الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رياض الترك يسجن سجانيه

أديب طالب

2005 / 7 / 15
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


في الثامنة من مساء الجمعة، التاسع من الشهر السابع 2005 ،أطل رياض الترك من شاشة المستقلة في لندن بطقم وكرافتة، برقبته المائلة قليلاً إلى اليسار، وبياقة قميصه المائلة إلى اليمين، وبعمره الذي تجاوز السبعين؛ أطال الله عمره. أطل بوجهه الغاضب مسبقاً، وجه شديد الاحتقان، نظارته تعكس الأضواء؛ وعلى جبينه حبات ناعمة من العرق؛ كان متحفزاً متوثباً لاهثاً يريد أن يقول كل شيء دفعة واحدة وبسرعة بالغة.
عرّفه محي الدين لاذقاني بأنه من أقطاب المعارضة السورية، انفعل - الترك- واحتد واستاء وبخجل شديد رفض التعريف، أصر أنه معارض سوري لا أكثر؛ ما قالها تواضعاً مقصوداً وما قالها تفاخراً وزيفاً وما قالها نفاقاً أو ادعاءً قالها حقاً وصدقاً فالألقاب الكبيرة لا تعنيه بل تسوءه، والصفات الخارقة لا تغريه بل تُقرفه. هو نسيج وحده متفرد مميز. تماهت ذاته بالآخر حتى التلاشي فحقق أزهى أشكال البقاء، الذات الحرة البداية؛ والذات الحرة النهاية. ذكرني التواضع المهيب بقزم ناشط معارض سوري؛ طويل القامة أغبر أزرق أصفر البشرة؛ وعلى وجهه غلالة من غضب الله، يده اليمنى في جيب السلطة؛ يسرق منها الأمن والمال؛ ويده اليسرى في جيب المعارضة يسرق منها الشرف والفخار. هذا القزم ظهر على شاشة العربية؛ وعندما صنفه المحاور بأنه من أقطاب المعارضة السورية استطال واستدار وتساندت كتفاه وجحظت عيناه لتسرق الكاميرا والأضواء وامتلأت رئتاه بالخبل وعلت وجهه ابتسامة فخورة مزهوة فيها كل غباء الأرض......... عّله عاتب على العربية؛ فهو قطب المعارضة القائد الخالد الوحيد.
أحبّ محيي الدين اللاذقاني أن يبدأ من خطاب القسم، رفض الترك بحدة وقال أن هذا ليس موضوعنا وقد مرت عليه خمس سنوات.... موضوعنا البلد؛ الوطن، تدفق بعسر أحياناً؛ بيسر أحياناً؛ قدم لشعبه ما يفتقده في السلطة المستبدة، قدم الحرية والسيادة، قال كلاماً شجاعاً :" فليذهب هذا النظام إلى الجحيم.... النظام في خندقه الأخير...، الوطن في خطر، إن ذهب النظام لن نأسف عليه. الوطن في خطر".
لم تفد معه المقاطعة الناعمة من محاوره واحتارت الكاميرا كيف تلتقط انفعالاته. قال أحمد الحاج علي متداخلاً من خارج الأستوديو ما معناه:" أن رياض الترك يقصي الآخر.." قال المحاور: "إن النظام المستبد سجن رياض الترك عشرين عاماً في زنزانة منفردة فمن يقصي من"، قاطعه الترك بصوت خافت:" أقل قليلاً .." وعندما أعطي فرصة للرد على الحاج علي قال:" إن النظام أقصى الشعب كله، أقصى البلد كله، واستأثر بالثورة والثروة والسلطة". كان في ذروة انفعاله في تلك اللحظة خِفت عليه من حِدته خفت عليه من حمقى النظام. أكد المحاور عدد سنوات السجن مرة ثانية وتدفق النبع الفوار....."عدد السنوات لا يهم سنتان، عشرون ... لا يهم..." في تلك اللحظة المرتعشة أحسست أن شعبنا وجد رمزه الوطني وقدوته الهادية.
رياض الترك لا يأبه بسجانيه لا يحقد عليهم، أحياناً لا يراهم وقد يأسف أو يحزن لهم. يأبه أن شعبه بلا حرية وكل شيء يهون بعد ذلك. حياته؛ حريته؛ حقه أن يشرب الماء؛ ويتنفس الهواء؛ ويبتسم للوردة؛ وينتشي ببرودة الصباح؛ ويسعد بعناق الحفيد. تنازل طوعاً وعمداً وإصراراً عن كامل حقوقه الإنسانية فالباقون باقون بأقل الحقوق أو بلا حقوق داخل السجن وخارجه شيء واحد، ولعل داخله أفضل؛ فذلك ضريبة ثمن قيمة فعل عله يحرر الآخرين وأعتقد بلا تواضع أنه يحررها. وما حصلت عليه الإنسانية من حرية ليس إلا ثمرة لنضال آلاف مثله عبر تاريخنا البائس المفعم بالخوف بالدموع والحيوية والحلم وحب الحياة.
رياض الترك فارس لا يترجل، ومحارب لا يستريح، وحصان ذكي أبيّ حرون لم ولن يركبه أحد. عندما يخاطب جليسه يردد لفظة "ابن العم" لفظة ودودة محبة أنيسة حية دافئة فاعلة حنونة عميقة عمق التاريخ مؤسسة لبواكير الاجتماع الإنساني، كلما سمعتها منه يدخل قلبي رغم أنه لم يغادره أبداً، أرتعش أبتهج أنتشي أفخر أني إنسان أتأكد أني في حضرة أستاذ في التواصل يجمع بفطرية تامة بين قوة الحضور وخفة الظل المهابة القادرة رغم رقتها وشفافيتها. رياض الترك طراز فريد من المناضلين من أجل الحرية، سنوات السجن الطويلة عددها طولها قسوتها لياليها لا تعني له شيئاً، حريته في سجنه طالما أن سجنه ثمن حرية شعبه وحرية الإنسانية. أكاد أعتقد جازماً أنه يسجن جلاديه وهو في زنزانته في عمق الظلمة والليل البائس؛ وأن ثمرات حريته ومتعها ولذائذها لا تعنيه طالما أن الآخرين غير أحرار. هذا التلاشي مع الآخر ومن أجله لم يعرفه إلا قلة من الأنبياء والقديسين. تجاوز أزمة الوجود الأبدية الضاربة في عقل الإنسان منذ التشكل البدئي، لا قيمة لحريتي "أنا" طالما أن الـ "هم" لا يتمتعون بها والسجن وجود أرقى للحرية طالما أن الكل معتقل. الصوفي يتماهى مع الوجود والموجد فينسل من أزمة الوجود فيكون هو الوجود. رياض الترك يتماهى مع الحرية خلف قضبان السجن وبؤس السجان الغبي ويضحي عنوان الوجود بكل عمقه وتلاوينه.
التقيته مرات قليلة واحدة منها في الطريق عرضاً، قبّلته قبّلني أحسست عندها أن قلبي يبكي من الفرح لا أذكر حديثنا المقتضب " فلقد اتسعت الرؤيا وضاقت العبارة" وكلما عادت ذكرى اللقاء بكيت وأحسست أن لي قيمة في هذا الوجود، قد لا تصدقون ولكن هذا ما حصل.
رياض الترك فوق الدموع فهو الدموع والفرح والبقاء هو الحرية هو منارة ظلمتنا المريرة لن أشبهه بأحد ولن أشبه أحداً به فالنجوم لا تتشابه ولكنها تضيء. في عينيه نصف المغمضتين خلف نظارته بريق غريب مشع وحارق وحنون.... يكاد يتلاشى أمامك من التواضع الأصيل وللتو تحسه هرماً جبلاً وجوداً كاملاً جليلاً كم هم بائسون سجانوه كم هم محتقرون سجانوه كم هم غثون وتافهون إنهم أقل من شيء وإنهم أقل من لا شيء وهو الشيء والوجود والزمن والإنسان بأرقى تجلياته.
لن تعجب رياض الترك كلماتي وأتمنى ألا يقرأها وهذا مستحيل وليس لي إلا أن أعتذر له عنها وليس لي إلا أن أقول له: أكاد أختنق إن لم أقلها فعله يقبل العذر ويمنحني السماح ومن يعفو عن سجانيه يعفو عن محبيه و" للناس فيما يعشقون مذاهب"، أنا أحب هذا الرجل وأكره ذاك القزم والسلام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأحزاب الانفصالية في كتالونيا تخسر الأغلبية في الانتخابات ا


.. بلينكن: الاجتياح الواسع لرفح سيزرع الفوضى ولن يؤدي إلى القضا




.. ترقب في إسرائيل لأمر جديد من محكمة العدل الدولية في قضية الإ


.. طائرتان مسيرتان عبرتا من لبنان إلى إسرائيل وانفجرتا في منطقة




.. الإعلام العبري يرصد التوتر المتصاعد بين إسرائيل والولايات ال