الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


5-4 حدث هذا قبل نصف قرن ــ القسم الرابع عشية ثورة 14 تموز المجيدة

جاسم الحلوائي

2005 / 7 / 15
أوراق كتبت في وعن السجن


أصعب الأمور في سجن بعقوبة الإنفرادي، هو حرماننا من الكتب والصحف والورق والأقلام، والتفتيش اليومي المصحوب بالإهانات والعقوبات بالسجن الإنفرادي أو بالمقرعة لأسباب تافهة. على سبيل المثال عوقب عزيز الحاج وأكرم حسين لصنعهم جواريب شخصية من ملابس سجنية قديمة، لإتقاء برد الشتاء؛ على إعتبار إن ذلك تلاعب غير جائز بالملابس السجنية! . مع ذلك كانت أخبار الحزب ومنشوراته تصلنا ونتداولها سرا. والكراريس تستنسخ على دفترالورق الشفاف لصنع السكائر اليدوية(دفترلف). وكانت جريدة البلاد تصلنا، بشكل غير منتظم، ونتداول أهم ما فيها سرا. وتتشكل دورات تدريسية بحدود 5 ـ 7 رفاق لتدريس الأقتصاد السياسي و اللغة العربية واللغة الإنكليزية و...الخ . وكان الإشتراك في دورة واحدة إلزاميا. والتدريس يتم بشكل شفهي. وكان المساهمون في دورات اللغة الإنكليزية يستخدمون قطعة صغيرة من رصاص (قلم الرصاص) ليكتبوا الكلمات الجديدة على أذرعهم، بعد أن يشدوا تلك القطعة برأس ثلاثة عيدان شخاط ! وقد إشتركت في دورة إقتصاد سياسي يحاضر فيها يوسف حنا ودورة للغة العربية يدرس فيها بهاء الدين نوري.وكان عزيز الحاج وزكي خيري يساهمان في التدريس أيضا في دورات أخرى.
المواجهة في السجن شهرية ويوم المواجهة مفرح ولكن ليس بمستوى واحد للجميع؛ فالساعة التي يخرج فيها السجناء تكون صعبة جدا وطويلة على الباقين الذين ليس لديهم مواجهة . كان ينتابني شعور عميق باليتم والظلم. وأظن إن نفس الشعور كان ينتاب الآخرين من أمثالي. كنت يائسا من الحصول على مواجهة، لأنها تحتاج الى رخصة من دائرة الأمن (التحقيقات الجنائية). والسفر من كربلاء الى بعقوبة مكلف بالنسبة لعائلة تركت بدون معيل، فاخي الثاني قاسم مشرد في بغداد، فلم يستطع الإقامة في كربلاء بعد أن أنهى محكوميته. والثالث مجيد جندي يؤدي خدمة العلم. والرابع حميد يقضي محكوميته في سجن الموقف. والخامس جليل (14 عاما) والسادس خليل (10 أعوام) تركا الدراسة وأصبحا عمالا في صناعة الأفرشة (ندافين) ليتمكنا من إعالة أنفسهما والعائلة. وكانت جدتي(أم والدتي)، قد إستقرت نهائيا في بيتنا وإحتلت بجدارة، في غيابي وغياب أخوتي الكبار، إدارة شؤون العائلة.
كانت جدتي، وعمرها آنذك حوالي ستين عاماً، قد إستقرت نهائيا عندنا بعد وفاة أمي، إمرأة قوية الشكيمة، خياطة تعمل طاقيات في البيت لأصحاب المحلات. كان شعورها عال بالمسؤولية تجاه العائلة، وقد تحولت علاقتها بأصغر أربعة من إخوتي الى علاقة أم بأبنائها أكثر منها علاقة جَدة بأحفادها، كانت تتعاطف معنا متأثرة إيجابا بسلوكنا، انا وإخوتي الذين إقتدوا بيّ، وبالرفاق الذين كانوا يترددون علينا. وكانت تأتي لمواجهتنا في السجون والمعتقلات وترفع من معنوياتنا . كانت تخفي المنشورات والكتب الممنوعة تحت ملابسها، وتمسك القرآن وتقرأ فيه، عند ما كان البوليس يتحرى بيتنا.
هناك عامل لعب دورا هاما في تأثرها الأيجابي بسلوكنا، ألا وهوسلوك خالي صادق. كان خالي إبنها الوحيد منصرفاً في شبابه إنصرافاً كليا الى اللهو والطرب، ليس على طريقة والدي وعمي "الحضارية" وهي الإستمتاع في بغداد بالملاهي والمقاصف و...إلخ إنما لقضاء أوقات طويلة مع الغجر(الكاولية) وحفلات الأعراس. كان صوته جميلاً، وضابط إيقاع جيد، وفوق ذلك كان وسيماً ولديه عشيقات. كانت جدتي تأخذ الرسائل، المتبادلة بينه وبينهن، من جيبه لأقرأها لها، وذلك عندما كنت صبيا. كانت مهنته (عربنجي)، وتحول لاحقا الى سائق. وبدلا من أن يساعد جدتي، بإعتباره معيلها وأعفي من العسكرية لهذا السبب بالذات، كان يبتزها. كان خالي في نظر جدتي مجرد (دنبكجي ويركض وراء الكاولية). وعند مقارنة سلوكنا بسلوك خالي والآخرين ممن على شاكلته، كانت تعتبرنا طاهرين. وعندما اراد أخي حميد نقل العائلة الى بغداد في عهد عبد الكريم قاسم، لتأسيس بيت حزبي لدى لجنة التنظيم المركزي، فإنها لم تعترض على ذلك. كان شرطها الوحيد هو ان يكون موقع البيت في الكاظمية. وفعلا عاشوا في الكاظمية .وبقي البيت بعد إنقلاب شباط الفاشي عام 1963 مدة شهرين، فلم يكن أحدا ممن يعرفون البيت قد وقع بيد البعث الفاشي سوى الرفيق حسن عوينة والذي إستشهد تحت التعذيب بعد فترة وجيزة من الإنقلاب . وقد دوهم البيت من قبل "الحرس القومي"، حيث إصطحبهم اليه سلطان الملا علي المرشح لعضوية اللجنة المركزية بعد إعتراف كريم عباس عليه. وقد القي القبض في البيت على عزيزالشيخ، المرشح لعضوية المكتب السياسي، إضافة الى أخي حميد. [1] وبقيت عناصر من "الحرس القومي"في قسم من البيت( البراني) حوالي ثلاثة أشهر. وكانت جدتي حارسا أمينا على إخوتي الصغار، يعيشون في قسم مستقل من البيت (الدخلاني).
وقبل أن انهي حديثي عن جدتي بودي أن أروي هذاالحادث عنها. في عام 1973 زرتها، وكنت عائداً من سفرة طويلة نسبياً في خارج الوطن، في بيت أخي حميد. شكت لي كيف إنها وقعت من الدرج في إحدى الليالي، وجرحت في يدها وظهرها. لقد واسيتها،وإندهشت كيف إنها عاشت بعد تلك الحادثة، فالدرجات عددها 12 درجة صخرية وكان عمرها يقارب 80 عاماً!!. وقد أعتقلت في عام 1982 لعدة
أشهر مع ستة وعشرين فردا هم جميع إخوتي ونسائهم وأطفالهم كرهائن بدلا عني، ولهذا الأعتقال قصة، مجالها إن سمح الوقت في مكان آخر. وقد كان موقف جدتي جيدا في المعتقل، وقد توفيت عن عمر يناهز التسعين عاما. و أما خالي فقد خفف من اللهو والطرب بعد زواجه، وأصبح سكرتيراً لنقابة السواق بعد ثورة 14 تموز وأعتقل في إنقلاب شباط عام 1963. كان خالي يحبنا جميعا ونحبه. و هداياه في الأعياد (عيدية) ، وعادة نقدية، أكثر من جميع الأقرباء. ولم يتوان، ولا مرة واحدة، من أن يتكفلنا عندما كنا نحتاج ذلك في مركز الشرطة.
في مواجهة الأول من تموز 1957، وبعد عودة السجناء من المواجهة، نادى السجان بإسمي وأردف ذلك ﺒ"مواجهة" لم أصدق أذني . كررالرفاق الذين يقفون بالقرب مني ما قاله السجان مندهشين ومستفسرين مني، مَن سيكون؟ أجبتهم لا أعرف، وإندفعت بإتجاه الباب( ضاربا أخماسا بأسداس) وأنا في طريقي لمكان المواجهه، وإذا بي أقف أمام ستة وجوه عزيزة جدا عليّ، وهي جدتي وأخي مجيد وأخوتي الثلاثة الصغار مع أختي الصغيرة سهيلة، شعرت بالسعادة وأنا اتحدث معهم رغم القضبان التي كانت تفصل بيننا والسجان الذي كان،عن كثب، يراقبنا. وسمعت من جدتي، كعادتها في مثل هذه الحالات، كل ما من شأنه أن يرفع المعنويات على سبيل المثال: " غمض فتح ﺘﻨﮕضي " !! علمت من أخي مجيد بأنه باع البقية الباقية من وسائل العمل التابعة لمحل عملنا لتدبير المواجهة. وإنه شخصيا رافق العائلة الى دائرة التحقيقات الجنائية، والمعاملة كانت روتينية في الدائرة المذكورة. لم يسمحوا لنا بأكثر من ربع الساعة لأنها مواجهة غير نظامية، فقد حصلت بعد إنتهاء المواجهة العامة لوصولهم متأخرين، وبالكاد سمحوا لهم بالمواحهة . وكانت هذه المواجهة الأولى والأخيرة خلال فترة سجني التى طالت أكثر من سنة ونصف.
في كانون الثاني 1958 نودي علي من قبل إدارة السجن، وسط إستغراب الجميع، لتسفيري الى بغداد ـ مديرية التحقيقات الجنائية. وفي طريقي الى المديرية المذكورة ،عبر مركز شرطة بعقوبة، لم يسعفني تفكيري للتوصل لأي إحتمال مهما ضؤلت نسبته. كنت، بالطبع، قلقا. عند وصولي الى المديرية أدخلوني الى غرفة، وإذا بي وجها لوجه أمام حزام عيّال مسؤول منظمة راية الشغيلة في مدينة كربلاء للاعوام 1954ـ 1955 والذي ورد ذكره في الحلقة الثانية من القسم الثاني من هذه السلسلة. شككت في الحال بأنه معترف علي لوضعه ومظهره الطبيعيين في مثل هذه الدائرة المتعسفة، مع ذلك لم أظهر تشككي، وتصرفت وكأنني ألتقيه لأول مرة، وفقا لمتطلبات الحال في مثل هذا المكان. إجاباته كانت مبهمة عن كيفية القاء القبض عليه، وحوّل الحديث الى التعليق على آخر المستجدات السياسية، كعادته أيام زمان، عندما كان مسؤولي الحزبي! وقبل ان يكمل تعليقه، نودي علي وأدخلت الى غرفة ضياؤها خافت، وفيها منضدة يجلس وراءها ضابط أمن. وأهم ما دار في التحقيق هو:
ـ ثبت لنا بأنك عضو في الحزب الشيوعي منذ عام 1954 ما قولك ؟
ـ لاصحة لذلك.
ـ هل تعرف حزام عيّال؟
ـ كلا.
ـ لقد إعترف عليك.
ـ لاأعرفه.
ـ هل انادي عليه ليعترف أمامك؟
ـ (كيفك)كيفما تشاء.
 (وأضفت) أنا محكوم ثلاث سنوات سجن وفق المادة  89ـ آ والتي تخص الشيوعيه، فهل يجوز محاكمتي بهذه المادة مرتين؟
ـ أنا الذي يسأل وليس أنت. (صاير لي قانوني).
أمر الشرطي أن يرميني في القبو (ذبّةَ بالسرداب).
كنت مصمما أن أنكر معرفتي بحزام عيًال إذا ما نادوه. لم أكن أرغب في مواجهته، تجنبا للإحراج . لذلك لم أأبه لسماعي" القبو"لأنني إرتحت كثيرا لعدم حصول المواجهة مع حزام، ولم يكن يهمني مايحصل لاحقا. وفي الحقيقة بمجرد أن أدركت دوافع الأمن لإستدعائي ، وهو لمشاهدتي مسؤولي السابق منهارا ليؤثر ذلك على معنوياتي وأنهار أنا الآخر. فلم اعد قلقا. أنزلوني الى قبو مظلم تقريبا، درجاته حوالي الستة، وممره لايتسع لأكثر من شخص واحد. قعره يسع لنوم بضعة أشخاص. رائحة الرطوبة فيه مزعجة وهناك بضعة بطانيات عسكرية مرمية بشكل عشوائي على الأرض ومشبعة بالرائحة المذكورة. وهناك كوتين صغيرتين عاليتين يدخل النور منهما للقبو في النهار. أما في الليل فهناك مصباح كهربائي يجري التحكم به من الخارج.
يتبع

[1] ـ جاء في "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" للكاتب عزيز سباهي الجزء الثاني ص 561 ما يلي: " في 8 نيسان 1963، اعتقل عزيز الشيخ وبعده سلطان الملا علي".هذه المعلومة غيرصحيحة. والصحيح وما يؤكده أخي حميد، هو ما مذكورفي أعلاه.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أزمة المياه تهدد حياة اللاجئين السوريين في لبنان


.. حملة لمساعدة اللاجئين السودانيين في بنغازي




.. جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في ليبيا: هل -تخاذلت- الجن


.. كل يوم - أحمد الطاهري : موقف جوتيريش منذ بداية الأزمة يصنف ك




.. فشل حماية الأطفال على الإنترنت.. ميتا تخضع لتحقيقات أوروبية