الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تفجيرات لندن: يد الإرهاب عمياء ولكنها ليست خارج التاريخ

صبحي حديدي

2005 / 7 / 16
الارهاب, الحرب والسلام


وزير الدفاع البريطاني آدم إنغرام، في تعقيبه على تصريحات النائب جورج غالاوي حول الصلة بين مشاركة بريطانيا في احتلال العراق وأعمال الإرهاب التي شهدتها لندن مؤخراً، ذهب إلى أقصى البلاغة، السوداء الدامية التي لا تتخفف من نبرة التشهير، فقال: "لقد غمس لسانه المسموم في بركة من الدماء"! والحال أنّ هذا الخطاب بالذات هو آخر ما تحتاجه بريطانيا الجريحة عموماً، والأرجح أنه آخر ما يصلح عزاء لذوي الضحايا والجرحى والمفقودين... إذا كان يصلح أساساً.
وإذا صحّ، من جانب أوّل، التذكير بأنّ يد الإرهاب عمياء غالباً في ما يخصّ الضحايا لأنها عشوائية في إقامة الموازنة بين الغاية والوسيلة، فإنّ من الضروري تالياً التذكير بأنّ المنخرطين في مختلف مستويات الإرهاب ليسوا دائماً قتلة محترفين تخرّجوا من مدارس البلطجة والجريمة المنظمة. ليس بهم، أو بغالبيتهم الساحقة، مسّ من جنون متأصل يجعلهم في حال من البغضاء المطلقة ضدّ الإنسانية جمعاء (كما يوحي أمثال دانييل بايبس مثلاً)، أو ضدّ "النموذج الحضاري الغربي" كما أوحى ويوحي أمثال جورج بوش وسيلفيو برلسكوني وخوسيه ماريا أثنار وتوني بلير. لم تكن هذه، أو ما يشبهها في قريب أو بعيد، حال أيّ من الثلاثة الذين نفذوا تفجيرات لندن، ولعلّ العكس هو الصحيح بالضبط كما تشير المعلومات التي توفرت حول تفاصيل التربية العائلية والحياة اليومية والسلوك العام والأمزجة النفسية والنزوعات الفكرية والثقافية...
غير أنّ الإشكالية قد تكمن هاهنا تحديداً، أي في باطن وضعية الإزدواج الإنكساري العميق التي يعيشها أمثال حسيب صادق (19 عاماً) وشاهزاد تنويري (22 عاماً) ومحمد خان (30 عاماً)، بين اندماج كامل أو شبه مكتمل في الحياة البريطانية والحضارة الغربية إجمالاً، وبين انسلاخ إرادي من هذه الحياة استجابة إلى اعتبارات عقائدية صرفة، لا تغيب عنها السياسة دون ريب. وبهذا المعنى تصبح بلاغة وزير الدفاع البريطاني مجرّد لغو، لأنّ إرهابيي لندن لم يفعلوا ما فعلوا (ونعلم الآن أنهم من الصنف الإنتحاري) احتجاجاً على هذا أو ذاك من أعراف الحضارة الغربية، أو لهذه أو تلك من القضايا التي تخصّ الإسلام في بريطانيا.
على سبيل المثال، في عام 1989 حين أحرق الإسلاميون المتشددون في برادفورد نسخاً من رواية سلمان رشدي "الآيات الشيطانية"، وتظاهر الملايين في مختلف عواصم آسيا المسلمة، كان عمر محمد خان 14 عاماً، وشاهزاد تنويري 6 سنوات، وحسيب صادق... 3 سنوات! أي انتهاك أخطر للدين الإسلامي شهدته بريطانيا بعد قضية رشدي؟ لا شيء عملياً، باستثناء السياسات البريطانية المؤيدة للولايات المتحدة في فلسطين وأفغانستان والعراق والشيشان، وقبلها في البوسنة. وفي هذه المناسبة، هل من المبالغة أو التهويل أو الإفراط في التأويل أن يستنتج المرء المغزى، بعض المغزى فقط، في أن تترافق تفجيرات لندن مع الذكرى العاشرة لمجزرة سربرنيتشا التي سقط فيها 7000 ضحية من المسلمين؟
وقبل الإنخراط التامّ في صفوف الفيالق الأمريكية الغازية للعراق، لم يترك بلير فرصة تفوته للإعراب عن متانة الغرام الأنغلو ـ أمريكي، الذي جمعه مع الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، ويجمعه اليوم أيضاً مع الرئيس الأمريكي الحالي جورج بوش. ولقد حدث مراراً أنه زاود على الأمريكيين أنفسهم في تصعيد "الحرب النفسية"، خصوصاً حين نشرت حكومته تقارير سرية عن ترسانة عراقية مرعبة تبدو وكأنها خرجت بغتة من مغارة على بابا: صواريخ سكود سليمة مصانة، وأطنان من المواد الكيماوية الجاهزة للتحوّل إلى أسلحة كفيلة بإبادة "سكان الأرض بأكملهم"، كما جاء في النصّ الحرفي للتقرير!
وفي عام 1990، عشية "عاصفة الصحراء"، لم تكن مارغريت ثاتشر مضطرة إلى مديح جورج بوش الأب، بل كان العكس هو الصحيح لأنها اضطرت إلى توبيخه. في عام 1998 لم يكن توني بلير سعيداً بإغداق المدائح على بيل كلينتون فحسب، بل كان أيضاً مضطراً إلى السكوت عن فضائح الرجل المالية والجنسية. ولقد وجد نفسه منضوياً في صفّ المدافعين عن كلينتون، مراهناً على رئيس مثخن بالجراح، مقامراً بخيانة "مدوّنة السلوك" التي بشّر بها طويلاً، هو المعروف بدفاعه المرير عن "القِيَم العائلية"، وهو الذي يسعى إلى تجسيد المعجزة الأخلاقية للبريطاني النيو ـ فكتوري السائر على السبيل الثالث بين اليمين واليسار!
وقبل أقلّ من عام شهدت لندن ندوة حول احتلال العراق جرت، للمفارقة، في "متحف الحرب الإمبريالية"، شارك فيها هارولد بنتر، الكاتب المسرحي البريطاني الكبير وأحد أبرز الأصوات البريطانية والعالمية المناهضة للحرب. وقد جاء في كلمته، وأقتبسها هنا مجدداً بشيء من الإسهاب: "الحرية، الديمقراطية، التحرير... هذه المصطلحات، كما ينطق بها بوش وبلير، تعني في الجوهر الموت، والخراب، والفوضي. وتوني بلير يطلق على المتمرّدين [في العراق] صفة الإرهابيين. ومن الواضح أنه يوجد عدد من أبناء الجنسيات الأجنبية دخلوا إلى العراق منذ الغزو، ويرتكبون أعمال إرهاب وحشية. ولكنّ جوهر التمرّد هو المقاومة العراقية المتعاظمة ضدّ غزو عسكري وحشي بربري. إنّ نحر امرىء عمل بربري. ولكنّ في باب البربرية أيضاً أن تلقي القنابل العنقودية على أناس أبرياء تماماً، وأن تمزّقهم إرباً. 200 ألف مدنيّ على الأقلّ قُتلوا في العراق، وآلاف عديدة تعرّضوا لتشويه مدى الحياة. وعلى شاشات التلفزة، نحن لا نرى أجساد الأطفال الممزّقة".
ولكنّ هارولد بنتر معنيّ كذلك بفضح البربرية الأكبر قبل البربرية الأصغر، ولهذا فإنه يتابع السجال: "إنّ غزو الولايات المتحدة للعراق لم يكن غير مبرّر أبداً فحسب، وغير شرعي وغير مشروع فقط، بل كان فعلاً إجرامياً هائل النطاق، ومن نوع ستكون له عواقب عميقة على امتداد العالم بأسره. لكنّ الغزو كان أيضاً منسجماً تماماً مع السياسة الخارجية الأمريكية، المعلنة والمتناغمة. إنّ السياسة الخارجية الأمريكية تهدف إلى "الهيمنة الساحقة الماحقة" وهذا هو مصطلح الإدارة الأمريكية، وليس من اختراعي. والهيمنة الساحقة الماحقة تعني السيطرة علي السماء والبحر والأرض والفضاء. وكذلك، بالطبع، تعني السيطرة علي موارد العالم".
ويختم هارولد بنتر بالقول: "الولايات المتحدة تملك من أسلحة الدمار الشامل أكثر ممّا يملك العالم مجتمعاً. وأمريكا الآن بالذات تطوّر أنظمة نووية جديدة تستعدّ لاستخدامها كيفما اتفق. إنها لا تكترث البتة بموت الآخرين، وسوف تفني كلّ مَن يقف في طريقها. إنها الأمّة الأكثر ترهيباً للبشر، الأشدّ قوّة، والأكثر عرضة لكراهية الشعوب على امتداد التاريخ. وغزو العراق كان عملاً من أعمال إرهاب الدولة. وهذه هي حال بوش وبلير، الإرهابيين الحقيقيين. وإنني مؤمن بوجوب إحالتهما إلى محكمة العدل الدولية، ومحاكمتهما كمجرمَي حرب"...
بلير جزء لا يتجزأ من إرهاب الدولة هذا، وحين وقعت أعمال لندن الإرهابية الأخيرة كانت هذه صورته في أعين البريطانيين: "مجرم حرب" حسب هارولد بنتر، و"كاذب" حسب أسبوعية "الإيكونوميست" فضلاً عن تسعة أعشار خصومه، "منافق" حسب أهل اليسار في حزبه، و"صوت سيّده" الأمريكي حسب استطلاعات الرأي البريطانية، و"حليف صادق" حسب البيت الأبيض... فلماذا ينبغي ان تكون صورته افضل في أعين أمثال حسيب صادق وشاهزاد تنويري ومحمد خان؟
أقوال بنتر، ومثلها تصريحات غالواي الاخيرة، ليست إذاً من قبيل غمس اللسان في بركة الدماء كما يهتف وزير الدفاع البريطاني، الذي تعيد بلاغته التذكير ببلاغة أخرى شهيرة و"مزمنة"، إذا جاز القول، في سياقات مماثلة، أو في سياقات افتراضية، أو حتى بلا سياقات نهائياً. عشية "عاصفة الصحراء" أنذر بايبس العالم بقدوم "جائحة الإسلام"، وحملت إحدى مقالاته العنوان الدراماتيكي المستمدّ من ثقافة مرابطة الجيوش الإسلامية أمام أسوار فيينا قبل مئات السنين: "المسلمون قادمون!"، وجاء فيها: "هنالك أساس واقعي للخوف من الإسلام. فمنذ موقعة أجنادين سنة 634 وحتى حرب السويس سنة 1956 كان العداء العسكري هو المهيمن علي العلاقة المسيحية ـ الإسلامية. ولقد ظهر المسلمون في إهاب العدوّ الرئيسي منذ "أغنية رولان" وحتى "قصائد أورلاندو"؛ ومنذ مسرحية "السيد" وحتى رواية "دون كيخوتة". وفي واقع الأمر لم يتوصّل الأوروبيون إلى بناء دولتهم إلا عن طريق طرد المسلمين، بدءاً من استعادة إسبانيا في مطلع القرن الثاني عشر وحتى حرب استقلال ألبانيا سنة 1912".
لكنّ بيت القصيد عند بايبس كان ويظلّ "الإرهاب الإسلامي"، وعنه يقول: "تجب الإشارة إلى أنّ المسلمين دخلوا في غيبوبة خلال القرنين الماضيين، وهي محنة أهل الله الذين وجدوا أنفسهم في أسفل الركام. التوترات كانت هائلة والنتائج بالغة الألم، ولا غرو أنّ بلاد الإسلام تضمّ معظم الإرهابيين والحجم الأقلّ من الديمقراطيات في العالم". ولكي لا نقع في سوء فهم يجعلنا نظنّ أنّ الإرهاب مقيم في دار الإسلام وحدها، يتابع بايبس إيضاح المشهد هكذا: "مجتمعات أوروبا غير مهيأة لهذه الهجرات الواسعة من سُمر الوجوه الذين يطبخون أطعمة غريبة ويلتزمون بمعايير مختلفة للصحة والحياة. المهاجرون المسلمون يحملون معهم شوفينية خاصة تعرقل اندماجهم في التيار العام لمجتمعات أوروبا الغربية. إنهم، في عبارة أخرى، يهددون فيينا من داخلها أكثر من تهديدهم لها عند البوابات".
والثابت أنّ خطاب بايبس تغيّر، بعد أكثر من عقدين، نحو الأسوأ وبات أكثر ضحالة وسطحية وسوء طوية. ومن حيث المبدأ فإنّ الأمريكي هو آخر من يحقّ له الحديث عن عنف معمّم أو مستأصل في النفوس، وليست الولايات المتحدة سوى حاضنة العنف وصانعة العنف، منذ مذابح الهنود الحمر وحتى حرب إبادة العراقيين، مروراً بقنبلة هيروشيما ومذابح فييتنام. غير أنّ أوروبا المعاصرة، خارج أمريكا، ليست أقلّ باعاً في ممارسة العنف المعمّم المجّاني، وفي اللآن ذاته استنهاض تنميطات العصور الوسطى في تفسير سيول الدماء وأكوام الجثث... اتكاءً، بصفة تكاد أن تكون حصرية، على تأثيم جميع الإسلام وجموع المسلمين. هذا هو الخطاب الذي أخذ يتعالى في بعض وسائل الإعلام البريطانية، مبتدئاً من تأثيم العرب عموماً، وتعميم نمط الإرهابي الإنتحاري الذي يُفترض أنّ فلسطين صدّرته إلى مشارق الأرض ومغاربها، ومنتهياً إلى تجريم مسلمي بريطانيا (بعد انكشاف هوية الإرهابيين)، ومسلمي العالم بأسره استطراداً.
ويبقى التشديد على أنّ يد الإرهاب عمياء في كلّ ما يخصّ التمييز بين الغاية والضحية، وبين الوسيلة والجريمة، والمآل والمآل المضادّ المعاكس تماماً. غير أنّ يد الإرهاب ليست خارج التاريخ البتة، وليست سابحة في سديم مطلق من االتنميطات المسبقة والكليشيهات الجاهزة، وليست منعزلة عن تلك السياقات الدقيقة العميقة ذات الإرتباط الوثيق بما يجري على الأرض من وقائع، وما يُصنع من تاريخ، أو تواريخ بالأحرى، في الغزو والإخضاع والهيمنة والإمبراطورية. ومن المحزن أن يصحّ، اليوم في بريطانيا، ذلك العبث الأسود الأليم الذي وصفه برنارد شو قبل عقود طويلة في عبارته الشهيرة: "أرى بعض ما يجري، فأقول: لماذا؟ وأتخيّل وقوع ما لا يمكن أن يقع، فأقول: ولِمَ لا؟"...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جهود إيجاد -بديل- لحماس في غزة.. إلى أين وصلت؟| المسائية


.. السباق الرئاسي الأميركي.. تاريخ المناظرات منذ عام 1960




.. مع اشتعال جبهة الشمال.. إلى أين سيصل التصعيد بين حزب الله وإ


.. سرايا القدس: استهداف التمركزات الإسرائيلية في محيط معبر رفح




.. اندلاع حريق قرب قاعدة عوفريت الإسرائيلية في القدس