الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حدث في عرس رنيم. الحلقة الثانية

نعيم إيليا

2014 / 4 / 18
الادب والفن


الفصل الأول: وهو الفصل الذي يخبر بما جرى للفنان التشكيلي الشاب (بسيم) من البدء إلى المنتهى.
قد يكون أليق بي في هذا المقام – أنا الكاتب أنطون كرباشي - ألا أنوب في سرد الحكاية، عن فناننا التشكيلي الشاب بسيم الذي لو وجب أن أصف هيئته وصفاً عاماً مختزلاً؛ لكان عليّ أن أصفه مشبهاً إياه بشجيرة ريانة حسنة المرأى ينبض نُسغها بحياة مرتعشة بالآمال؛ أو مشبهاً إياه بجملة موسيقية رشيقة الإيقاع ولكنها لم تكتمل بعد على وتر عازف يجيد صوغ الألحان. ولكان حرياً بي، وأنا أصفه، أن أضمه إلى حلقة الشبان الذين يتحسسون ما يجري في بيئتهم وما يجري خارج بيئتهم تحسّساً ربما جلب لهم الأرق؛ وقد أضمه إلى هؤلاء الذين أينما رأيتهم، رأيتهم متأبطين جرائدهم ومجلاتهم المصورة، أوحاملين كتباً بأيديهم وهم سائرون في طريقهم إلى دوائر أعمالهم أو إلى المقاهي والمتنزهات والأندية؛ أو إلى زيارة أقربائهم وأصدقائهم ومعارفهم بأناقة مفرطة أو خفيفة هادئة يسوم وجوههم الجِدُّ والترفع؛ وقد أضمه إلى حلقة أولئك الذين قلما يرتابون في حقيقة أنهم إنما خلقوا لأمرٍ ما عظيمٍ جلل.
وإنما هو أليق بي ألا أنوب عن فناننا الرسام؛ لأن فناننا الرسام هو صاحب الحكاية؛ فلما كان هو صاحب الحكاية، كان هو، من جهة المنطق، أولى مني برواية حكايته. ولربما كان، من جهة ثانية، أوفر مني قدرة على سرد تفاصيل حكايته كما ينبغي أن تسرد بتلقائية بريئة، وعفوية خالية من التكلف. وقد يكون ذلك لسبب آخر يروق له (للسبب) أن يتمثَّل في فكرة اختيار الضمير؛ ضميرِ السارد بما يُظن أنه هو الضمير الذي تُتوسَّم فيه الجاذبية وموهبة الإغواء الماكرة بأحسن مما تُتوسم في غيره من ضمائر السرد؛ صنيعَ الشركات التجارية التي تختار لترويج سلعها أفضلَ عرض من عروض الدعاوة إغواء لزبائنها، وأسرعه إيقاعاً بهم في شراك مبيعاتها.
فلأدع، اتكالاً مني على هذه المبادئ، فناننا يروِ حكايته بلسانه هو لا بلساني أنا؛ فإني قد رأيت حقاً أن أكثر القراء يستهويه أن تروى الحكاية بضمير الأنا الغالبِ استعماله في أدب السيرة؛ هذا الأدب الذي يشغف قلوب قارئيه – وهذه حقيقة تؤكدها استطلاعات القراء ومبيعات دور النشر - بأكثر مما تشغف قلوبهم أنواعٌ أخرى من الأدب. ويعود السبب في ذلك – برأيي - إلى ميل القراء الفطري إلى التلصّص على حياة الآخرين، وإلى ما يشيع في هذا الأدب من بوح ذاتي مائرٍ لا يفصح عن مكنوناته ضميرٌ آخر أبلغ وأكفأ من ضمير الأنا؛ ضميرِ الأنا الذي لا يثبِّطه عوقٌ عن أن يترجَّع صداه عميقاً في أغوار القارئ بحكم ما بين روح القارئ، وروح صاحب السيرة من اشتراك في الطبيعة الواحدة. ولست أعجب إلا من هؤلاء الذين يبخسون ضمير الأنا حقَّه، ويقلِّون من قدره ومن قيمته بذرائع أخلاقية لا أجد لها، عند التحقيق فيها، معنى واضحاً مفيداً!
وقبل أن أفارقه، يجب علي أن أعرض الحالة التي رأيته عليها في بداية القصة بإيجاز؛ فإني أخشى أن يغفل عنها فلا يأتي على ذكرها ووصفها؛ فيفوِّت على القارئ بغفلته فرصة تلمس الخيط الأول من نسيج الحكاية:
كان (بسيم) هبّ من نومه صباحاً زهاء السابعة عامرَ الصدر بالأمل، سعيداً بالفكرة التي عبرت ذهنه وهو نائم في ليلته تلك ولبثت فيه؛ فلم تبرحه عندما فتح عينيه للنور خلافاً لما ألفه من أمر أفكاره وأحلامه فهي ترد ذهنه في الليل أثناء النوم؛ وتتركه حالاً ما إن يفتح عينيه للنور.
رأى والده في الصالون يستكمل ارتداء ملابسه، ويتهيّأ للخروج إلى عمله، ورأى أمَّه في المطبخ تعدّ الإفطار، وتسمع أغانيها. تبادل معهما كلمات الصباح المألوفة بابتسامة مشرقة متفائلة. ولكنه رغم تفاؤله الظاهر وإشراق ابتسامه، بدا متعجلاً قلقاً؛ ولهذا فإنه لم يبق في المطبخ طويلاً. حمل بسيم فنجان قهوته ودخل غرفته (مرسمه) بثياب نومه غير مكترث بإلحاح أمه عليه بالجلوس إلى مائدة الإفطار. وبعد أن تلفلف بمريلته الفضية المبقعة بالألوان، وقف أمام لوحته الأخيرة المنصوبة على حاملها الخشبي منذ ثلاثة أيام، وأخذ الريشة بيده فغمس ذؤابتها في الألوان التي سفحها فوق مسطّح الرسم البلاستيكي ذي القبضة المحفورة مستدعياً الفكرة التي طرأت على ذهنه وهو نائم. ولكن الفكرة التي استدعاها، لم تستجب، مع الأسف، لندائه في اللحظة التي ودَّ فيها أن يجسد خيالها الذي تراءى له في المنام، فوق قماش لوحته المنتصبة أمام عينيه بتحدٍ سافر.
أعاد بسيم الكرَّة؛ جعل يستدعيها من جديد بنداء داخلي حار متضرع، وهو يزمّ شفتيه بعنف حتى كاد الدم من شدته أن ينبجس منهما، إلا أن الفكرة، لسوء بخته! لم تستجب، في هذه المرة أيضاً، لندائه الحار.. صمّتْ عنه الفكرة الزائرة وبكمت؛ بل تبخرت من ذهنه كما تتبخر قطرة الندى عند طلوع الشمس، ولم تخلف وراءها أثراً واحداً يدل عليها في ذهنه الذي أمسى الآن فارغاً إلا من ذهول عائم في ضباب من السخط.
حاول بعد ذلك مراراً أن يستردها، بيد أنه لم يوفق إلى استردادها في مرةٍ. وهل يُوفَّق إلى استرداد قطرة ندى وقد لثمتها حرارة الشمس!؟
فلما أعيته المحاولات المتكررة، ويئس من النجاح المؤمَّل، رمى ما كان بيده في المكان المخصص له إلى جانب الحامل الخشبي بحركة عصبية فائرة، وقذف قماش لوحته التي كانت تشفن إليه بعداء وسخرية وتحد بعينها النقية البياض، بنظرةٍ متأججة حنقاً وغيظاً، ولولا تماسكه، لمزقها تمزيقاً. ثم استدار على عقبيه، واتجه نحو باب غرفته ليعد لنفسه في المطبخ فنجاناً ثانياً من القهوة السوداء، فالتقى بأمه على باب مرسمه وكاد يصطدم بها.
جعلت أمه تقلِّبه بنظراتها المتفرسة المدققة، ثم سألته قائلة:
- ما بك؟ وجهك محمّر كرغيف خرج للتوِّ من التنور.. هيا، هيا اذهب إلى الحمام واغسله بماء بارد، هيا! ولا تنس أن تتناول طعامك، تركته لك على المائدة في المطبخ. أنا الآن ذاهبة إلى سوق الخضرة، ولن أتأخر، أتسمعني؟.. همم، كيف لوحتك؟ أما انتهيت من رسمها بعدُ؟
- لا، لمَّا..
أجاب بسيم كاتماً عنها غيظه وكربه، وأسرع نحو المطبخ.
كانت الساعة تقترب من التاسعة عندما سمع أطيط الباب الكبير ينطبق خلف أمه الذاهبة لتسوّق الخضار. فكر بحبيبته (نيران) أحسّ بلهفة عارمة تأجج في صدره إلى محادثتها بالتلفون. إنها في البيت، لا بد أن تكون حبيبته الآن في البيت، وربما كانت (هيفال) عندها في زيارة صباحية لها؛ فاليوم هو يوم عطلتهما الأسبوعية؛ إنه يوم الجمعة، ولكنه يخشى أن يكون أخوها بطرس في البيت أيضاً؛ فيسبِّب لها المتاعب، إن هو اتصل بها.
ولما لم يعنّ بباله أن يخرج من البيت، أو أن يتصل بصديق من أصدقائه، ولما لم يحس في نفسه رغبة في مشاهدة برامج التلفزيون، أو رغبة في العناية بأزهار حديقة البيت، تناول بيسراه الكتاب الذي تركه مفتوحاً فوق طاولته على آخر صفحة قرأها ليلة الأمس، تأمل صورة الغلاف برهة، ثم رشف بقية فنجانه، واستلقى على الصوفا، وانخرط بوعيه المرهق من الانفعال في محاولة منه شاقة لقراءة القصة الثانية (حدث في عرس رنيم) وفي نفسه أن يزيح بقراءتها عن صدره ما رزح فوقه من ضيق وحنق وضجر!
لم يكن سهلاً على فناننا الشاب أن يرفِّه عن وعيه المرهق بأن يصرفه عن التفكير بلوحته العذراء التي أدبر عنها ولمّا توفق ريشته المخذولة بعد إلى فضّ بياضها العذري؛ لم يكن سهلاً عليه أن يحرر أعصابه من التوتر الناشئ عن الفشل المتكرر منذ أيام؛ وأن يستعيد صفاءه المنبسط الذي يزوِّده عادة بالتركيز والانتباه وإدراك معاني الأشياء من حوله وتذوق طعومها على حقيقتها؛ ولذلك فإنه وجد مشقة بالغة في تتبع سير الأحداث في القصة، وفهْم تصرفات وحركات وأفكار شخوصها. كان بسيم في غير قليل من محطات القراءة ينتابه الشرود عمّا يقرأ، ويحيد وعيه به عنه إلى لوحته اللعينة المتحدية الكارهة. ولكنّه عندما بلغ في قراءته الحاشيةَ، وقرأ السطور الأولى منها، تنبَّه وعيُه بغتة على أمرٍ كأنما كان في انتظاره على جمر مَلّةٍ. ثوانٍ... وما عتم أن أحس بدم جديد يجري في عروقه؛ فيبعث في بدنه نشاطاً وحماسة وفورة هياج لذيذ، وما عتم أن أحس العبء الذي ناله من وعثاء التفكير بالفشل يسقط عن ذهنه المرهق؛ فإذا هو يقلب الصفحات على بداية القصة ويشرع يعيد قراءتها من جديد، ويعيد قراءة الحاشية مرّةً ومرة ومرة.. ثلاث مرات قرأ بسيم الحاشية، ومع كل قراءة لها، كانت أساريره تنفرج وتنفرج وتزداد انفراجاً من فرحة الاستكشاف وبشراه، وتعروه إثرها تلك الرعشة الجنونية التي اعترت أرشميدس وهو مستلق في حوض الحمام؛ تلك الرعشة الجنونية التي فجرت حنجرته بصرخته التاريخية الخالدة "وجدتُها".
وله الآن أن يتكلم:








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً


.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع




.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو


.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05




.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر