الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المثقف العراقي والانتخابات

حسين كركوش

2014 / 4 / 22
مواضيع وابحاث سياسية


هي مجرد مصادفات حملت معها دلالاتها.

انتهيت من قراءة مقال للشهيد قاسم عبد الأمير عجام أعاد نشره أخوه الأديب علي عبد الأمير عجام على صفحته في الفيسبوك، بعد أن كان قاسم قد نشره قبل سنوات في صحيفة المدى.
في المقال آنف الذكر يقول قاسم : " إن مفهوم المثقف العضوي الذي يشدد عليه أدورد سعيد نقلا عن غرامشي، أو عملا بما رآه ليس سوى المثقف المسيس في التطبيق فعلا وتأثيرا في مجتمعه."
بعد ذلك عدت فاستأنفت قراءة مجموعة مقالات بالفرنسية تتحدث عن موقف الشاعر آرثر رامبو إزاء كومونة باريس التي اندلعت عام 1871. لكن التلفون رن فشغلني.
كان صديق لي على الجانب الآخر. تشعب بيننا الحديث حتى وصل الانتخابات التي ستجرى نهاية هذا الشهر و سألته: هل ستشارك في الانتخابات ؟
رد ضاحكا بصخب: " شنو صاير هالأيام دلال مال قوائم انتخابية ؟ ذاك اليوم كاتب على الفيسبوك جنجلوتية عن المرشحة هيفاء الأمين وهسة تسألني انتخب لو لا. يمعود يا انتخابات ! أنت بعدك بهاي السوالف (أراد أن يقول: بعدك ساذج) ؟ ليش هو أصلا العراق بعده موجود حتى ننتخب من أجله ؟ أخي، العراق انتهى. ناس لصوص سفلة دمروا البلد وقسموه بيناتهم. يا انتخابات يا مهزلة. كل حل بعد ما كو. وترى صدكني، حتى لو الجماعة (أظنه يقصد التحالف المدني الديمقراطي) يفوزون ترى هم راح يصيرون نفس الشي. مو عشنا وياهم وجربناهم. أحسن ما مدوخ نفسك بالانتخابات ومكابل الفيسبوك ، روح اكتبلك شي بي خير، اقرالك كتاب يسوه. انتخابات ؟ يا انتخابات هاي ؟ والله أنت بعدك من اهل الله (أراد ان يقول بعدك مغفل). دجوز من هلسوالف. جوز عيني."
هذا الصديق الذي تحدث معي كنت أحترمه وما زلت أحترمه وسأظل أحترمه. أقول سأظل لأني على يقين أن الخيانة، بكل أصنافها وتفرعاتها، تضل الطريق عندما تتوجه نحوه. عسل مصفى. هو مثقف موسوعي، ومترجم حاذق وناقد باهر، وسياسي يساري يتكأ على سنوات من التجارب. خسر كثيرا وفقد كثيرا وتنازل عن الكثير، ورفض الكثير من الإغراءات، تمسكا ودفاعا عن مبادئ يعتنقها ويؤمن بها.
لكن يبدو أن تجربته السياسية خلال السنوات الأخيرة كانت محملة بالإحباط وبالخيبة فأصبح، في آن واحد، ذاتوياَ منحنيا على ذاته، يحلل الوقائع والأحداث ويرى الأمور ببوصلة تجاربه الشخصية، نهلستيا عدميا، وقدريا طائعا مستسلما، ومؤمنا بنظرية المؤامرة حد التعنت. لم يعد يؤمن بجدوى أي نشاط، ليس النشاط السياسي فحسب، وإنما أي نشاط عام. ويؤكد أن الأمور خلقت هكذا وستظل هكذا وأنها تدار وفقا لمؤامرات معدة سلفا، ولسنا نحن البشر سوى أدوات غبية تنفيذية. وبالتالي، فأن أي نشاط عام باطل وقبض ريح ولا فائدة ترجى منه.
وعندما أسأله: حتى و العراق يحترق، حتى وسكانه يعيشون في الجحيم ؟ يجيب ضاحكا لكن بوجع وبمرارة لا يستطيع إخفاؤهما: يا أخي، الأديب والمبدع عموما أشيكدر يسوي.
اسأله: والحل ؟ والخلاص ؟ يجيب: الحل في الكتاب، في الأبداع. أما السياسة فهي مضيعة للوقت وهراء لا طائل منه.
أقول له: أنا لا أتحدث عن السياسة كنشاط مباشر أو كانتماء حزبي أو أنتاج لأدب شعاراتي سياسي حسب الطلب. أنا أقول هناك لحظات تاريخية حاسمة، مثيرة واستثنائية لا يمكن للمبدع أن يتجنب فيها السياسة. ثم أن أي نشاط أبداعي هو نشاط اجتماعي عام، في نهاية الأمر. فأي جهد ثقافي أبداعي لا يكتمل ألا بوجود ثلاثية: النتاج الثقافي وخالقه والمتلقي. والمبدع لا ينتج إلا بوجود متلقي. وعندما نقول متلقي، نقول : مجتمع، ، رأي عام، تغيير الواقع .. وهذه كلها سياسة.
يقاطعني قائلا: هذا ما يريده السياسيون. هم يريدون استغلالنا.
قلت: أنا لا أتحدث عن الالتزام ولا حتى عن النشاط السياسي. أنا أتحدث عن الفعالية الإبداعية التي تحث القارئ على الفعل السياسي دون أن تذكر مفردة سياسية واحدة. لم يرد.
ودعت صديقي وطبعت عبر الأثير قبلة على جبينه بعد أن قلت له ممازحا لكن صادقا: سأذهب وانتخب. عل عنادك. وكم تمنيت مع نفسي أن يمزق شرنقة عزلته السوداوية، ويأخذ زمام المبادرة كفرد حر و خلاق.

عدت و واصلت قراءة مقال عن آرثر رامبو، أكثر الشعراء تمردا وأشدهم رفضا للقيود وأعشقهم للحرية بحدودها القصوى أو كما يسميها (الحرية الحرة) وأصدقهم في جلد الذات وتصفيتها من الشوائب لتصبح هي القدوة والمثال( أنا الآخر Je est un autre).
يتحدث المقال عن موقف رامبو السياسي الملتزم إزاء كمونة باريس بعد اندلاعها سنة 1871.
المقال عنوانه (آرثر رامبو، شاعر في رحاب الكومونة) بقلم كاتب فرنسي أسمه أرك سيمون، وهو واحد من مقالات كثيرة تحدثت عن هذا الجانب من حياة رامبو.
أرك سيمون قدم مقاله المذكور باستشهاد اقتبسه من رينيه شار يقول فيه: " الشاب رامبو كان شاعرا ثوريا معاصرا لكومونة باريس."
أما سيمون نفسه فيبدأ مقاله كالتالي: " منذ زمن طويل وأنا أسأل نفسي: لماذا لا يتوقف غالبية كتاب سيرة رامبو الشخصية عند الدور الجوهري لكومونة باريس سنة 1871 في مسار رامبو."
سيمون يقول إن سؤاله هذا "جمالي إبداعي وسياسي في آن معا." ويعيب سيمون على الكثير من كتاب سيرة رامبو إلحاحهم على تقديم صورة أحادية لرامبو ويقول: ( توجد رغبة عندهم في تقديم أو تصوير رامبو كمراهق متمرد، بخلفية سايكولوجية تحيطها ضبابية متعمدة، يتجنبون عبرها تقديم هذا الشاعر المتمرد بأي طريقة آخرى سوى كونه يجسد قطيعة مع جميع الأصوليات السائدة في زمنه، لصالح عبقرية شعرية فريدة من نوعها، بل وخارجة عن نطاق المألوف."
سيمون يرى أن مواجهة نصوص رامبو بطريقة صبورة ومتأنية تقودنا إلى أكتشاف عمق آخر." وفي ما يتعلق بموقف رامبو إزاء كومونة باريس يقول الكاتب : (بالتأكيد، أن رامبو لم يشارك في كومونة باريس ولكنه عند اندلاعها كان يهتز متأثرا جدا بإيقاعها وصخبها و تضحياتها. لقد فهم رامبو، خصوصا، ماذا كان يدور في تلك اللحظة وماذا كانت تمثله تلك الثورة الحديثة على جميع الأصعدة، وتحديدا طابعها المتحرر البروليتاري. وما خلقته من وعي تحرري برؤيا كونية.)
سيمون يستشهد بقصائد لرامبو منها قصيدته ( نشيد الحرب الباريسي Chant de guerre parisien ) وقصائد أخرى عن كومونة باريس. والكاتب محق فيما يقول. فقد تحمس رامبو للكومونة لحظة اندلاعها، وطفق يتابع أخبارها من مدينته شارلفيل عبر الصحف. ورغم قصر فترة بقاءه في باريس خلال أيام الكومونة، ألا أن بعض الذين كتبوا عنه يعتقدون أنه ربما ساهم ضمن المجموعات القتالية لرجال الكومونة. أما شعره عن الكومونة فهو دفاع سياسي حماسي عنها وشتم مقذع لأعدائها.
( نشيد الحرب الباريسي) قصيدة سياسية مباشرة، وهي هجاء سياسي خالص وقاس ضد أركان الحكم الذين قمعوا الكومونة وسفكوا دماء المشاركين فيها وانقضوا عليها خلال ما بات يعرف (الأسبوع الدامي) عندما اجتاح أعداء الكومونة الفرساويون (نسبة لقصر فرساي، ويُقصد بهم أتباع الملكية والبرجوازيون من رجال الأعمال والمحافظون المحليون والمؤيدون لتوقيع صلح عاجل مع ألمانيا وقتذاك) مدينة باريس و قُتل نحو عشرين ألف شخص. في هذه القصيدة يذكر رامبو أسماء أركان الحكم واحدا واحدا: رئيس الوزراء، وزير الداخلية، وزير الخارجية. القصيدة وثيقة شعرية واقعية لمشاهد العنف و العنف المضاد الذي مارسه رجال الكومونة، ونسائها على وجه الخصوص.
يطري رامبو في قصيدته على الدور الذي لعبته ( Pétroleuses) أو النساء (الراميات) إذا صحت ترجمتي، وهن نساء الكومونة اللواتي أوكل لهن مهمة رمي قنابل بترولية لإعاقة تقدم مهاجمي أعداء الكومونة عندما اقتحموا باريس.
وفي قصيدتي ( يدا ماري - جان Les mains de Marie -Jeanne ) و ( لوحة ليلية مبتذلة Nocturne vulgaire) يشير رامبو إلى العمليات القتالية التي كان رجال الكومونة ينفذونها وهم يتنقلون سرا من بيت لبيت عبر فتحات يقيمونها في جدران البيوت. ويذكر رامبو رعب الباريسيات وهن يشاهدن مدافع أعداء الكومونة تجرها الخيول "عبر باريس الثائرة". كذلك في قصيدته (العربدة الباريسية L’orgie parisienne) يوجه رامبو شتائمه ضد "الأنذال البرابرة السفلسيين المجانين الملوك المهرجين أصحاب الكروش) وهم يجعلون من باريس (عاهرة) لهم. ويهددهم قائلا أن باريس (ستلفظكم لفظ النواة أيها الشرسون القذرون).
قصائد رامبو عن كومونة باريس وما يذكره النقاد ومؤرخو الأدب عن مواقفه في تلك الأيام تشير كلها إلى أن هناك لحظات تاريخية استثنائية حاسمة في حياة الأمم لا مجال فيها لحياد المبدع، مهما كان متمردا وفوضويا وعبثيا. ولا مكان فيها للقاعدين المتفرجين. في لحظات تاريخية كهذه لا بد أن يصبح المبدع (مسيسا).

الكومونة وأوضاع فرنسا، رغم أهميتها التاريخية وقتذاك، لا تعادل شعرة مما يحدث في العراق هذه الأيام. العراق كله على كف عفريت، وليس مجرد طبقة اجتماعية بعينها.
وإذا عدت و تحدثت عن الانتخابات لأنني بدأت بها فأني أقول: قد لا تتغير الأمور أن شارك المثقف العراقي فيها أو لم يشارك. وهل غيرت في الأمر شيئا قصائد ومواقف رامبو إزاء الكومونة. لكنها مواقف الضمير ومبادئه، ومواقف اتخاذ الخيارت الصعبة في المنعطفات التاريخية الحاسمة، واليقظة إزاء المستجدات.
في عام 1871، عام الكومونة كتب رامبو رسالة لبول ديمني قال فيها: " مواجهة ما يخبأه المجهول تتطلب أشكال جديدة." بالطبع هو يعني أشكال جديدة في الأدب وفي الحياة.
وما يخبأه المجهول العراقي، بل ما يفور به الواقع العراقي الحالي، يتطلب من المثقف العراقي أساليب وأشكال جديدة. كل مثقف وفق قناعته الضميرية وخياره الحر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد الجامعات الأميركية.. عدوى التظاهرات تنتقل إلى باريس |#غر


.. لبنان وإسرائيل.. ورقة فرنسية للتهدئة |#غرفة_الأخبار




.. الجامعات التركية تنضم ا?لى الحراك الطلابي العالمي تضامنا مع


.. إسرائيل تستهدف منزلا سكنيا بمخيم البريج وسط قطاع غزة




.. غزة.. ماذا بعد؟ | جماعة أنصار الله تعلن أنها ستستهدف كل السف