الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إنّهُ يرتّلُ أنفاسي - قصة قصيرة -

عبدالكريم الساعدي

2014 / 4 / 24
الادب والفن


إنّه يرتّلُ أنفاسي
----------------
دخلت القاعة قبل كساد الروح...كان الحفل صاخباً، لم تكن خطيئة أو إثماً ، كانت خطواتي تحملني الى كون جديد ربما لم أعتاده من قبل، كان مساءاً منسوجاً من زمن جديد، والحواس تلتقط أحاسيس الحضور ونبض الوجدان ، لتشكّل صوراً مجنّحة بتبادل الأبتسامات والعناق بعد فراق طويل، عيناي المعلقتان بأستار الأنتظار تدوران في محجر المكان، تبصران المسافة المعلقة بين فتنة الشعارات الجامحة بسحر الأماني وبين ليل طويل صادر أحلامنا المقمّطة بين عيون الذكرى، ذكريات مصلوبة على حنايا الجوع والموت والخيانة وما تشتهيه رصاصات مدفوعة الثمن وقت الحروب. كنت أنا دون أن أدري أسكن راحة يد الذكرى ، أدقّ بابها ، تباغتني رغبة تنشد نبض الصدى لأغيب في طي المكان وضجيجه . كنت أمضي وحيداً حزيناً على قارعة الفزع ،أصابتني وطأة الحرب والنيران وخطو أحلام ملوّثة بالدهشة والحيرة مما يجري لنكون عشباً للحرائق ،كانت الأفواه الحرة تركب صمت المشانق ، أجيال ملوّنة بالقهر والجوع ومساكن تمكث في حدقات الموت ، وبنادق مكتنزة بشهوة القتل ، وأصوات تغنّي قهراً للفضائح :
- ما بال الزمن مكتظ بغربتنا ، أ ما آن لنا أن نخلع رداء البرد والخوف ونهيّء مستقبلاً يليق بخطواتنا القادمة ؟. وحين حاصرتني عيون الخوف والعزلة باستغرابها:
- مالنا نراك كالعاشق الولهان يحمل موته بين ثنايا حبه ؟
كنت أمتطي مسافة بين الهروب الجميل وبين موتي فيما كان الآخرون يمتطون موجة الخريف، كنت غريباً طريداً أحمل أنين الجراح وصدى العويل ، ألملم حزني وملامح ضحايا خطيئة العصر لأفتح نافذة على أحلام الفقراء، مسحت غبار الخيبة والسخط ونفخت فيها روح الآتي لينفض عشقاً ورغبةً لعناق الأرض والأمطار وأشهق بصراخ يتوسد أحلام الموتى ، هي الجراح وتفاصيل الطرقات التي تحكيها وقع خطواتنا المرتعشة بالفزع وظلمات المجهول فوق أرصفة مدينة متّشحة بالسواد ، مدينة ترقد في توابيت ضيقة تشبه أزقتها الكئيبة، تسرد تجليات الخريف وكوابيس الليل الذي اختصمت أشباحه ومخالب الأقدار على ناصية رقصة بلهاء لتغلق حلماً طالما أعتصم به المساء، بلّلتُ ريقي بأحلام هاربة من ذاكرة الأيام لعلّني أسرق بعض الفرح من نافذة تظلّل ماء القلب، اطلقت سراح بصري فارتدّ تحمله مرايا عيون طالما أوجعت قلبي حباً وأملاً ،تأملتها بفرح وغبت بشغف في تلك الأطلال المنسية فوق تاريخ الوجع، حدّقت برغبة شديدة في وجه المرايا أبغي قمراً غاب في سماء المجهول حينما مرّت سحابة سوداء غطت وجه السماء، لم يكن أمامي سوى أن أطلق عينيها لتختبىء أحلامي في جادة النعاس ، كان المدى يهمي دمعاً ويسفح وجداً، حين ضاع الطريق ، وبرقت المدن تولول بالهزيمة في عواء مغلّف بالهذيان ، لكن عيني كانتا تبرق بحكايات الفجر. مرة أخرى أمسح ماتبقى من غبارٍ على مرايا المجهول:
- آه لقد غادرتِ الناس والشواطىء مراكب البحر، وأسرّوا ناصية الغرق . أسلمتُ وجهي للريح لمّا صفعتني العاصفة ، كنت أبصر دبيب الفراغ يعدّ ما تبقى من خطواتي ، تعثرتُ بنبض الحريق فتعثرتْ أنفاسي في صمت الخطايا بكاءاً وعويلاً ، فمكثت حينها فوق الأنين أرتّب ما أفسدته جوقة القرود وشهوات العواصم، كنت أتنفس رائحة الحرائق وأمسّ بذاكرتي رماد الليل الذي استحم بموج رغاء الخراف التي ساقتها ذئاب الكذب والخديعة ، قبل أن تربتُ على كتفي يد الحاضر:
- سيبدأ الحفل ، ياصاحبي.. أراك غبت عنا !
- آه، لقد أيقضتني من كوابيس الأمس، عجيب أن يستعرض المرء حوادث الدهر بدقائق بخسة !
كانت الذكريات معطرة بنشوة الخمور وشذا يفوح بالكبرياء وصلوات الحب، ذكريات ترقد تحت رماد الفجيعة ، ذكريات تسأل عني :
- أين أنت ؟
- لاأدري .
وحين اعتلتْ منصة الحفل امرأة لها قامت الخيلاء وارتعاشة الورد ،تتمطّى بزهوٍ ، ينزّ من شفتيها عطر الهمس ، وتختصم الدهشة وأبصار البلهاء عند رفيف شالها البنفسجي، كان الصمت يخيم فوق شفاه الحاضرين، والضجيج يرقد عند حافة موته، رافعاً قبعته باجلال للآتي...
رتّلتْ في الحضور سمفونية الفارس الذي امتشق سيفه بالأمس ولم ينحني لمطلع الهزيمة ، كان وهجاً في الليلة الظلماء، ومضتْ ترسم بأنامل فورتها المشتعلة دبيب خطواته :
- تعالوا ننصتُ لخفقة دمه وذكرياته المثيرة ، ونحدّق في محطات خطاه المشتعلة بالصبر والعنفوان !
ولمّا علا التصفيق والصفير لا أدري لِمَ كان يخيّل إليّ إنّها خرجت من فجّ إبليس، كنتُ انتظر الخطاب بلهفة لحامل أحلامنا قبل أن يستعمرني وجلٌ خفي. أبصرته عن بعد رجل لم يطىء الخمسين بعد ، محاطاً بفتية يحملون السلاح ، عيونهم تحدّق دونما اتجاه ، وعيون الحاضرين كعيون المومياء يملؤها الهواء،اخترمتها فرحة تتأبط ظهر كلمات الأعجاب . كان الصوت بعيداً يغور في أعماق الألم ، يتلو علينا سيرة الحرائق والخراب والخوف ، سيرة الأمس المكبّلة بالطغيان والصمت، وكنت أنا معلقاً بين قطيع من نور وبين بريق كلماته وشجن عالمه الحزين، لم يكن الصوت غريباً ، أو هكذا كان يبدو لي للوهلة الأولى، دقائق تمرّ قبل أن تحاصرني الذكرى بموجِها ،فنضحتْ ملامحه ، تهجّيتها بارتباك شديدعند شواطىء لحظة فزعٍ مرّتْ قبل أكثر من عشرين عاماً، حدّقتُ فيها ملياً ،تفرّست غطاءها ، لم يكن غيره ، إنّه هو!
كان وقت الظهيرة ، والجميع معلّق من دمه مصلوب في جذوع الخوف والحرمان والجوع، كان الوطن قبراً شاسعاً ، أو سجناً وسيعاً ، دعوته لأن يحمل معنا راية خارطة الوطن الجميل لنبدّد هذا الليل الماسك بأعناق الجياع ، لم يجبْ، رأيته خائفاً مرتعشاً ، كان جسده يؤدّي ببراعة رقصة الخوف عند اعتاب المقبرة الراقدة على أطراف مدينتنا الحزينة ، سألته ولمّا يزل مرتجفاً:
- ما الذي يمنعك من العمل ؟ . تعكّز على أعذار واهية :
- ألا تعلم أنّي لاأقوى على الأمر ، أنا أخشى على أخوتي وأمي؟ ، ثمّ أن أمرك هذا لايجدي نفعاً ،كأنك تتوهم أننا نخضع لحكم الرعب، أراك تلعب بالنار ياصاحبي !
لا زالتْ صورته عالقة في ذهني ، كان فزعاً مصفراً مرعوباً، يجدف خوفاً ، يلتفتُ يميناً وشمالاً،غار في صمتٍ بليد ،حاول أن يدثّر رجفته بكلماته المخنوقة ، ولمّا لم يحتمل عصف الكلمات ، طفق يجمع ظلال عورته وصمت عريه قبل أنْ يلوذ بالفرار . لم أره منذ ذلك الوقت...كانت ملامحه تقصف دمي المحترق بالدهشة بلا هوادة، وتفتح جرحاً بين أضلعي، دسّ كلماته في ثغر الفراغ أخرجها بيضاء للناظرين ، كان الهتاف رجيماً، كيف يمتص ألم جراحنا ويأخذ شكل خظانا الأولى المكبّلة بالغضب ؟ كنت عالقاً بالصراخ والرفض حين رسمت عيناه قيداً في الفراغ يلهو بإقدارنا ويجرح أحلامنا ، كنت منذهلاً تستبدّ بي نار الجنون ، محمولاً على كتف الصراخ وأنا أرآه يلوّح براية النصر .كنت أسبح في دوامة من الدهشة استنشق عبير الشمع حين يموت وأبصر قذارة طحلب يعوي في متاهات الفراغ وهو يمتطي جراحنا ، إنّي لأعجب كيف يحيا دون حياة ؟
كان ألم الصراخ ووجع الدماء يتلاشى بين الصفير والتصفيق ودخان السكائرالمعلّق في سقف الفراغ. كان الصوت يقتفي أثري :
- ألم تكن أنت....؟
- بلى ، كنت أنا قبل حرائق الحفل.













التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي