الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شجرة الماس العتيقة ! أو هل ينتصر الغباء ؟

إبراهيم إستنبولي

2005 / 7 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


( بمناسبة الأحداث المؤسفة في القدموس )
تحية إلى د . ياسين حاج صالح و د . ثائر دوري
و كل مثقف ديموقراطي

في نهاية الستينيات - بداية السبعينيات من القرن العشرين ، أي قبل حوالي 30 سنة ، و لما كنا ما زلنا أولاداً صغاراً ، لم يكن يوجد في قريتنا ، بالرغم من كبرها نسبياً ، سوى زواريب ضيقة تسمح بمرور سيارة عادية من نوع لاندروفر في اتجاه واحد فقط . مما كان يجعل المرور صعباً إذا صادف و " التقت السيارة مع شخص آخر بمفرده أو مع حماره " في الطريق . في تلك الفترة بدأ العمل من أجل توسيع الطرق الموجودة في القرية و شق طرق جديدة . و كانت توجد في الطريق إلى بيتنا شجرة ماس عتيقة تقف عملاقة شامخة ، و بجانبها يوجد ضريح صغير مهمل محاط ببعض الحجارة ( مثله مثل الكثير من الأضرحة ، التي تشكل جانباً مهماً في تراث المنطقة .. إذ تعتبر بمثابة تشريفات لرجال مجهولين و لكنهم طيبين حسب الحكاية الشعبية .. أي أولياء يتشفع الناس بهم عند الله ) . و عندما انتشر خبر قدوم البلدوزر ، الذي سيقوم بتوسيع الطريق و اقتلاع شجرة الماس ، سارع جارنا صاحب الماسة الشامخة – و كان يعرف ببأسه و بشجاعته – و تمدد على الطريق ليمنع البلدوزر من اقتلاع الشجرة العزيزة على قلبه . و لكن بعد تدخل الوجهاء و المسؤولين انتصرت الآلة الجبارة و اقتلعت شجرة الماسة الخضراء أبداً و اقتلعت معها ضريح المؤمن إياه . و في اللحظة ، التي هوت فيها الشجرة و تحطم القبر ، سمعتُ عجوزاً يهمس مع بعض القلق : " العزّة لله ... و للبلدوزر !! " .
لم انس تلك العبارة طيلة حياتي . و كنت أروي الحكاية من وقت لآخر مع الإشارة إلى أن الرجال يومئذ لم يكترثوا لاقتلاع الضريح بقدر اهتمامهم و حزنهم على اقتلاع شجرة الماس تلك .
لقد كانت أول و آخر شجرة ماس رأيتها و أكلتُ من ثمارها .
ثم شاءت الظروف أن أسافر في عام 1976إلى موسكو للدراسة ، و عندما سنحت لي الظروف بزيارة البلد في عام 1984 اكتشفت أن الضريح موجود في مكانه . و قد روى لي أحد الأصدقاء قصة إعادته :
في يوم من الأيام أخبرت امرأة بسيطة زوجها أن روح صاحب الضريح زارتها بالمنام و عاتبتها ( و ربما هددتها ) على ما فعله الناس بـ " التشريفة " . و لم يمض وقت طويل حتى أعاد الزوج " المؤمن " القبر إلى مكانه مع تحسين واضح في بنائه و منظره العام .
ربما كان ذلك مع نهاية السبعينيات أو حوالي ذلك . لكن على الأرجح أن ذلك تزامن مع الأحداث التي شهدتها سوريا في تلك الفترة . مهما يكن ، لقد كانت تلك الحركة بمثابة المؤشر إلى التغير الكبير الذي طرأ على تفكير السوريين : ابتعاد عن السياسة نحو مزيد من التدين ، و الأصح التمسك بالانتماء الديني . و قد راحت هذه الظاهرة تنمو و تتعمق بشكل متواصل و مكثف خصوصاً مع تزايد القمع و التضييق من قبل السلطة " البعثية العلمانية " على الحركات و على الأحزاب اليسارية ، و بالأخص الشيوعية و القومية المعارضة . و استمرت الحال على هذا المنوال من دون أن تكلف السلطة نفسها أن " تتوقف للحظة " و أن تتأمل النتائج الممكنة ، التي سوف تترتب على هذه السياسة قصيرة النظر . إلى أن وصل الأمر بنا أن نشهد أحداثا بالغة الخطورة على مستقبل الشعب السوري و على مصير الوحدة الوطنية ، التي طالما تغنت بها أبواق الدعاية الرسمية بطريقة ببغائية و غبية حتى الآن .
و إن ما يصلنا من أخبار سواء عن أفعال محصورة في حمص أو تصرفات " مسعورة من قبل رعاع " في القدموس أو أعمال همجية في مناطق الجزيرة ، أو هنا و هناك – إنما يشير من جهة إلى المستوى الخطير الذي بلغه التمترس الطائفي و الاحتقان المذهبي ؛ و من ناحية ثانية - إلى غياب سياسة رسمية واعية و مدروسة لنزع عوامل التوتر و الاحتقان أو تخفيفها بالدرجة التي تنتفي معها خطورة أن يتحول شجار عائلي إلى نزاع مذهبي أو طائفي .. و إن هذا ، بالتأكيد ، لا يتحقق بوسائل أمنية فقط على أهميتها إذا ما استخدمت في الحدود الضرورية و المعقولة ؛ بل نشدد على أهمية الدور ، الذي يمكن و يجب أن تلعبه مؤسسات المجتمع المدني و الأهلي ، و على أن هذا يتطلب إلغاء القيود المفروضة على نشاط مختلف المنتديات السياسية و الثقافية عموماً ، و العلمانية منها خصوصاً . بل و إنني ازعم أننا في هذه المرحلة من تاريخ مجتمعنا بحاجة ماسة إلى إعادة التوازن في الحياة السياسية و الثقافية و الاقتصادية بعد أن حصل خلل واضح في ذلك التوازن من خلال الميل المتزايد نحو أسلمة ، و الأصح إقحام العامل الديني بكثافة في جميع نواحي الحياة المجتمعية ( و يجب أن نقر بوجود قصور حقيقي - عن عمد أو عن جهل ، لا فرق - في تصور الجهات الرسمية بهذا الخصوص ) . و أنا أعتقد أنه من واجب السلطة رعاية و دعم تأسيس منتديات و مؤسسات سياسية و اجتماعية على أسس وطنية بعيداً عن أي انتماء مذهبي أو ما شابه ، لكي يصير إلى حصر الخلافات في إطار سياسي بحت ، دون أن يجرّنا الدهماء و الرعاع نحو الاختلاف على السماء .
فهل بقي هناك أمل في أن نعيد شجيرة ماس إلى طريق حياتنا لتحلَّ مكان " التشريفة " ، التي لا نعرف و لن نعرف صاحبها ؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. معدن اليورانيوم يتفوق على الجميع


.. حل مجلس الحرب.. لماذا قرر نتنياهو فض التوافق وما التداعيات؟




.. انحسار التصعيد نسبيّاً على الجبهة اللبنانية.. في انتظار هوكش


.. مع استمرار مناسك الحج.. أين تذهب الجمرات التي يرميها الحجاج؟




.. قراءة عسكرية.. ما مدى تأثير حل مجلس الحرب الإسرائيلي على الم