلت __ : وانا ايضا اتذكّرك هناك طوال مدّة مكوثي في البراري المقفرة .. وتحت السماوات المغلقة بحواجز من الخوف والدخان والطائرات ..يلوح ليّ طيفك في الحلم وفي اليقظة في المنام وفي الصحو .. كنت معي هناك .. دائما معي .. في السفوح والوديان والمنخفضات وفضاءات الملاجىء .. دائما معي في الليل والنهار في الصمت والخوف والقلق وفي الظلام والقصف والبكاء واللوعة .. هناك كنت تجيئين كالحلم . بهيّة متألقة فارعة القامةوالسحرّ ..هناك يكون طيفك الساحر في متناول عيوني ويديّ ..تأتين يافعة مليئة بالتوق والعنفوان .. ولما تريني __ او هكذا كان يخيّل ليّ __ يتجمّد الوقت في عينيّكِ المتلامعتين وتعلو ملامحك مسحة رقيقة من بلل الدموع واللهفة , .. فتصير البرّية الموحشة جنّة ساحرة في ريعان الجمال , فتتكاثر نجوم المسرّات في سماء الوقت وتزداد توهجا , فاراك كما لو كنت فراشه تحوم هائمة على ازهار روحي المورقة بالتوق والحنان .. تحومين خافقة بالاحلام والقبّل....... هناك تأتين خفيفة ناعمة بلا صوت بلا ادنى نأمة بلا خطوات كما لو انك النسيم .. فتتبدّد الوحشة وتمتلىء روحي برائحتك وهي تتصاعد عند السفوح وفوق الوديان .. قالت __ : والشتاء ..ماذا عنه ؟ اخ .. لشد ما تنهك روحي ليالي الشتاء الطويلة ..هل كنت تحلم بي في اماسي الشتاء .. شتاء الملاجىء والرعب .. قلت __ : ............. وانتِ , قالت __ : كنت اترقب عودتك .. كنت انتظرك عند حلول كل نهار .. ولكنك لا تجيء .. فابقى انتظر .. وغالبا ما تأتي متأخرا .. واضافت بنبرة ناعمة __ : حقا .. متى تغادر للجبهة , قلت __ : الجمعة عند الهزيع الاخير من ليل الجمعة .. قالت __: يا للعذاب .. أهو قدرّنا انّ نبقى معلّقين في فضاءات الغياب والحرب .. قلت __ أترغبين انّ اكتب اليكِ من هناك .. اكتب اليك عن الوجوه التي امحت احلامها الحرب .. عن ليالي الشتاءات الطويلة . الطويلة بالبرد والقصف والعزلة والذكريات .. اخ .. يا لسحر الذكريات .. نجترها ونعيد اجترارها مئات المرات وكأننا نحفر في متاهة .. الذكريات في الحرب لا تنضب , بل تتجدّد باستمرار تنمو وتورق مع كلّ استعادة ! .. قالت __ : ...... ولكن كلّ ذلك سيتبدّد في النهار الاوّلى من الإجازة واضافت : أتعلم .. مازلت احتفظ بتلك الرسائل القديمة , التي كنت تبعثها من هناك في الايام الاوّلى من بدأ الحرب .. قلت __ هل تريدين انّ تحتفظي بها , قالت __ : إنها باتت جزءا حميما من ذكرياتنا .. جزء شديد الصلة بي , و لا اظن سيأتي وقت ما , .. تمحى عن ذاكرتي .. اتشمّم رائحتها باستمرار ابان مدّة غيابك هناك ..اتشمّم جزءا حميما منك ..اتحسس رائحتك عبرها .. اتحسس بدنك فيها .. كما لو اني المس شفتيك الثمهما بشفتيّ الريانتين الطريّتين .. اقرأها مرات عديدة وكأني اقرأها للمرة الاوّلى .. اطالعها كلما يبلغ بي التوق اشده , وكلما تتسع مساحة الغياب وتشتد الاشواق , اعيد مطالعتها دون انّ يصيبني الملل .. ابقى لوقت عصيب حافل بالشجن اجهش بالبكاء وانا مستغرقة في قراءتها . بكاء حار يملك عليّ كلّ حواسي .. فاجدني كأني اغرق في مجرى من دخان .. دخان الحرب ..وعندما اخرج من مجرى الدخان .. اسارع إلى دس الرسائل داخل صندوق صغير , كما لو اني احجز داخله حياة نابضة , .. قالت __ : ....... الشارع طويل , خال .. كما لو انه وجد من اجلنا نحن الاثنين ..ثم اطبقت يدها برفق على يدي , فانتشرت رائحتها في الهواء .. تتدفت من شعرها المحلول .. فجذبت رأسها حتى باتت شفتيها في متناول فمي وقبل انّ اطبق عليهما في قبّلة حميمة , اشاحت برأسها عني برفق وجعلت تتلفت لجهات الشارع الغارق في الصمت والاشجار .. كان النهار في آخره , لما بتنا على مشارف بيتنا .. فلاحت لعينيّ امّي من بعيد , ملفوفة بالسواد المزمن ! . الثياب السود التي كانت باستمرار تقمّط بدنها الضامر .. , كما لو انها جزء شديد الألفة من اعضائها وروحها , .. سواد اقرب ما يكون إلى سائل فاحم متجمّد على عودها الناحل , يبتدأ اوّل ما يبتدأ من رأسها المتلفع بفوطة تنضح سوادا قاتما , ثم يهبط منتشرا على كلّ مساحة البدن .. كانت تقتعد بساطا على مقربة من عتبة الباب غارقة في نور آخر النهار , .. حالما وقعت عيناها عليَّ , نهضت بكامل قامتها الضامرة , تاركة عزلتها المسكونة بالصمت والذكريات تتحلل في الفراغ ..وشرعت يديّها الرخوتين في الهواء ,متهيأة لأحاطت رأسي بذلك الحنو النابض برائحة امومة دافئة . كأنها لم ترني منذ نهارات مهوّلة .. نهارات مفعمة برائحة دخان ..وبيانات عسكرية .. لم افطن لأمّي وهي تطبع قبّلة على خدود سلمى . كنت مشغولا بالانصات لجدّتي .. جدّتي التي لا تمسك عن تلاوت الادعية والتضرّع للسماء على الدوام .. كان فمّها الملّتم على مساحة رقيقة من التجاعيد , ممتلئ دائما بركام من الدعوات , دعوات كأنها تخرج تلقائيا دون إرادتها !! وباستمرار كانت تلازمها اختي , تقتفي اثرها في غالب الاوقات , كما لو انها لما تزل تلك الطفلة التي كانت تدلّلها جدّتي , .. في اللحظة التي احتوتنا فيها غرفة الضيوف . شرعت امّي بالبكاء . .. هي دائما تبكي .. دائما مشغولة بالبكاء .. كما لو إنها كانت تسبق فواجع الحرب قبل انّ تقع , قبل انّ تتجسد على الارض توابيت ومآتم ..ترى إليّ وتزداد نشيجا .. نشيج فاتر متخم بالانكسارات واللوعة . يحول فضاء الغرفة إلى مأتم صغير . وما انّ يتصاعد البكاء . حتى تنتقل عدواه وتتفشى في روح جدّتي , فتشرع بالبكاء هي الاخرى , بكاء هو خليط من السعال والزفير والغصات . كان بكاؤها راعش يضمحل ويشحب بكرّ انهمار الدموع الشحيحة المتيبّسة التي نشفّتها رياح الذكرى والحزن في ليالي العزلة والخوف .. الخوف من انتظار ما ستتمخض عنه الحرب .. الخوف من انّ الاقي حتفي هناك في الحرب .. الحرب التي حوّلت حياتهنّ إلى ينابيع من البكاء المزمن والانتظار القلق .. الانتظار الذي تحوّل هو الآخر إلى رعب مستديم ..رعب عطّل المسرّات وجمّد البهجة واحالها لدموع تتدفق طوال مدّة الانتظار . طوال ايام الغياب العصيبة المفعمة بركام مهوّل من الشقاء والظنون , والذكريات ..... كانت امّي ومعها جدّتي واختي, مهيئات او كنّ يروضّنَ ويدّجنّ ارواحهنّ على كيفية استقبال نبأ موتي في الحرب .. موتي الذي سيكون عاصفة من تلك العواصف التي تجتث جذور حياتهنّ . عاصفة لاتهبّ إلاّ مرة واحدة . مرة تحيط عبرها بكلّ شيء ... ما يقلقني الآن هو حضوري الساطع الذي لم يستطع تبّديد مخاوفهنّ واطفاء حرائق الروح .. كانت اختي المجبولة على الترقب والانطواء تنؤ باثقال مخيفة من الشقاء المبكّر . كانت تبكي بصمت وهي ترى إلى سلمى .. سلمى التي بقيت تنظر ذاهلة . التي بدت كأنها غريبة تماما عن تلك الطقوس والمراثي ..فبقيت تلوذ بالصمت طوال الفاصل البكائي , طوال مدّة الاحتفاء الجنائزي !! مكثّت تلاحق ما يجري بصمت وحزن دون انّ تقول شيئا .. كانت تسند ظهرها للحائط , مسمّرة في موضعها . وانا اعاين ملامحها التي مسّها الحزن بقوّة .. كم رغبت في تلك اللحظة انّ يمسكنّ عن التدفق بالبكاء .. ولكن كيف يحدث ذلك ولن يفصلني عن موعد التحاقي للجبهة سوى حاجز خفيض من الساعات الشحيحة .. ساعات ستمرّ شديدة الألم .. ستمرّ سريعة حافلة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مغني الراب الأمريكي ماكليمور يساند غزة بأغنية -قاعة هند-


.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت




.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً


.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو




.. في عيد ميلاد عادل إمام الـ 84 فيلم -زهايمر- يعود إلى دور الس