الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معركة الحجاب أو حصان طروادة الأخير

التجاني بولعوالي
مفكر وباحث

(Tijani Boulaouali)

2005 / 7 / 14
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة


التحدي المتعدد الأبعاد
قبل حوالي ثلاث سنوات، قمت ببحث حول قضية الحجاب عند الطالبات المسلمات، داخل المجتمع الهولندي المتعدد الثقافات، وحاولت أن أستقرئ رأي بعضهن، بتوجيه جملة من الأسئلة التي ترتبط بالقضية المدروسة، وبعد ذلك استثمار آرائهن وأفكارهن أثناء كتابة البحث، فكانت الحصيلة الأولى من ذلك التناول، أن ارتداء الحجاب في حياتهن يشكل تحديا كبيرا، حيث النظرة أو الموقف من المرأة المتحجبة في شوارع أمستردم، ليست هي نفسها في شوارع القاهرة أو بيروت أو طهران أو غيرها من العواصم والمدن الإسلامية، فإذا كان الحجاب داخل العالم العربي والإسلامي يشكل واجبا دينيا مفروضا على المرأة بالنص، لذلك فهي مأمورة بارتدائه، كي تحجب عن عيون الرجال أنوثتها، التي قد تسبب ما يشبه الفتنة، التي تترتب عنها نتائج غير مقبولة دينيا وأخلاقيا وثقافيا، فإن الحجاب في العالم الغربي لا يقف عند هذا الجانب، بل يتجاوزه إلى جوانب أخرى، حيث يصبح طرفا مهما في المعركة الجديدة الدائرة رحاها بين الإسلام والغرب، وتصبح معه المرأة المسلمة المتحجبة في عين الآخر، رافعة لراية التحدي، ما دامت أنها - كما يتخيل البعض- تتطاول على القيم الغربية الداعية إلى الحرية والمساواة والديموقراطية... ولا ترضخ لأوامر العديد من المؤسسات الحكومية والتعليمية وغيرها، التي تفرض عليها التخلي عن لباسها الإسلامي، حتى تنال حظها الوافر من الحقوق، ومن هذه الزاوية تنظر هذه المؤسسات وكل من يجري مجراها، من إعلاميين وسياسيين ومثقفين وناس عاديين، إلى هذا الرفض من قبل المرأة المسلمة، لكل ما يهدد شكل لباسها باعتباره مقوما هاما من مقومات هويتها الدينية، على أنه تحد للثقافة الغربية، وخروج عن الخط العلماني الذي اختارته المجتمعات الغربية منذ الثلث الأول من القرن المنصرم.

أما الحصيلة الثانية، فكانت أن قضية الحجاب داخل الغرب تعتبر، بالنسبة إلى المرأة المسلمة، تحديا حقيقيا، في كل مكان وزمان؛ في الشارع، أثناء العمل، في المدرسة، وحتى داخل البيت، حيث كلما أشعلت جهاز التلفاز أو فتحت الكمبيوتر، إلا وتراءى لها إشهار ما ينقص من الحجاب، أو نقاش محموم يتهجم على المرأة المتحجبة، أو مقال ما ينال من اللباس الإسلامي وهكذا دواليك، وهذا التحدي يمنح الحجاب أكثر من بعد، فلا يقتصر على ذلك البعد الديني والتعبدي المهيمن على هذه القضية داخل المجتمعات الإسلامية الأصلية، بقدرما يتعدى ذلك إلى أبعاد أخرى:

 البعد السياسي: حيث يبدو الحجاب محملا أو منطويا على أيديولوجيا خطيرة، يمكن تشبيهها بتلك القنبلة الموقوتة، التي مما لا شك فيه سوف تنفجر، لكن أين؟ ومتى؟ فهذا ما يرهق ويؤرق الغرب، بل ويزيد من إرهاقه وأرقه، كلما ربط مسألة الحجاب بقضية الإرهاب، فلا يرى في الحجاب إلا تجليا حقيقيا من تجليات (الإرهاب الإسلامي المعاصر!) ومثل هذا التفسير الذي يختلقه الإعلام ويملأ به أعمدة منابره، وأوقات بثه، لا يعدو أن يكون مجرد تخمينات لا تمت بصلة إلى واقع المرأة المسلمة البسيطة، التي لا تتمسك بالحجاب، إلا لأنها تربت على ذلك، ولقنها مجتمعها أنه ضرورة دينية، كلما أخذ بها المسلم، كلما نال ثواب ربه، ونجا من عقابه.

 البعد الثقافي والرمزي: الذي يثبت بشكل صارخ حضور الثقافة الإسلامية داخل المجتمع الغربي، ويمنح بذلك هذا المجتمع طابع التنوع المتبلور من خصوصيات ثقافية ودينية جديدة، وجدت في الغرب بوجود الأقليات الأجنبية التي استوردها للعمل عنده، أو هاجرت إليه جراء أسباب معينة، اقتصادية كانت أم سياسية أم علمية أم غير ذلك، فاستطاعت هذه الأقليات أن تحضر عبر الجسد الثقافي الغربي، بشكل مثير للنظر، فتساهم أيما إسهام في تلقيح وإثراء الفضاء الثقافي والاجتماعي الذي توجد فيه، فيظهر ذلك بجلاء على كل المستويات، وفي هذا الصدد ينتصب الزي الإسلامي باعتباره شكلا ثقافيا وافدا على الغرب، شكلا ثقافيا استطاع أن يوجد له حيزا مهما، داخل الحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية الغربية، ومن ثم يتسرب حتى إلى العادات الغربية، فيتم استعماله حتى من لدن الآخر، ولو كان غير مسلم، وذلك على أساس ثقافي محض.

 البعد الاجتماعي: حيث ينظر الناس إلى المرأة المسلمة المتحجبة بالغرب، نظرة مغايرة، فإذا استثنينا ذلك الموقف السياسي المشار إليه آنفا، يمكن تسجيل موقف آخر، قد ننعته بالموقف الاجتماعي، الذي يصدر عن ذوي التفكير المعتدل، فلا يرون في المرأة التي ترتدي الحجاب، إلا إنسانا مؤمنا، يتقرب بذلك إلى خالقه، فهو حر في ذلك، ما دام أنه لا يسبب مضرة للآخرين، وقد حكت لي امرأة هولندية واكبت بعض المتغيرات التي مست المجتمع الهولندي، أنه في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كانت النسوة الهولنديات المسيحيات المؤمنات يرتدين زيا لا يختلف كثيرا عن الحجاب، وكان المجتمع ينظر إليهن بشكل عادي، مما جعلني أستخلص أن هذه المعركة التي يديرها الغرب، ليست موجهة إلى الحجاب في حد ذاته، وإنما إلي الحجاب باعتباره مقوما ومظهرا إسلاميا، فلو أنه كان عادة هندوسية أو بوذية لما وصل الأمر إلى هذا الحد!

 البعد النفسي: وهو ذو حدين؛ أولهما يقترن بالمرأة المسلمة نفسها، التي تعيش في حرب نفسية، جراء هذه الهجمات السياسية والإعلامية المتوالية التي تتعرض إليها، وأحيانا يكون هذا الجانب النفسي أضر لها، من الجوانب الأخرى، مما يجعل الكثير من المسلمات إما يتخلين عن ارتداء الحجاب، أو يحاولن التوفيق في لباسهن بين الحجاب الإسلامي والزي الغربي! وثانيهما يرتبط بالإنسان الغربي العادي، الذي تضعه التأويلات الإعلامية والسياسية المنصبة على قضية الحجاب في حيرة من أمره، مما يؤثر على جانبه النفسي؛ فلا يعرف كيف يتعامل مع هذه العادة الإسلامية، بتحفظ أم بشكل عادي، برفض أم بقبول؟!

هذه الأبعاد المختلفة تسم قضية الحجاب داخل المنظومة الغربية، بشكل متفاوت، فقد يحضر البعد الثقافي لدى فئة معينة، ويغيب عند الأخرى، وقد ينظر البعض إلى الحجاب بنظارة أيديولوجية، فيعتبره خطرا محدقا بالغرب، في حين يعامله الآخرون على أنه أمرا عاديا، لا يمكن أن يكون سوى عادة اجتماعية من عادات مجموعة بشرية ما، وقد تجتمع هذه الأبعاد عند شخص واحد، فيرى فيه عبادة ورمزا وعادة وشعارا ونحو ذلك. ثم إن إشارتنا إلى أن هذه الأبعاد المتعددة تحضر بكثافة في قضية الحجاب في العالم الغربي، لا تعني أنها لا تسري على هذه القضية في العالم الإسلامي، وإنما تعني أن الوجود الحديث من جهة للمسلمين بالغرب، واختيار الإسلام عقب انهيار الاشتراكية من جهة أخرى باعتباره طرفا في الصراع ضد الغرب، جعل ذلك التحدي الذي قد تمثله قضية الحجاب، يتخذ أبعادا أكثر تنوعا وبروزا.

المفاجأة اللا متوقعة
لقد تفاجأ الكثيرون بالقرار الجديد الذي خرج به الرئيس الفرنسي جاك شيراك، حين أعلن في منتصف دجنبر 2003، بقصر الإليزيه قانونا يحظر بموجبه حمل وارتداء الرموز الدينية داخل المؤسسات التعليمية، وتتمثل هذه الرموز في الحجاب الإسلامي، والقلنسوة اليهودية، والصليب المسيحي، والعمامة السيخية، وهو يرمي بذلك إلى حماية النهج العلماني الذي اتبعته الجمهورية الفرنسية، انطلاقا من أواسط عشرينيات القرن الماضي، ووقع هذه المفاجأة لا يتحدد في نوعية أو هدف هذا القانون الجديد، وإنما في أنها صادرة عن شخص لم يفكر أغلب الناس في أنه سيقوم بذلك، لأنه معروف عليه ببعض المواقف المعتدلة، خصوصا المتعلقة بالحرب على العراق، مما جعله يكسب تعاطفا كبيرا من قبل الشعوب العربية والإسلامية، لكن بمجرد صدور قانون منع الحجاب انهار ذلك التعاطف، وصار معه الكثيرون يأسفون لهذا التغير الحربائي الذي طرأ على الرئيس الفرنسي، ويتساءلون حول الأسباب العميقة التي تقف وراء هذا الموقف الذي جاء في وقت غير مناسب، سواء لحالة الأمة الإسلامية، الموجودة في قاعة العناية الأمريكية المركزة ، أم لوضعية الأقليات المسلمة في الغرب التي لا يحسد عليها.

والملاحظ أن هذا القرار لا يتعلق بمنع الحجاب فحسب، وإنما يضع في نفس السلة رموزا لديانات أخرى، لذلك يمكن اعتباره قرارا أعمى، مادام أنه لا يدرك تلك الفوارق الكبيرة بين هذه الرموز من جهة، ولا يستوعب قيمة كل رمز، وفي إطار الثقافة والدين الذي ينحدر منه، فإذا كان الحجاب ضرورة دينية، حيث المرأة المسلمة البالغة مأمورة بالنص بارتدائه، ولا خيار لها إلا ذلك، وغياب الحجاب يعني عصيانها لخالقها، وخروجها عن طاعته، فإن الصليب المسيحي أو القبعة اليهودية أو العمامة السيخية، لا تعدو أن تكون مجرد رموز دينية، وحملها أو طرحها لا ينقص ولا يزيد ذرة في إيمان صاحبها، ويمكن تشبيه هذه الرموز، بشكل أو بآخر، بالسبحة أو القبعة التي يحملها بعض المسلمين.

إن اللا متوقع إذن، في إعلان حظر الحجاب، ليس في هذا الإعلان ذاته، وإنما في الشخص الذي صدر عنه ذلك، لأن الأوساط الإسلامية ألفت تلك المعارك التي تشتعل من فينة لأخرى حول الحجاب، حتى صار الأمر معتادا ومألوفا، علما بأن المرأة المسلمة المتحجبة محاصرة في عقر دارها، حيث لا زالت العديد من الأنظمة في العالم الإسلامي تنظر إلى الحجاب على أنه عادة خارجية، تحمل أكثر من شبهة، فما بالك في العالم الغربي الذي لا يفقه من الإسلام إلا ما يصل إليه مشذبا بمبضع الإعلام، ولا يرى في ارتداء الحجاب إلا تحديا بصوت مرتفع للسياسات الغربية، التي تسعى إلى إدماج المسلمين وفق رؤيتها الحضارية والأخلاقية، وقناعتها السياسية والأيديولوجية. لكن الذي كسر ما كان معتادا هو أن يلجأ الرئيس الفرنسي نفسه إلى سن هذا القانون، اعتبارا بأنه يتصف بتوجه معتدل، يختلف جذريا مع أطروحة أحزاب اليمين المتطرف، التي اعتادت تبني جملة من القضايا (كقضية منع الحجاب)، التي تمس المسلمين في العمق، فهل استلهم جاك شيراك من هذه الأحزاب المعادية للأجانب فكرة حظر الحجاب، أم أن ثمة أسبابا خفية تقف وراء هذا القرار الذي لم يكن في الحسبان؟

لماذا قانون حظر الحجاب؟
بناء على متابعتنا للملابسات العامة التي تم فيها صدور قانون حظر الحجاب داخل المؤسسات التعليمية الفرنسية، وما لحق ذلك من نتائج متباينة ومواقف مختلفة، تمكنا من استجلاء بعض الأسباب المباشرة التي دفعت الرئيس الفرنسي إلى الكشف عن ذلك القرار، ويمكن ضبطها في النقاط الآتية:

 حماية المرأة من الأصولية الإسلامية: إن أهم عبارة احتوتها كلمة الرئيس أمام البرلمان الفرنسي هي:" لا يمكن أن نقبل علامات للتباهي بالاهتداء الديني، مهما كان نوعها ومهما كان الدين"، وبعدها يلغي معنى هذه العبارة، عندما يناقض نفسه فيسمح بحمل الرموز الدينية الصغيرة، وكأنه بذلك يدرك أن أهم رمز ديني ظاهر للعيان بشكل لافت، داخل المجتمع الفرنسي هو الحجاب، ذلك لأنه لازم استعماله، ولا بديل له للمرأة المسلمة الملتزمة، وهو بذلك يحظر ضمنا مكونا إسلاميا، أكثر مما يحظر أي مكون لدين آخر، ما دام اليهودي يستطيع بسهولة أن يستغني عن قبعته، علما بأنه لا يستعملها إلا أثناء مناسبات معينة، وهذا يسري كذلك على المسيحي والسيخي وغيرهما، وتعضيدا لخطابه يخلص إلى أن الحجاب هو شكل من أشكال قمع المرأة المسلمة، التي ينبغي تحريرها من ذلك، لكن، ماذا بوسع جاك شيراك أن يقول لتلك المرأة التي اختارت الحجاب أو النقاب عن اقتناع وطواعية، وهل تساءل أثناء صياغة هذا القانون حول مدى درايته بعقلية هؤلاء المسلمين، ومدى إيمانهم بقضية الحجاب وغيره، وهو إيمان يسري كالدم في العروق، ولا علاقة له بتلك المفاهيم المفبركة، كالأصولية والتشدد والتطرف والإرهاب وغيرها، بقدرما يرتبط ذلك باختيارهم العفوي للإسلام، وهو اختيار يملي عليهم أن يأخذوا بتعاليمه، ويخضعوا لمبادئه، حيث المرأة غير محمية إلا بالإسلام، وخير دليل على ذلك، الوضعية المزرية التي آلت إليها، داخل المجتمعات الغربية، حيث تتفاقم عليها المشاكل من كل حدب وصوب، ومجرد تصفح، على سبيل المثال، لإحصائيات الطلاق المسجلة داخل الدول الأوروبية، توحي لك بمدى ضخامة المعاناة التي تتخبط فيها المرأة المسلمة، التي أطلقت عنانها للحرية والاستقلالية والحداثة وغيرها، وها هي الآن تجني ثمار ذلك، المتمثلة في انحراف الأبناء، والعزلة، والأمراض النفسية والعصبية، وكثرة المشاغل وما إلى ذلك.

 إخفاق سياسة الاندماج راجع إلى حمل الحجاب: لقد حاولنا في موضع آخر تناول مفهوم الاندماج الذي تتبناه العديد من الدول الأوروبية، واستخلصنا أن ذلك المفهوم يظل على المستوى النظري محكما وشريفا، لكن أثناء التنفيذ يعتريه أكثر من خلل، فينحو منحى أيديولوجيا خلوا من الموضوعية والعلمية، وأشرنا إلى أن عدم تجاوب بعض المسلمين مع بعض قيم الثقافة الغربية، لا يعني أنهم لم يندمجوا، بقدرما يشير إلى أنهم استطاعوا أن يتقنوا اللغات الغربية، ويتعرفوا إلى ثقافات البلدان التي يوجدون فيها، وينتظموا بشكل إيجابي ومنتج داخل سوق الشغل، لكنهم تحفظوا من الانخراط غير المعقلن في ثقافة الآخر، لأنه انخراط يحمل في طياته بذور الموت لثقافاتهم الأصلية، ومن فينة لأخرى تكشف مختلف الآراء عن هذا الموت أو التذويب للآخر في بوتقة المجتمعات الغربية، ونفس الشيء يسري على أولئك المسلمات المتحجبات، اللواتي استطعن أن ينلن من مختلف الينابيع التي تصب في يم الاندماج، فتكلمن اللغات الأوروبية، ودرسن الثقافات الغربية، وولجن مختلف المعاهد والجامعات، وتسللن إلى شتى المؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية من أحزاب وبرلمان وغيرهما، كل هذا النجاح حققناه، والحجاب يغطي رؤوسهن، ألا ينم هذا عن اندماج ما للمرأة المسلمة المتحجبة في الواقع الذي تعيش فيه، ألم يلاحظ الرئيس الفرنسي ذلك، ألم يقتنع بأن سياسة الاندماج أخفقت، ليس في فرنسا فقط، وإنما كذلك في البلدان الغربية الأخرى، لا لشيء إلا لأنها تسعى إلى اغتيال هوية الآخر بالاحتواء والتذويت والهيمنة، وهذا أمر مستحيل، فالتاريخ القريب مازال يسجل لنا أن ثمة شعوبا قتلت، لكن ما فتئت هوياتها حية ومستمرة!

 عدم الارتياح لتنامي عدد المسلمين: تشير الإحصائيات إلى أن عدد المسلمين بأوروبا الغربية وحدها، يقدر بحوالي 15 مليون مسلم، وهذا الرقم سوف يصل بعد 10 سنوات إلى أكثر من 20 مليون مسلم، وتمثل فرنسا حصة الأسد من حيث عدد المسلمين الموجودين فيها، والذين يقدرون بحوالي خمسة ملايين، وهذا التنامي الملحوظ لعدد مسلمي فرنسا، يخلف الكثير من المخاوف لدى الفرنسيين، فيحسون بقلق متزايد من هذه القنبلة الديموغرافية، التي يتضخم حجمها، لذلك تحاول السلطات الفرنسية خاصة، والغربية عامة، إلى إيجاد حلول ناجعة لهذا الإشكال الكبير، ولو على حساب مصالحها الاقتصادية والمالية، كما تصنع هولندا التي تسن منذ سنوات طوال قانون العودة، الذي تشجع من خلاله الأجانب من أصول تركية ومغربية على العودة إلى بلدانهم الأصلية، مقابل إعطائهم مجموعة من الامتيازات الرفيعة، كمنحهم راتب يتعدى ستة آلاف أورو، واستفادتهم من التأمينات، وتمتعهم بالتنقل بين هولندا وأوطانهم، في حين يتنازل هؤلاء عن الجنسية الهولندية، ويلتزمون بالعودة النهائية إلى وطنهم الأب. لكن تظل هذه الحلول نسبية، مادام الأجانب يتشبثون بالبقاء في الديار الغربية، مما يدفع السلطات الغربية إلى إحكام الخناق عليهم، بنهج مختلف السياسات التي لا تخدم مصالح الأجانب، بقدرما تضيق عليهم، وتضعهم أمام أمر واقع مر، ويعتبر قانون حظر الحجاب حلقة من حلقات ذلك السيناريو الذي يستهدف راحة وطمأنينة المسلمين بالمهجر.

 تهديد العلمانية: إن خير ما سجل بخصوص هذه النقطة هو موقف السيد محمد حسين فضل الله الذي كان رد فعله حول هذا القانون هو: "الحجاب في الإسلام التزام ديني، كما هي الفريضة الدينية، وعدم الالتزام به يمثل خطيئة ككل الخطايا، هل بلغت العلمانية مستوى من الضعف، ليخاف القائمون عليها قطعة قماش، أو قلنسوة توضع على الرأس، أو صليبا يعلق على الرأس؟" من هنا، إن منع الحجاب باسم المبادئ العلمانية، هو في الحقيقة ضرب لمصداقية هذه المبادئ، اعتبارا بأن أهم مبدأ جاءت به الفلسفة العلمانية هو الحرية، حيث كل فرد داخل المجتمع يتمتع بهذا المبدأ، فيكون حرا في تعبيره ومعتقده واختياره الشخصي وغير ذلك، بمعنى أن لا أحد يمنعه من أن يفعل ما يريد وما يحلو له، باستثناء إذا تجاوز حدا من الحدود التي يقرها القانون. وفي هذا الإطار يمكن اعتبار حمل المرأة المسلمة للحجاب، لا يتنافى مع الفلسفة العلمانية، ولا يهددها في شئ، لأن ذلك يدخل في نطاق حريتها الدينية والشخصية التي تقرها العلمانية نفسها، أما ما يتعلق بفصل الدين عن الدولة، فهذا أمر لا علاقة له بهذه القضية، إلا من حيث أنه يخدمها، إذ إن هذا الفصل يدع الدولة في شأنها، ويدع المؤسسات الدينية أو المتدينين في شأنهم، لذلك فالرئيس الفرنسي يربط قضية الحجاب بمسألة العلمانية بأسلوب مبتسر وإسقاطي، مما يجعل خطابه ملفقا وبعيدا عن الموضوعية والعقلانية، إلى درجة أن السياسات الغربية أضحت كلما عجزت عن إيجاد حل لإشكال ما، ألقت اللائمة على المسلمين والأجانب!

وتستمر معركة الحجاب..
هكذا استطاع سن قانون حظر الحجاب داخل المنظومة التعليمية الفرنسية أن يخلق جدلا ساخنا، تباينت فيه المواقف بين مؤيدة له ورافضة له، إلا أن الغريب فيها أنه من جهة أصبح بعض ممن كان واجبا عليهم معارضة قرار الرئيس الفرنسي مساندين له، كما كان الأمر مع مفتي الأزهر والرئيس المصري، اللذين رأيا في هذا القانون قضية تخص الشأن الفرنسي، وأن على مسلمي فرنسا الامتثال له، وأن أي امرأة مسلمة تتقيد بمنع الحجاب، سينظر إليها من وجهة نظر الدين الإسلامي على أنها مجبرة على ذلك، ففي الوقت الذي كان ينتظر من مفتي الأزهر أن يتحرك بجدية وحزم، ويخاطب السلطة الفرنسية بأسلوب متسامح ومعقول، يجلي من خلاله حقيقة الحجاب داخل الشريعة الإسلامية، علها تستوعب الجانب الخفي من هذه القضية، فإنه صنع عكس ذلك، فألقى أمام الصحافة كلاما لا يقوله حتى العلمانيون نفسهم! ومن جهة أخرى صار بعض، ممن كان يتوقع أنهم سوف ينزعون منزع الرئيس الفرنسي، يسجلون مواقف شريفة تقف جنبا إلى جنب مع المسلمين، وأقتصر في هذا الموضع على النقد الشديد الذي وجهه الدكتور روان ويليامز رئيس أساقفة كانتربري، أثناء خطبة عيد الميلاد، لمخطط الحكومة الفرنسية الهادف إلى منع الرموز الدينية، بما في ذلك الحجاب الإسلامي، وعلى نفس المنوال خطا جوزيف ستروك، كبير حاخامات فرنسا، عندما عارض هذا القانون، وحض على التسامح.

هذا بغض الطرف عن العديد من المواقف التي صدرت عن مختلف الشخصيات الإسلامية، علماء كانوا، أو مثقفين، أو سياسيين، أو غير ذلك، دون نسيان الشعوب المسلمة وغير المسلمة التي هبت إلى الشوارع، لتندد بتذمر بهذا القرار الفرنسي، الذي لم يجلب لصانعيه إلا الويلات.

غير أن معركة الحجاب لم تتوقف عند الحدود الفرنسية، وإنما تجاوزت ذلك إلى بقع أخرى، مثل ذلك الحريق، الذي لا يريد أن يتوقف، حيث كلما أخمد رجال الإطفاء رقعة منه، انتقلت النار إلى رقعة أخرى، فبعض الأخبار تشير إلى أنه مباشرة بعد القرار الفرنسي، راحت بعض الولايات الألمانية تدرس مسألة منع الحجاب داخل المدارس، في حين كانت قضية التلميذة المسلمة شابينا ببريطانيا، منذ سبتمبر 2002، والتي فصلتها ثانويتها عن الدراسة، بسبب زيها الإسلامي، تتفاعل وتتحول من محيط المدرسة إلى قاعة المحكمة، حيث سوف تنتصر التلميذة، وتحدث خيبة أمل عميقة في نفوس خصومها، وقد جاء على لسان القاضي الذي كان يشرف على هذه القضية، ما معناه، أن تلك الثانوية حرمت شابينا من ممارسة حقوقها الدينية، وأنه يجب على المؤسسات التعليمية الالتزام بمقتضيات حقوق الإنسان. وتنتقل النار مرة أخرى إلى موضع آخر، لتستمر معركة الحجاب هذه المرة، في دولة ينعم فيها المسلمون بوضعية أفضل، من التي يوجد فيها إخوانهم في باقي البلدان الغربية، في دولة كانت السباقة للاعتراف بالدين الإسلامي باعتباره دينا متساويا مع بقية الديانات الموجودة داخلها، وذلك في بدايات القرن الماضي، وبالتحديد في سنة 1912، وهذه الدولة هي النمسا، التي دعت وزيرة داخليتها ليزي بوركوب في مارس 2005، إلى منع المدرسات المسلمات من ارتداء الحجاب، لكن هذه الدعوة قوبلت بالرفض سواء من ممثلي الجالية المسلمة، أم من العديد من المسؤولين والسياسيين النمساويين.

خلاصة القول، إنه انطلاقا من التفاعلات التي تنتج عن تلك الآراء التي تتعرض إلى قضية الحجاب، وهي آراء لا نهاية لها، مادامت أنها تطفو على سطح الواقع من فينة لأخرى، لتثير جدلا ساخنا يولد شعورا غير محمود لدى كلا طرفي اللعبة؛ صاحب القرار وصاحب القضية أو الجلاد والضحية! مما يؤكد أن الاستهداف الذي يوجه إلى قضية الحجاب سوف لن يتوقف، طال الأمد أم قصر، وهذا يجعل منها ورقة خطيرة في صراع الإسلام والغرب، ورقة قد تشبه ذلك الحصان الخشبي، الذي يدعى حصان طروادة، الذي وظفته اليونان في معركتها ضد أعدائها الطرواديين، فهل سوف يستفيد المسلمون في معركة الحجاب من خبرة الغرب القديمة، فيوظفوا الحجاب بدهاء في عقر دار الغرب! الحجاب الذي يعتبر الورقة الأخيرة التي تشكل شوكة قاسية في حلقوم كل معاد للإسلام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تركيا: السجن 42 عاما بحق الزعيم الكردي والمرشح السابق لانتخا


.. جنوب أفريقيا تقول لمحكمة العدل الدولية إن -الإبادة- الإسرائي




.. تكثيف العمليات البرية في رفح: هل هي بداية الهجوم الإسرائيلي


.. وول ستريت جورنال: عملية رفح تعرض حياة الجنود الإسرائيليين لل




.. كيف تدير فصائل المقاومة المعركة ضد قوات الاحتلال في جباليا؟