الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما يفعله البهاضمة.. يتكرر

حسين الرواني

2014 / 4 / 28
الادب والفن




أسلم خضر نفسه الى يأس من أن يعود كما كان، صاحب ذلك الخاطر الذي كان يستمتع بكل انفعالاته وتقلبات أمزجته، وعوالمه التي لم يكن قادرا على العيش معها وفيها، دون ان يغترف من معانيها ما يلبسه اجمل ثياب الالفاظ، لكنه تفاجأ قبل ما يقارب تسعة أشهر، في عطلة عن العمل استمرت ثلاثة ايام متوالية، تفاجأ بأن معبده الحزني ذلك، المنتصب على مدى خاطره، ما زال شغالا، وأنه ما زال بإمكانه ان يختلي فيه كما في الليالي والأيام الخوالي.
تفاجأ اليوم أيضا، بأن امعاءه ما زالت قابلة للاعتصار، حين يسمع خبر ثانيا عن دفن سلامة في تلك المقبرة الجماعية، إنها الوجوه نفسها للبهاضمة الذين تجاوز انتشارهم الاماكن المرئية للبصر البشري، فمنذ فترة ليست بالقصيرة، اصبح خضر يرى وجوههم تشخص له في الهواء، كأنها أشباح، وهذا الدفن للمرة الثانية، يحمل بصمات أكف تلك الاشباح، انها الطريقة البهضامية، في إذاقة خضر كؤوس اللوعات والمرارات، يحرصون كل الحرص، على صناعة مآس لا يلتاع بها شخص سواه، يعرفون نقطة ضعفه جيدا، انه يحب ان ينصب سرادقات العويل في معبده الحزني، دون ان يعرف احد ذلك، ودون أن يشعر احد، وقد لا تؤلم حادثة الدفن الثاني احدا، حتى سلامة نفسها، لكنه يعرف كيف ستصبح هذه الحادثة، من مسلسل فقدانه الأبدي المتكرر، الذي سيواصل تكراره، ولن تسمع سلامة صرخات نشيجه السري المخنوق، في غرفته تلك، التي تحتفظ زواياها، بصور ثابتة من طيف سلامة الذي يستحضره خضر، بين ليال وأخرى.

لا يتذكر خضر عدد المرات التي شكر فيها نعمة الخيال، وما تقدمه له من فسحة رحبة، ليخلق الدنا التي يحب العيش فيها، يصنع في دناه المتخيلة ما يحب، ويلتقي بكثير ممن فارقهم، من اصدقاء طفولته، وصباه الاول، سولاف، نور غازي، دينا، ايناس، نور صبر، ثم معشوقة شبابه، سهام، لكنهن بأجمعهن، محض ذكريات صبيانية طائشة، اذا ما قورنَّ بحبه الذي غير كل شيء في حياته، حبه سلامة.

حادثة الدفن الثاني، تشبه الاولى، في هذه الفجائية، الصادمة، التي تترك خضر في حالة بين الذهول، وبين الاحساس بأن الحيز الذي يشغله جسده النحيف من المكان، يضيق شيئا فشيئا، وشعور باعتصار أمعائه التي تختنق في جوفه للمرة الثانية، وبينما هو في حالة كهذه، معلق بين الإحساس، وعدمه، تجهل سلامة حالته، وحين ينتبه الى جهلها ما يعانيه، تنتابه رغبة في مغادرة المكان والزمان، ومغادرة الذكريات، لكن أكفاً صلبة الاصابع، أكفاً كبيرة تشبه أكف العماليق، تقبض بشدة على أوردته وشرايينه، يتعذب، يتألم، حتى يصيبه الزهد في رغبته في مغادرة جغرافيا لحظة الصدمة، ومشهد ميول الساعة حينها، ليحل محل هذا الرغبة التي كانت حتى وقت قريب، حلا متوهما غير مجد، للفرار من المشهد المكرر لدفن سلامة، شعور جبلي الحجم، ساخن، بالحسرة، والندم، حسرة في عدم تحقق أمنيته التي طالما تمناها كلما التقت عيناه بعيني سلامة، كان يتمنى دوما ان يتمكن بوسيلة او بأخرى، تأخير وصول نبأها المفجع، تأخيره قدر ما يستطيع، تأخيره الى اجل من الافضل ان لا يحل وخضر على قيد الحياة، لم تستجب آلهة الامنيات السرية، التي لا تتجاوز خاطر متمنيها، لكل توسلاته المكتومة، وغصَّ تعقله وحكمته اللقمانيان، وعجزا عن ابتلاع خيبة الامل هذه، فخضر لم يكن غافلا عن احتمال وصول النبأ، كان موقنا بأنه سيأتي في يوم من الايام، حتى أنه تخيل في يوم من الايام، مظاهر الحياة، والمكان والزمان اللذين سيشهدان وصول الخبر، بل تخيل شخص ناقله، ولكنه قطع على نفسه هذا المشهد المتخيل في نادرة لا يتذكر خضر حدوث مثيلها في ساعات تخيله الطويلة الكثيرة في حياته، حتى تخيل وصول الخبر كان يؤلمه، كم كان خضر اذن يحب سلامة.


لم يكن ولع خضر بالتخيل، يفوق خبرته في التنبؤ، حتى أنه ترك عادته في الاستعجال الذي عرف عنه في كثير من شؤون حياته، تركها مع ما يجب أن يصدر منه من رد فعل اذا حدث على ارض الواقع فعلا، شيء مما يقع في ضمير تنبؤاته، التي ينتسج بعض منها في لحظات تخيله، هذا التمازج بين التنبؤات، والتخيلات، اشعره يوما بصعوبة التفريق مستقبلا بينهما. اصبح هادئا امام احداث الواقع، التي سئم مسبقا تخيلها، او التنبؤ بها، كان يختلف عمن حوله، هذا ما انتبه له في وقت متأخر، ومما يختلف فيه عنهم، انه مهما بلغ حجم انفعالاته النفسية، وحرارة لوعته التي تفور بين جوانح خاطره، فإن رد فعله الظاهري كان باردا، جليديا، الى درجة انني أراهن الان على انه لو نابته اعظم مصيبة في الدنيا، فلن يصدر منه الا تغير ملامح وجهه، لأنه لم ولن يستطيع اخفاء شيء يظهر على وجهه، ولا أن يظهر على وجهه شيء لا يشعر به حقيقة، ولأن هذا الغيم الجاهم، الذي ينتشر على وجهه رغما عنه كلما آلمه شيء، ليس صوتا فيخنقه في حنجرته، ولا دمعة فيقيدها بأغلال رمشيه، ولا أنينا يحتبسه في صدره الذي بدأت بعض شعراته بالابيضاض في الشهور الاخيرة، ملامح الانفجاع وبقايا الشعور بالصدمات، ارتسمت على وجهه لتكون هي ملامحه الثابتة، رغم ان تأثير الفواجع كان مؤقتا، بل إن أشدها ألما، وهو حادثة الدفن الثاني، صارت تهون عليه شيئا فشيئا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع