الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثورة العسكر أم ثورة القرنفل؟!!

خالد سالم
أستاذ جامعي

(Khaled Salem)

2014 / 4 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


"ولكنها تدور"

في لحظة تاريخية، سبعينات القرن العشرين، شهدت بلاد الأندلس بشقيها، إسبانيا والبرتغال، الأقرب إلى شعوب الوطن العربي، من ناحية التطور الاجتماعي والسياسي، تحولاً عظيمًا نحو الحريات والديمقراطية، لتحلقا بمحيطهما الجيوسياسي، إذ قامت وحدات من الجيش البرتغالي بثورة ربيع 1974 وقبل أن ينتهي خريف العام التالي رحل آخر المستبدين في أوروبا الغربية، الجنرال فرانكو، ليترك أفقًا غامضًا ما انفك الحرس القديم، طواعيةً، يجلس إلى مائدة المفاوضات مع المعارضة المهزومة في الحرب الأهلية الإسبانية (1936/1939) بحثًا عن أفضل الطرق لركوب عجلة الحضارة، وهو ما كان للبلدين الأيبيريين.
تحتفل البرتغال بالذكرى الأربعين لثورتها، ثورة القرنفل، التي غيرتها ووضعتها في سياقها الأوروبي بعد عقود من التردي والتخلف في بلد ليس بالفقير، بلد كان قوة استعمارية تمتد مستعمراتها إلى أميركا الجنوبية وإفريقيا وآسيا.
قام بثورة البرتغال فريق من شباب ضباط سلاح البحرية، ذووي ميول يسارية، معظمهم برتبة نقيب تحت قيادة رائد، ما يذكرنا بحركة الضباط الأحرار بقيادة عبد الناصر، مع الفارق في أن قادة الثورة البرتغالية آثروا اللحاق بالديمقراطية بينما ارتأى ناصر ورفاقه طريقًا أخرى للنهوض بأرض الكنانة، ورغم حسن النوايا فلا تزال مصر أسيرة التخبط وامتصاص دم الشعب طوال أربعة عقود بالتمام والكمال، منذ انفتاح السادات وجنينه البائس، معاهدة كامب ديفيد، لأن حسن نية عبد الناصر لم يكن كافيًا.
جاءت ثورة شباب ضباط ضباط سلاح البحرية البرتغالي ردًا على تكلس النظام الاستبدادي الذي كان وراء إنزال هزائم حربية بالجيش المترهل في المستعمرات الإفريقية وتخلف البلد عن سياقه الأوروبي بعشرات السنين. كانت تلك الثور نهاية لنظام جثم على صدر البرتغاليين أربعة عقود، النظام المستبد الذي أسسه أنطونيو أوليفيرو سالازار في عام 1926، وأدت إلى استقلال آخر مستعمرتين برتغاليتين في إفريقيا، أنغولا وموزمبيق، وإنهاء الاحتلال البرتغالي لهذه المنطقة الذي استمر 470 عامًا. كما أنها كانت، بعد ثورة عبد الناصر في مصر، أقل ثورات العالم في القرن العشرين إسالة للدماء إذ لم يمت فيها سوى أربعة أشخاص.
كان النظام الاستبدادي، بعد عزل سالازار ثم وفاته قبل الثورة بخمس سنوات، قد واصل حكم البلاد بيد من نار وأخرى من حديد ممثلاً في رأسه مارشيلو كايتانو قد بالغ في غيه وتشبثه بالحكم، بحماية الشرطة السياسية، أمن الدولة، التي أجهضت أي محاولة للإصلاح وأذاقت البرتغاليين الأمرين. كان النظام يزداد عزلة وهِرمًا وتكلسًا، لدرجة يمكن معها وصفه بالأحفوري، فأصبح نشاذًا في سياقه الأوروبي، في قارة كانت في حالة فوران على المستوى الإجتماعي والفكري، انطلاقًا من ثورة الشباب، ثورة مايو 1968، في فرنسا، وراتدادتها في سياقها الأوروبي.
هذا بينما كانت حركة إزالة الإستعمار من إفريقيا في الستينات قد أتت بأكلهافي حين تمسك النظام البرتغالي بمستعمرتيه في القارة السوداء، أنغولا وموزمبيق، دون أن يدرك أن الأمر أصبح خارج السياق والتاريخ، ما حمّل البرتغال فوق طاقتها، متمثلاً في تخلفها عن جغرافيتها الطبيعية. فبينما كانت القوى الإستعمارية تبحث لنفسها عن مخرج مناسب من مستعمراتها الإفريقية تشبثت لشبونة بما كان لها في القارة السمراء. وبالإضافة إلى استنزاف الاقتصاد البرتغالي أدت حروب الاستقلال إلى صراعات بين المجتمع المدني والقادة العسكريين.
وكان النظام يزداد في غيه وتضليله لعامة الشعب، وكان نموذجه الإقتصادي قائمًا على الاكتفاء الذاتي وتصدير المواد الخام، مع نمو صناعي ضعيف، ما جعل البرتغال تقبع في مؤخرة دول أوروبا الغربية، وتصبح الأكثر فقرًا، الوضع الذي أسفر عن موجات هجرة إلى الأميريكتين وأوروبا.
وكعادة الشعوب المقهورة خرجت جموع البرتغاليين تساند الثورة البيضاء فور اندلاعها بعد دقائق قليلة من منتصف ليلة 25 أبريل 1974، رغم مطالبة الضباط للشعب بملازمة بيوتهم، وقدموا للجنود ما تحت أيديهم من مؤن، إلا أن أحد الجنود طلب من إحدى الشبابات سجائر، فكان ردها "إنني لا أدخن، وأهدته ما توافرت عليه وهي عائدة من عملها في مطعم، وكان قرنفلة وضعها الجندي في فوهة بندقيته، ثم واصلت توزيع هذه الزهرة، زهرة العشق، عشق الوطن والاخلاص له، فقلدوا زميلهم بوضعها في فوهات بنادقهم، وسرعان ما قلدها الشعب والجنود، وتحولت هذه الزهرة إلى أيقونة لثورة قادها العسكر، فكانت من أرقى ثورات العالم في القرن العشرين، ثم آثروا العودة إلى ثكناتهم بعد أن وضعوا بلدهم على درب الديمقراطية وقطع طريق العودة على رجال النظام الفاشي الذي أعاث الفساد في البلاد عقودًا طويلة.
الملفت للنظر أن هذه الثورة أو الإنقلاب خطط له ونفذه العسكريون ولم ينسبوه إلى أنفسهم بل سعدوا بالمسمى الشعبي الذي أطلق عليها، أي ثورة القرنفل. وهو أمر لا يزال البرتغاليون يحمدوه لجيشهم الذين خلصوهم من الطاغية ثم رحلوا لمواصلة مهامهم الدفاعية عن البلاد، ولم يأبهوا بنسبتها إليهم، لتبقى زهرة القرنفل رمزًا فريدًا.
وبذلك أصبح القرنفل، هذه الزهرة الأبريلية، ثاني أيقونتي هذه الثورة. أما الأولى فتمثلت في كلمة سر إنطلاق الثورة، أغنية "غراندولا، فيلا مورينا" (Grândola, Villa Morena)، غراندولا، أيتها المدينة السمراء، التي بثتها في اللحظة المتفق عليها إذاعة تابعة للكنيسة الكاثوليكية، لتبدأ معها وحدات الجيش في السيطرة على مفاصل الدولة، وهو ما كان لها في ساعات قليلة. ومع هذا الحدث تحولت الأغنية إلى رمز للثورة والديمقراطية في البرتغال، ولا يزال يتغنى بها عشاق الحرية والديمقراطية في أوروبا في جلسات السمر والحنين.
كانت هذه الأغنية، التي تتحدث عن الأخوة والمساواة وتؤكد أن الشعب هو صاحب الكلمة العليا في مصيره، قد منعها النظام البائد منذ أن أطلقها الفنان جوزيه أفونصو. وظلت أسيرة إلى أن غنتها متحديةً النظام المطربة البرتغالية العالمية أماليا رودريغيش، أم كلثوم البرتغال، في أكبر مسارح لشبونة قبل الثورة بشهر في حضور بعض ضباط "حركة القوات المسلحة" الذين كانوا قد اقتنعوا بضرورة تفجير ثورتهم، فاتخذوها كلمة سر بمباركة الكنيسة الكاثوليكية. وقد اتخذت إشارة إنطلاق الوحدات العسكرية التي أحاطت بسرعة بالعاصمة، لشبونة، وبعد مقاومة ضعيفة احتلت المطار والاتصالات الهاتفية والإذاعة والتلفزيون والوزارات. تلاحقت الأحداث بسرعة مذهلة وفي المساء كان الطاغية مارشيلو كايتانو قد استسلم لسادة البلاد المؤقتين، وفي اليوم التالي خرج إالى المنفى.
مع سيطرة القوى العسكرية اليسارية على مقاليد السلطة احتفل الحزب الشيوعي بكل قواه بعيد العمال بعد سنوات طويلة من الملاحقة وقام العمال برفع الرايات الحمراء والتف الشعب حولهم. كان الشيوعيون هم القوة الأكثر تنظيمًا وفاعلية، وساندتهم الطبقة العمالية. إلا أن الكفة مالت، سنوات قليلة، لصالح الحزب الاشتراكي بعد أن عاد قادته من المنفى فنظموا صفوفهم نفسه بسرعة رغم أن الحزب الإشتراكي كان ضعيفًا وبلا حضور شعبي تقريبًا عندما قامت الثورة. وسرعان ما حقق الحزب الإشتراكي نتائج إيجابية في الانتخابات النيابية وتمكن من أخذ زمام الأمور. هذا بينما تراجع الجيش شيئًا فشيئًا إلى ثكناته بعد أن سلم البلاد إلى المدنيينن الأمر الذي لم يكن سهلاً على بعض قادته، لكن دخول عالم الحريات والديمقراطية وسلامة البلاد كان أهم لغالبية قادة الجيش من السلطة. لم تكن العملية بسهلة فقد تخللتها محاولات انقلابية من اليمين ورجال النظام القديم وبعض القادة العسكريين إلا أنهم لم يفلحوا، ودخلت البرتغال عالم الديمقراطية من خلال معبر الجيش الذي ضرب مثالاً للآخرين دون أن يطمع في السلطة. وهو نموذج آخر يضاف إلى سجل العسكريين الذين قاوموا بريق السلطة، النموذج الذي يذكرنا في الوطن العربي بدور وزير الدفاع السوداني الأسبق المشير عبد الرحمن سوار الذهب، في منتصف الثمانينات، الذي شغل منصب الرئيس لفترة إنتقالية، مدتها سنة، ثم سلم السلطة إلى المدنيين، دون أن يسير وراء سراب السلطة وبريقها.
حري أن نشير إلى أنه إذا كانت الأندلس، زمردة تاج الحضارة البشرية، ترتبط في مخيلتنا الجمعية حصريًا بإسبانيا، فإننا نتناسى الجزء الآخر من هذه البلاد التي ترعرعت فيها حضارة التسامح والإزدهار العربية الإسلامية، البرتغال، البلد الذي يعرفه بالكاد قلة من أبناء يعرب، وإذا عرف عنه شيئًا فلا يدرك أنه كان جزءًا عزيزًا عن تلك الجغرافية النائية، في أقصى نقطة في غرب أوروبا (1).
لهذا كان أملنا في أن نتخذ تجربة هذين البلدين القريبين منا، تاريخيًا، نبراسًا نستفيد منه في محاولة الخروج من التخلف والتردي صوب الحرية والعدالة الإجتماعية والديمقراطية، إلا أن الظروف آلت إلى مرافئ آخرى إذ جاءت الرياح بما لا تشتهيه السفن في هذه الفترة المربكة، وقد نضطر للانتظار قليلاً قبل الولوج في عالم الحريات والديمقراطية.
هامش:
(1) تمثل البرتغال حالة فريدة في علاقاتنا بالغرب، فرغم قربها من الشعوب العربية بحكم التاريخ المشترك في الأندلس إلا أننا لم نهتم بها، واقتصر اهتمامنا على الشطر الآخر من الأندلس، إسبانيا. وهو أمر يشكو منه البرتغاليون أنفسهم، ويفصحون عنه في أي لقاء. ومن الملفت للنظر أن البرتغال اعتذرت للعرب عن طردهم من الأندلس، وكان ذلك على لسان رئيس الدولة سنتئذ جورجي سامبايو في مؤتمر عربي برتغالي خضرته في لشبونة عام 1997. وهو ما حاوله العرب مع إسبانيا ولم يفلحوا.
وفي زيارات لاحقة كان عتاب البرتغاليين واضحًا، لكنها لا تزال الشقيقة الأوروبية المنسية. وكان للمصريين حضور ملحوظ في البرتغال أيام الحضور العربي في الأندلس كلها، خاصىة في منطقة شلبة، ويعتقد البعض أن اسم شلبية المصري جاء من تلك المنطقة، وإن لم يثبت هذا الأمر علميًا. لكن المثبت أن كلمة البرتقال جاءت من البرتغال، إذ كانوا أول من جاء بهذه الثمرة من آسيا وفي طريقهم إلى أوروبا ارتبط الاسم بهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ثورة
ناس حدهوم أحمد ( 2014 / 4 / 24 - 14:23 )
لو لم يقم الإخوان بإفساد الثورة المصرية وركوبها للقبض على السلطة التي كانت هي الهدف الأسمى لهم لكانت الثورة المصرية قد أخذت طريقها نحو الحرية والكرامة . ولولا القوات المسلحة التي تحلت بالمواطنة لكانت العصابة قد جرت البلاد إلى حرب أهلية المدمرة . فاليوم وقد تم تغليب القوى الشعبية على العصابة وبفضل الجيش فإن مصر ستكون بخير ولن يصيبها مكروه لأن العصابة توجد حيث يجب أن تكون إلى أن تتراجع عن غيها وتعتذر للشعب المصري عن جرائمها الجنائية .


2 - مصاصو الدماء
مصطفى علي ( 2014 / 4 / 25 - 12:42 )
حرف الثورة عن مسارها الطبيعي شارك فيه اطراف ثلاثة: الفلول والجيش والإخوان كل طرف له مصالحه الضيقة والعريضة دون النظر في مصالح الوطن. تأملوا يا يقوله صاحب المقال حول ما ألت إليه الأمور في البرتغال، فكان حريًا بالمصريين، من منطلق تاريخهم ومسؤوليتهم الجيوسياسية، أن يصبحوا نموذجًا يحتذى به في المنطقة العربية لإخراج البلد من دائرة الفقر والاستجداء من الخليح العربي. ماذا دها مصر؟!! الجواب في يد من سرقوا ويسرقون قوت الشعب البائس الذي يستجدي رزقه في معظم دول العالم. إنه لعار على اللصوص ومصاصي الدماء أن يكون البلد والشعب في هذا الوضع.

اخر الافلام

.. Ynewsarab19E


.. وسط توتر بين موسكو وواشنطن.. قوات روسية وأميركية في قاعدة وا




.. أنفاق الحوثي تتوسع .. وتهديدات الجماعة تصل إلى البحر المتوسط


.. نشرة إيجاز - جماعة أنصار الله تعلن بدء مرحلة رابعة من التصعي




.. وقفة طلابية بجامعة صفاقس في تونس تندد بجرائم الاحتلال على غز