الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفجوة بين المثقفين والمجتمع: خرائط البداوة والشرعية

فلاح رحيم

2014 / 4 / 30
مواضيع وابحاث سياسية


لم يسبق لمشكلة الفجوة بين المثقفين والمجتمع أن طُرحت كما هي مطروحةٌ علينا في يومنا هذا. فهي تكاد تتقدم في وعي المثقفين كل ما عداها من مشاغل وعلل. ما طبيعتُها؟ أهي علةٌ طارئة لابد من علاجها لتحقيق التماهي التام بين الطرفين أم هي مسافةٌ حتمية لا يستقيم النقد والتقويم بدونها؟ إذا صحّ أن الفجوة حتميةٌ، وسوف تجادل الدراسة لإثبات ذلك واستقصاء جذوره في تقاليد فكرية متعددة، فما السبيل إلى ضبطها وتنظيمها وتحويلها من فرسخ اغتراب إلى فسحة اغناء للطرفين؟ تبدأ هذه الدراسة من الوقائع العربية العجيبة التي استُهّل بها القرن الحادي والعشرون وقلبت الكثير من المفاهيم المحورية في حياتنا، أخرجتها من سراديب السكون والوجوم الطويلة حيث تَعطّل فعلُها حتى ملّها الناس وفقدت فاعليتها. وأهم هذه المفاهيم ثلاثة هي المثقف، والسلطة، والمجتمع، نشهد اليوم تحولات عميقة في طبيعتها وراهنيتها، وفي المسافات الفاصلة فيما بينها. ما الذي تغيّر فيها وهل من خرائط؟ كل هذا يدفعنا إلى مراجعة البديهيات: مفهوم الثورة وشروطها وظرفيتها، طبيعة الفجوة في التقاليد النقدية المختلفة: الليبرالية والماركسية وما بعد الحداثة، أهمية مفهوم الشرعية في ضبط هذه الفجوة وإطلاق إمكاناتها النقدية لدرء مخاطر السقوط في بداوة فكرية منفلتة، أنماط الشرعية الثلاثة: الثورية والدينية والديمقراطية، المثقف الفرد المتشبث بالثقافة بديلاً عن الأيديولوجيا، الحشود التي كسرت حاجز القهر وانفلت عقالها، وبوصلة المثقف في التمييز بين مفهومي الحشد والغوغاء. ترمي الدراسة إذن إلى مراجعة البديهيات التي أسقمتها بداهتُها من أجل بثّ العافية فيها وفتح مساربها المغلقة على حيوية الوجود الاجتماعي المسؤول دون تفريط بلحظة النقد التي هي قوام مشروع كل المثقفين.
أول الاعتراضات الشائعة على التحولات العربية أنها لم تنطلق من فكر فلسفي وسياسي ناضج يجعلها تعي أهدافها. وكعادة سجالاتنا تبقى هذه التهمة غامضة غير محددة، فهل المقصود بهذا الفكر المفتقد برنامجاً سياسياً واضحاً أو تصوراً دستورياً واعياً؟ يجادل بول هـ . خان، أستاذ القانون في جامعة ييل، في كتابه "اللاهوت السياسي: أربعة فصول جديدة في مفهوم السيادة" أن الثورات جميعاً تمثل استثناءً يكسر القوانين ، وهي تتسم لطبيعتها بعنصر المفاجأة وتحدي كل الحسابات. وهو ما يعني أن الثورات تفتح فضاء غير متوقع يحفل بالحركية والتحولات السريعة، وهي لا تكتسب هويتها كثورات قبل وقوعها أو حتى بعد اندلاعها مباشرة. إن ما يمنح هذه الأحداث الكبيرة هويتها الثورية يعتمد أساساً على قدرتها اللاحقة على وضع قوانين تحكمها ودساتير خاصة بها تصبح مصدر قدسيتها بوصفها فعلاً تأسيسياً يضفي القداسة على الدنيوي العابر . ويرى خان أن العلاقة وثيقة بين الثورة والدستور فهو يمثل حقيقة الثورة وإذا ما أخفقت في إنتاجه كانت مجرد اضطراب طارئ، أو خيانة لا تغتفر، أو عنفاً إجرامياً. الثورة الأمريكية عام 1776 مثلاً ظلت حدثاً مضطرباً لا شكل له ولم تتخذ طابعها الدستوري وتتبلور ملامحها إلا في أعقاب الحرب الأهلية الأمريكية، أي بعد حوالى القرن. والأمر يتعلق بعملية ممارسة ضرب من التخييل السياسي والاجتماعي لحسم العلاقة بين الثورة وشكل الدولة الناجمة عنها. عندما اندلعت الحرب الأهلية الأمريكية ضد الانجليز لم تكن غايتها كتابة دستور جديد أو تأسيس هوية جماعية جديدة، بل مقاومة الطغيان ودفاع المواطنين عن حقوقهم بوصفهم من الانجليز. بالرغم من ذلك اتجّه تطور الأحداث ونشاط الفاعلين بالحدث نحو ما صار يُدعى ثورة. باختصار، الحقيقة نتاج الحدث والتجارب ولا يمكن قياس الحقيقة خارج حدود الحدث وسياقه. وهو ما يعني أن من المبكر إطلاق صفة الثورة على انتفاضات الجماهير العربية بالرغم من إسقاطها أنظمة جائرة، ما سيتمخض عنه هذا التحول من تغييرات نوعية هو ما سيقرر ذلك.
النقطة الثانية التي يتمخض عنها تناول خان للثورات أنها تختلف نوعياً عن طرح الآراء وتداولها في المقهى والبيت، فهي لحظة النزول إلى الشارع حيث يضع المرء حياته موضع رهان لا تُعرف عواقبه . وهذا الحد من التضحية بالحياة من أجل قضية لا يبلغه الانسان اعتماداً على فلسفة عامة شاملة أو قيم معلقة في فضاء العدالة، بل ينطلق الناس من قضايا محددة قد تبدو صغيرة وضيقة ومن مطالب مناطقية وأيديولوجية ودينية قد تتنافى مع روح السعي إلى قيم شاملة نبيلة تسع الجميع ولا تأبه بالصغائر. لابد من ولاء محلي ينطوي على أهمية فائقة بالنسبة للأفراد ويتجاوز قيم العقل والعدالة العامة، وهو ما يعني أن الجماهير لا تخرج إلى الشوارع من أجل الغايات الليبرالية الشاملة الجميلة لجمالها، بل لولاءات محددة قد تبدو متحيزة وضيقة ولولا ذلك ما أقدم الناس على المجازفة بحياتهم من أجل التغيير. وهو ما يعيدنا إلى مآل الحدث بوصفة عاملاً حاسماً في تحديد هويته.
يعني ما أوردنا آنفاً أن ما حدث في البلدان العربية انفجار كبير عبّرت به فئات واسعة ذات ولاءات وبرامج مختلفة عن نفسها في مواجهة أنظمة مستبدة ناصبت الجميع العداء حتى تجمّع في الخندق المضاد لها خلقٌ من كل حدب أيديولوجي وصوب. وقد أنجزت هذه الانفجارات أول غاياتها بإسقاط أنظمة لم يكن أحد، قبل أسابيع من اندلاع الثورة التونسية، يصدق أنها يمكن أن تتزحزح قيد أنملة. وهي تمرّ الآن بصيرورة عسيرة سوف يتقرر على ضوء نتائجها إذا كانت هذه التغيرات تعدّ ثورات بحق أم هي مجرد استبدال استبداد بآخر من طراز جديد. لكن المؤكد أن هذه الانتفاضات الجماهيرية بما أنجزت حتى الآن قد بدأت تُحدث تحولات عميقة في مفاهيمنا الأساسية ورؤانا. وهو أمر أعقب كل انتفاضات التاريخ المؤثرة. هنالك من يرى أن انتفاضة الطلبة في فرنسا عام 1968 مثلاً هي ما أطاح بالدعاوى البنيوية التي سادت قبلها بصدد نفي دور الوعي والفاعل الإنساني في التاريخ، ومهدت السبيل إلى ما بعد البنيوية التي أقرّ معها الكثير من البنيويين أنفسهم بأهمية الوعي والفاعلين في توليد المعاني . فما هي التغيرات التي تركتها الانتفاضات العربية على حياتنا الفكرية ومفاهيمنا؟
إن أول نتائج هذه الانتفاضات أنها هزت الصور التقليدية الساكنة للوحدات الثلاث التي نحن بصددها في هذا البحث: المثقف والسلطة والمجتمع. وهو أمر يستحق وقفة خاصة وسأعود إليه لاحقاً. المظهر الثاني أن حالة الانهيار المفاجئ لأنظمة استبدادية متعسفة هيمنت على المجتمعات لعقود طويلة فسح مجالاً كبيراً لنشاط مختلف الجماعات والرؤى تتفاعل سياسياً وتتقاتل في حالات كثيرة. وهذه النقلة النوعية من المركزية الاستبدادية المطلقة إلى الحرية التي تشارف مستوى الفوضى حوّل الأنظار لأول مرة من الانشغال المزمن بمشكلة العلاقة بين المثقف والسلطة إلى انشغال جديد بمشكلة العلاقة بين المثقف والمجتمع. لقد صار المثقف المعارض جزءاً من السلطات الجديدة وتصدّرت الحكومات الانتقالية البديلة وجوهٌ معروفة بمعارضتها للأنظمة البائدة، وهكذا صارت القطبية، بدلاً من المثقف مقابل السلطة، المثقف والسلطة مقابل المجتمع. لم يعد شاغل المثقف السلطة (حيث لا أثر لسلطة مركزية قمعية واحدة بعينها) بل شاغله علاقته بالمجتمع وبالمواطن العادي بعد أن انفتحت صناديق الاقتراع بوصفها المقياس الأول للشرعية السياسية. ولا نبالغ في القول إن العلاقة مع الجمهور أكثر حضوراً في عقول الكثير من المثقفين العلمانيين العرب مثلاً من الجمهور نفسه. لم يعد المثقف ناطقاً بلسان المظلومين جميعاً، والسبب ببساطة أن هذه الجماهير لا تمضي في اتجاه أحادي بعينه. قد تجمعها تطلعات إلى الحرية والعدالة والتخلص من القمع والفساد لكن هذه التطلعات لا تنفصل في مخيلتها عن قضاياها المناطقية والأيديولوجية الضيقة التي تدفعها إلى سفك الدم دفاعاً عنها.
المظهر الثالث الذي تمخضت عنه هذه الثورات هو بروز دور المثقف المتدين الذي لم يظهر في دراسات الحقبة السابقة إلا في سياق المباحث الخاصة بالإرهاب. كان هذا المثقف جزءاً أساسياً من الحدث وصار يتصدر نتائج الانتخابات الأولى التي أعقبت التغيير في كافة الدول المعنية. وهي ظاهرة حولت الأنظار إلى العلاقة داخل صفوف المثقفين بين الصورة النمطية للمثقف بوصفه العلماني (اليساري أو القومي مثلاً) والصورة الجديدة التي صار معها المثقف التقليدي، داعية الإسلام وقيمه الأبدية، يعدّ من المثقفين الفاعلين.
تشير هذه المظاهر إلى أن التحول قد شمل العناصر الثلاثة كلها وأضاء في باطن كل واحد منها تنوعاتٍ وصراعات لم تكن تثير التساؤلات والبلبلة من قبل. فكلمة "مثقف" التي اقترنت بصورة نمطية جاهزة بينة تحولت إلى علامة دالة على شيع وجماعات متنوعة متصارعة ينفي بعضها عن البعض الآخر صفة المثقف أحياناً . وكلمة "السلطة" التي ظلت لقرون تشير إلى كيان صلب متماسك استبدادي تناثرت دلالتها لتشير إلى لا سلطات لا يحكم تنوعها امتلاك القوة المؤثرة على الأحداث بل الانتماءات الأيديولوجية والإثنية والطائفية. وهذه القوى الصاعدة الجديدة تمتلك جميعها الثقة في قدرتها على تشكيل الأحداث وفرض سلطة تعتمد قواعدها الشعبية في المقام الأول. أما كلمة "المجتمع" التي ظلت تشير إلى كيان متماسك هو الآخر يمثل مجالاً سلبياً لتنافس السلطة والمثقف، صارت تشير إلى قوة مؤثرة يُحسب حسابها دون أن يعني هذا أنها قوة تمضي إلى هدف معلوم متفق عليه. وقد يتبادر إلى الذهن أن هذه الكلمات الساكنة المستقرة قد انفجرت وضاعت دلالاتها المنسجمة المفهومة بعد الإعصار، لكن ما حدث في الواقع أن غزارة دلالاتها قد انكشفت لا غير، وأتاح لها التغيير التخلص من طبقات ثقيلة من الحجب والتقييد كانت تجثم عليها وتخنقها.

طبيعة الفجوة وحتميتها

هنالك اتفاق في الأدبيات الغزيرة المتوفرة عن موضوع العلاقة بين المثقف والسلطة والمجتمع على أن التمييز بين هذه الوحدات الثلاث أمر لازم وضروري وأن خلط الحدود بينها وتضبيبها تترتب عليه مخاطر كثيرة. ولابد ابتداء من تأسيس طبيعة الفجوة الفاصلة بين هذه الوحدات والنظر في الموقف منها وإذا ما كانت حتمية أم هي ناجمة عن ظروف تاريخية طارئة. تكرس أنجي ساندهو أستاذة العلوم السياسية في جامعة هالام شفيلد كتابها "المثقفون والناس" لاستقصاء طبيعة الفجوة التي تفصل بين المثقفين والمجتمع. وتقدم لنا أربعة فصول حافلة بالتفاصيل والجدال الفكري العميق لإظهار أن هذه الفجوة تلازم العلاقة بين المثقف والمجتمع في كافة أطوارها وأشكالها. يركز الكتاب على ثلاثة ميادين نظرية للعلاقة هي الليبرالية الغربية، والماركسية، وتيارات التحرر الوطني في العالم الثالث. وسأعتمد على عرضها النقدي الثاقب لطبيعة الفجوة في الميراث الليبرالي، حيث تقدم في القسم الأول من كتابها اثنين من المفكرين الكبار من ممثلي هذا التيار هما ماثيو أرنولد (1822 ـ 1888) ومعاصرنا يورغن هابرماس بوصفهما يمثّلان في نظريتيهما عن دور المثقف النظرة الليبرالية الغربية.


الفجوة الليبرالية:

تبدأ ساندهو بكتاب أرنولد "الثقافة والفوضى" (1869) الذي ترى أنه جاء استجابة للظرف التاريخي الذي شهده أرنولد في منتصف القرن التاسع عشر مع تصاعد الصراعات الطبقية في أوربا وانتشار القدرة على القراءة والكتابة بين قطاعات واسعة من الناس، وهو أمر زاد من ثقة الطبقة العاملة بنفسها. ثم هنالك الخيبة التي شعر بها أرنولد تجاه تدهور الأحوال في أوربا، وفرنسا تحديداً، بعد كومونة باريس وهزيمة فرنسا أمام بروسيا. حين وجّه أرنولد نظره إلى الطبقة الوسطى البريطانية وجدها منغمسة في ثقافتها الاستهلاكية الضيقة وأدرك أن المثال الكلاسيكي المهيمن الذي ظل يعلو بالثقافة على الصراعات الطبقية والاجتماعية والنزعة الاستهلاكية قد أصبح مهدداً في عقر داره. كان كتاب "الثقافة والفوضى" دعوة موجهة إلى الطبقة الوسطى للارتقاء بنفسها عبر التشبع بأرقى ما أنتجته الثقافة الكلاسيكية الغربية لتتمكن من تقديم مثال يُحتذى يقتدي به مجتمع ممزق إلى طبقات متناحرة يغلي بالسخط والانغلاق الطبقي. وكان المثال الذي قدّمه يجمع كل الفئات والجماعات ويعلو بها إلى أفق يتجاوز الخلافات بوساطة الثقافة الراقية المُعتمدة طوال أزمنة الارستقراطية البريطانية المندحرة. وقد مال أرنولد بوجهه عن أدب الحقبة التي عاشها لأنه أدب منهمك في ظرفيته عاجز عن تحقيق هذه المهمة السامية التي كان يدعو هو إليها. أما المثال الذي تقاس به درجة الرقي فهو آداب اليونان القديمة لقدرتها على إصلاح المجال العام وتنقيته من ضيق الأفق. وقد أُوكلت مهمة الترويج لأدب اليونان وإبراز عظمته للمعلقين والدارسين الذين ظلّ أرنولد يصرّ على تذكيرهم بثانوية دورهم قياساً بعظمة الأدب الذي كانوا يدرّسون. وتعلق الباحثة أن نظرة أرنولد هذه هي التي أحاطت ولادة الناقد الأدبي الذي أريد له منذ البداية أن يعرف حدوده الضيقة ولا يتجاوزها في حضرة الآداب الراقية القادمة من بعيد . بالمقابل كان دور الناقد تجاه الجمهور الواسع مقتدراً وجوهرياً يمتلك القدرة على تقرير مصير الأعمال الأدبية بحسب مقاييس الرقي المتعالية على السجال.
لقد استطاع أرنولد برؤياه تلك أن يقدم نفسه حارساً لسعة الأفق الإنسانية ولإنكار الذات، متهماً من تصدى لهم بالوقوع في فخ الإيديولوجيات وضيق الأفق السجالي. عزل أرنولد بين الثقافة والسياسة وبفعله هذا استطاع تضبيب الرسالة السياسية التي تنطوي عليها دعوته وفحواها تكريس الطبقة الوسطى في انجلترا على حساب الطبقات المسحوقة في المجتمع. وهي قراءة لا تتفق مع ما شاع عنه داعية إلى سعة الأفق والتعالي على المصالح الفردية باتجاه إنسانية شاملة عامة، الأمر الذي انطلى على ريموند وليامز، المفكر الماركسي البارز، عندما اتفق مع أرنولد ودعا هو الآخر إلى ثقافة مشتركة بدونها لن يتمكن البريطانيون من البقاء غاضاً الطرف عن الصورة السلبية التي قدم بها أرنولد الطبقة العاملة.
الرمز الثاني للتيار الليبرالي الغربي هو يورغن هابرماس الذي انشغل منذ أواخر الستينات بالعلاقة المتأصلة بين قدرات التعقل الإنسانية من جهة ورغبة البشر في التوصل إلى إجماع من جهة أخرى. وقد دعا إلى إعادة تركيب الحلم التنويري بدلاً من تفكيكه إذا كنا نطمح في العودة إلى منجزات عصر التنوير. حدد هابرماس منعطف القرن الثامن عشر كبداية لتبلور مفهوم المجال العام عندما نشأت منظومات العلم، والقانون، والأخلاق، والفن بوصفها ممارسات ثقافية مميزة تنظّم نفسها بنفسها. وهنالك من يرى أن هابرماس بتأسيسه لهذه المنظومات الغريبة عن الناس والبعيدة عنهم لما يتحكم بها من قوانين داخلية سببية وأطر مؤسسية قد أعاد إنتاج المكانة التي كانت من حصة الطبيعة والدين سابقاً. وترى ساندهو أن التمييز الحاد لدى هابرماس بين المجال الثقافي من جهة والمجالين الحكومي والاقتصادي من جهة أخرى يضعف العلاقة الوثيقة بين الجانبين ويغطي المواضع التي تتداخل فيها هذه المجالات على نحو يتعذر معه الفصل بينها . وهو فصل ينتهي بهابرماس إلى مثالية فلسفية تدمج الوعي الفردي بوعي انساني شامل مشترك يطمح التواصل في المجال العام إلى بلوغه كأنه يكمن قاراً في محيط يقع خارج المحيطين الاقتصادي والحكومي. كما أن وعي الحداثة الذي بلغته المجتمعات الغربية، بحسب نظرية هابرماس، لا يعود بحسب هذه المُصادرة إلى التطور الاقتصادي والتاريخي للمجتمع بل إلى قوة غامضة لازمة لها وجود سابق على الوجود التاريخي والاقتصادي تكمن في طبيعة الذات العاقلة وتدفعها إلى التواصل العقلاني. وهو ما يوقع هابرماس في فخ إعادة إنتاج قوى ما قبل الحداثة التي يستنكر تحكّمها في المجتمعات النامية . كما أن إشارة هابرماس إلى أن الديمقراطية وحكم القانون لا يعتمدان في نشأتهما على الظروف التاريخية بل على علاقة مفهومية داخلية حتمية في التعقل الإنساني تبث في جداله نفحة صوفية غريبة عن روح الحداثة التي يدافع عنها. وتتساءل الباحثة: إذا كان الوعي الأخلاقي الإنساني يميل دائماً إلى القواعد التوافقية، كما يرى هابرماس، ما الذي منع الديمقراطية الليبرالية من الازدهار في العصور السالفة؟ وكيف نفسر وجود حركات ثورية مفارقة ترفض الحوار وتدعو إلى مجتمع مختلف؟ وإن كان ثمة قواعد شاملة تحكم المجال العام فلماذا الحذر الشديد في منح حق المشاركة فيه دون قيد ومحددات؟ وإذا صح الفصل بين الثقافي بوصفه عماد المجال العام، والاقتصادي بوصفه يقع خارجه، فلماذا لا يدخل المجال العام إلا من له مزايا اقتصادية معينة؟ تخلص الباحثة إلى أن المجال العام الذي يعنيه هابرماس يستمد وضوحه وغايته من قمع التاريخ المادي . وتختصر غاياتري سبيفاك الاعتراض على نخبوية نظرية هابرماس بالقول إن دعوته إلى حالة اتصال محايدة من الحوار الحر هي ضرب من الخيال الذي لا سبيل أمامه للتحقق: "إن فكرة الحوار المحايد فكرة تنكر التاريخ، وتنكر البنية، وتنكر تموقع الذوات."
وهكذا تدلنا محاكمة ساندهو للميراث الليبرالي العقلاني أن أهم أسباب نخبويته تنكره لتنوع الوجود الاجتماعي وصراعاته، وأنه تشبث بمثل سامية عامة ضببت، بدلاً من أن تضيء، المشاكل الاجتماعية والسياسية المتفاقمة.

الفجوة الماركسية

ربما كانت مساهمة الفكر الماركسي هي الأبرز في مجال وصف وتحديد العلاقة بين المثقف والمجتمع. ولا يكاد يخلو جدال يتعلق بهذه المسألة من نظر في الميراث الذي ترتب على نظرية ماركس في دور المثقف الطليعي. وهي النظرية التي طُوّرت فيما بعد على أيدي الكثير من المفكرين الماركسيين ومضت في اتجاهات متنوعة. يشخص نيل هاردنغ في مقاله "المثقفون والاشتراكية" نقلة نوعية في موقف ماركس من دور المثقفين في المجتمع فيرى أن الكتابات الأولى لماركس وحتى كتابه الرئيس "رأس المال" انشغلت بوصف القوانين الموضوعية التي تحكم جدلية تطور المجتمعات انتهاء بالمجتمع الرأسمالي. وكان ماركس في تلك الحقبة يعول كثيراً على مبدأ الحتمية التاريخية الذي يرى أن انهيار الرأسمالية أمر حتمي لا سبيل إلى تفاديه تفرضه قوانين التاريخ. لكن "البيان الشيوعي"، بحسب هاردنغ، يمثل نقلة نوعية في نشاط ماركس حيث توجه إلى التأكيد لأول مرة على دور الوعي الثوري في تسريع هذه العملية الحتمية. وتغلب على نبرة "البيان" الحماسة التي أكدّ ماركس بها دور النخبة الواعية بقوانين التاريخ في إضاءة الطريق أمام الطبقة العاملة. وبالرغم من أن البروليتاريا هي موضوع التغيير وأداته الرئيسة فإنها بحسب ماركس تفتقد إلى الوعي اللازم بسبب وقوعها ضحية الاستغلال والتجهيل والحرمان من وقت الفراغ الذي يتيح لها تطوير قابلياتها النقدية. كما أنها بحاجة إلى تنظيم جهودها تنظيماً سياسياً فاعلاً يؤمّن لها القدرة على إحداث التغيير المطلوب. والواقع أن هذه النقلة من الركون إلى الحتمية إلى تأكيد الفاعلية الثورية قد تكررت في تاريخ الحركة الاشتراكية السياسي في بداية القرن العشرين وتمثلت في انهيار "الأممية الثانية" يتوجهاتها الاصلاحية واعتمادها على قوانين التاريخ وحتميته في الانتقال إلى الاشتراكية. كانت الحرب العالمية الأولى الحدث الكبير الذي فند كافة الدعاوى الإصلاحية التي قالت بها الأممية الثانية. واكتشف منظرون جدد مثل لينين وتروتسكي ولوكاتش وغرامشي أن التغيير لا يمكن أن تكتمل شروطه إلا من خلال وجود نخبة واعية فاعلة قادرة على أن تسرّع الأحداث التاريخية وتُحدث الانعطافة الثورية. وقد قال غرامشي عن الثورة الروسية إنها كانت "ثورة ضد كتاب ‘رأس المال‘" وذلك أنها حدثت في بلد بعيد عن التطور الرأسمالي المطلوب لإنضاج شروط الثورة الاشتراكية أولاً، ولأنها تمت بفضل نشاط الطليعة البلشفية التي تمكنت بإجادتها المناورة والتكتيك من تحويل الثورة عن مسارها الاشتراكي الديمقراطي باتجاه التغيير الجذري الذي يؤسس لسيادة حزب واحد ويقفز إلى بناء الاشتراكية في مجتمع لم تنضج فيه التجربة الرأسمالية نفسها.
بالرغم من أن لوكاتش قد تراجع عن الكثير من مقولاته في كتابه المبكر "التاريخ والوعي الطبقي" (ما اعتذر عنه أساساً أنه وضع "الكليّة" فوق البنية الاقتصادية التحتية)، فإن ما طرحه بصدد دور النخبة الثورية يمثل الممارسة المتحققة التي فرضت نفسها تاريخياً. لقد نظر لوكاتش إلى العمال دون رجاء لما يتميز به وجودهم البائس من أنانية وجشع ورغبة في الاستحواذ. فهم كما يرى ضحايا النظام الرأسمالي الذي حولهم إلى آلات وعبيد . بدلاً من اعتماد وعيهم قال لوكاتش بمفهوم الكليّة الذي أشار به إلى النظرة الماركسية القادرة على تقديم صورة شاملة لحقيقة الأوضاع في ظل الرأسمالية. وعوّل كثيراً على الديالكتيك الهيغلي في الارتقاء بوعي العمال الجزئي القاصر إلى مستوى الوعي الكلي الذي لا يتوفر عليه كاملاً إلا مثقفو الحزب عبر التأمل البعيد عن قيود الاستغلال الرأسمالي. وهؤلاء المثقفون هم المعوّل عليهم في زرع الوعي الطبقي في تربة العمال البكر المجدبة.
هنالك أيضاً نظرية غرامشي عن دور المثقفين في المجتمع التي طالما ذُكرت في النقاشات بصدد هذه المسألة. والواقع أن غرامشي أسس في نظريته لثلاثة أركان في هذه العلاقة هي ثلاثة مكونات ترتبط فيما بينها بعلاقات تراتبية يتبوأ القمة منها النخبة الثورية التي تمتلك رؤيا واضحة لطبيعة التغيير المطلوب ولمسار التاريخ. وهذه النخبة ترتبط بمؤسسة هي التنظيم الحزبي الذي يجعلها قادرة على التأثير ويحسّن أداءها باتجاه تحقيق رؤاها الكلية. ويصح وصفها بنخبة المثقفين الفلاسفة. أما المكون الثاني في هذه الثلاثية فهو المثقفون العضويون، وغالباً ما يُذكر هؤلاء في الإشارات السريعة إلى غرامشي وكأنهم النموذج الذي يمثل النخبة صاحبة القرار واليد العليا، بينما هم في الواقع المثقفون المنخرطون في طبقات اجتماعية بعينها من أصحاب الكفاءات والمهن والحرف المختلفة، والطبيعة العضوية لوجودهم تكمن في دورهم المهني الاجتماعي الفاعل لا في توفرهم على رؤى ثورية مكتملة إذ أن هذه الرؤى لا تتوفر إلا لنخبة المثقفين الفلاسفة التي تتربع على قمة التراتبية ويمثلها الحزب. دعا غرامشي إلى ضرورة الاستفادة من فاعلية المثقفين العضويين المستنبتة في عالم العمل والانتاج على عكس فئة أخرى من المثقفين هم التقليديون من رجال الدين والمنظرين الذين تفصلهم عن المجتمع مسافات بعيدة تجعلهم عاجزين عن فهم مشروع الحزب والمشاركة فيه. الركن الثالث هو الدولة، وهذه تمثل مجموعة المؤسسات التي يحقق الحزب من خلالها إنفاذ مشاريعه إلى أرض الواقع .
يبدو واضحاً من هذه النظرة السريعة في أنماط الفهم الماركسي لعلاقة المثقف بالمجتمع أن الماركسية قد أسست للفجوة بين المثقف والمجتمع بوصفها وسيلة التغيير الرئيسة التي تتمكن من خلالها البروليتاريا من الارتقاء على وجودها العاطفي اللاواعي بوساطة وعي يأتيها من الخارج. وقد جاء الاعتراض على هذه النظرية من الليبرالية العقلانية المتعالية على الصراع أولاً، ثم من التيار الفوضوي (باكونين أساساً). ويستحق الاعتراض الفوضوي وقفة خاصة إذ بدأت البحوث الحديثة تركز على مفكر بولندي عاصر الثورة البلشفية يدعى فاكلاف ماتشايسكي Waclaw Machajski نشر في المنفى كراساً مبكراً يُقال إن تروتسكي أطلع عليه لينين عام 1902. وفيه فصل ماتشايسكي المثقف عن الطبقة العاملة وأبطل دعوى أنه يمثل مصالحها، ورأى أن المثقفين (الانتلجنسيا) يمثلون طبقة مستقلة لها مصلحة في استمرار استغلال البروليتاريا. وأن الماركسية صارت لا تمثل إلا هؤلاء المثقفين الذين ما أن يصلوا إلى السلطة حتى يكشفوا عن مصالحهم الطبقية الخاصة، فهم أصحاب الياقات البيض المشرفون على مفاصل الاقتصاد لحساب الرأسماليين، وثورتهم على الرأسمالية تهدف إلى اختطاف فائض القيمة من أيدي الرأسماليين لحسابهم الخاص. وهكذا لم يبق على العمال بحسب ماتشايسكي إلى الترتيب لمؤامرة عمالية (توازي مؤامرة الانتلجنسيا) لضمان حقوقهم. وقد توقع أن طغياناً جديداً سيُمارس ضد العمال تحت يافطة الدفاع عنهم وتمثيلهم فكأنه تنبأ بالستالينية مبكراً .

إدوارد سعيد ولامكان المثقف

يقودنا مبحث التطورات اللاحقة للفكرة الماركسية عن دور المثقف إلى المفكر المعروف إدوارد سعيد الذي قدم تصوراً مميزاً للفجوة بين المثقف والمجتمع. وينتمي سعيد إلى تيار ما بعد حداثي عريض يرى مهمة المثقف تغريبية، مشاكسة، قلقة، مقلقة. إنها حالة البداوة الفكرية التي لا تعرف الاستقرار والإقامة بمعنى البناء . وقد عبّر عنها جيل دولوز على خير وجه عندما قال إن صورة البدوي عندما تُطبق على المثقف لا تعني بالضرورة الارتحال عن المكان الأصلي: "حتى من الناحية التاريخية، ليس البدو بالضرورة أولئك المولعين بالارتحال. على العكس، إنهم لا ينتقلون، بل يبقون في المكان نفسه ويتفادون دائماً شفرات المقيمين." وهو ما يعني أن المنفى ليس وصفاً حرفياً لحالة المرتحلين بل مجاز ينطبق على المثقف المقيم أيضاً. ولسعيد تأثير كبير على قطاعات واسعة من المثقفين العرب لأسباب كثيرة. منها أنه عربي فلسطيني قبل أن يكون أمريكياً، وأنه أيضاً دافع عن موقف سياسي يمثل أوسع القطاعات بين المثقفين في تصديه للغرب الاستعماري ولسياسات إسرائيل في المنطقة. كما أن عُمق سعيد ورصانته واقتداره الأكاديمي الفذ أمنّ له احتراماً كبيراً في نفوس المثقفين العرب. وبينما كانت نزعة سعيد النقدية المحضة مصدر قوة للمثقف في ظل الاستبداد فإن التحولات التي وقعت (وكان فكر سعيد ممن مهدوا لها بفكرهم) جعلت الالتزام بنظريته عن المثقف مصدرَ تقييد وارباك. فسقوط الديكتاتوريات العربية فتح أفقاً جديداً مركزه البناء والتأسيس على أنقاض نظم متهاوية لا النقد والتقويض (لم يبق على مستوى السلطة ما يمكن تقويضه). يقدم سعيد في محاضراته المعروفة عن المثقف (ويكفي لمعرفة أهميتها وانتشارها أنها تُرجمت ثلاث مرات إلى العربية ) صورة للمثقف تبدو في ظل المتغيرات الجديدة وكأنها أحد مصادر العزلة التي يعيشها المثقف النقدي الذي دعا إليه عن المتغيرات حوله لا وسيلة تقوية وتعزيز.
يستحق سعيد وقفة مطولة لا يتيحها السياق الحالي، لكن التطرق إلى فهمه للمسافة الفاصلة بين المثقف والمجتمع أمر له أهمية كبيرة في توضيح أبعاد المشكلة التي نحن بصددها. ينطلق سعيد من مفاهيم مركزية صارت معروفة لمن قرأ أعماله المهمة، وأولها مبدأ الدنيوية Worldliness الذي يصرّ به على زرع النص في بيئته وظرفيته التاريخية، مسفّها الرأي القائل إن للنصوص وجوداً منقطعاً عن ظرفيتها. وهو مبدأ يفسر اعتماد سعيد النمط السجالي في الكثير من كتاباته. المبدأ الثاني هو الهواية amateurismإذ يرى أن من حق المثقف أن يخوض في كل القضايا التي يجدها مهمة دون أن يكون التخصص الأكاديمي أو المهني الضيق مطلوباً لذلك. وهو يرد بذلك على تهمة برنارد لويس له بأن معالجته للاستشراق لا تصدر عن تخصص أكاديمي دقيق. هنالك ثالثاً مفهوما الانتساب الموروث Filiation وهو انتساب المثقف إلى تقاليد اجتماعية متوارثة و يقابله الانتساب الثقافي Affiliation وهو مفهوم يسعى إلى فك علاقة النصوص ومعها المثقف بتقاليد معينة تمنع تعقب علاقاتها مع العالم والظرفية. لكن أهم مفاهيم سعيد بالنسبة لموضوعنا هو تأكيده لاانتماء المثقف وغربته المتأصلة في حقيقة أنه مثقف. فالمثقف بحسب سعيد مشاكس أبدي لا يناسبه الرضا والقبول بأي نظام قائم لأنه الضمير الأخلاقي الذي يرفض الانصياع لأية جماعة أو أيديولوجيا أو حزب أو مبدأ . إنه منفي مُقيم في لامكان اليوتوبيا على الدوام. يقول سعيد:
" وأما النسق الذي يرسم طريق عدم الانتماء للمثقفين فأفضل ما يمثله ‘وضع المنفى‘، أي عدم التكيّف الكامل قط، والاحساس دائماً بأنه يعيش خارج العالم الذي يحس فيه أبناء البلد بالألفة ويتبادلون فيه الأحاديث دون كلفة ... فالمنفى بهذا المعنى ا لميتافيزيقي يمثل للمثقف ضرباً من القلق، والحركة، وعدم الاستقرار والتسبب في عدم استقرار الآخرين."
قراءة سعيد لمفهوم "خيانة المثقفين" الذي قدمه أصلاً اليميني يوجين بندا دالة على تشبثه بالنقد منزوعاً عن أية هوية سياسية مسبقة. بينما يتفق سعيد مع دعوة بندا المثقف إلى اللاانتماء فإنه يقرأ هذه الدعوة قراءة يفرضها هو على النص الأصلي . ولكي نرى مدى ابتعاد سعيد عن بندا يكفي أن نقارن قراءته بقراءة هربرت ريد التي وردت في تقديمه المطول للترجمة الانجليزية لكتاب بندا. يرى ريد أن "خيانة المثقفين" بالنسبة لبندا تتمثل في نقطتين أساساً هما: إعلاؤهم من شأن الخاص على حساب الشامل والعام، وإعلاؤهم من شأن العملي على حساب الروحي ولا نحتاج إلى طول تأمل لندرك أن الفكرة الأولى تتناقض مع إعلاء سعيد من شأن القضايا السجالية الخاصة في تفكير المثقف، وأن الثانية تتناقض مع تأكيده على الدنيوية والظرفية بدلاً من الروحانية الساكنة الثابتة.
بدا فهم سعيد للمسافة الفاصلة بين المثقف والمجتمع في حقبة ما قبل الانتفاضات العربية كشفاً جريئاً لمهمة أخلاقية عاجلة هي ممارسة أقصى درجات النقد مع أنظمة مستبدة خانقة. لكن التمترس في منطقة النقد لذاته مهما بدا عملاً نبيلاً، يقصر عن تقديم عون يذكر عند التصدي لمهمات ما بعد الدحض والتفنيد. حالة الغموض والالتباس والتشتت التي تسود البلدان المنتفضة، وغياب سلطة مركزية صلبة يمكن للمثقف النقدي أن يقصدها بنقده، يدفع الكثير من المثقفين الصادقين في مسعاهم إلى المساهمة الايجابية إلى حالة من الحيرة والبلبلة لم يحسب لها سعيد حساباً وهو يدعو المثقفين الهواة إلى لااستقرار البداوة، والعيش خارج الأنظمة كلها، وتمجيد اللامركزية المطلقة. هنالك شكوى تتكرر بين المثقفين إلى أن ما يتحمسون له اليوم ينقلب إلى مصدر شكوى في الغد (في مصر انقسم المثقفون في مواقفهم من الانقلاب العسكري على حكومة محمد مرسي انقساماً أقرب إلى الفتنة، وفي سوريا اختلط الحابل بالنابل، وفي العراق يحار المثقف أين يصوب النقد؛ إلى الارهاب وآلته القوية التي تهدد بنية المجتمع والدولة أم إلى الفساد والطائفية المستشرية في الدولة). كان النقد في الظرف الذي كتب فيه سعيد يُعد خطوة إلى الأمام في التصدي للطغيان، أما اليوم فلم يعد النقد وحده كافياً، لم تعد الهواية والحماس والرغبة المشاكسة واللاانتماء أموراً مأمونة. هنالك حاجة جديدة إلى إدراك أن المثقف جزء من حركة تاريخية لها شروطها وقيودها، وهي تحتاج منه إلى القدرة البناءة على التثبيت والبرمجة للمستقبل والسعي إلى تقاليد جديدة تليق بمجتمعات حرّرت نفسها من الاستبداد. لابد اليوم من الانتقال من صورة المثقف المعياري المثالي المنقطع عن الوقائع (ويمثل هذه الصور مثقفون كبار مثل فولتير، وزولا، وأوريل، وهابرماس، وسعيد نفسه) إلى صورة المثقف التحليلي التجريبي الواقعي المنشغل بتفاصيل الحالة القائمة ( ويمثله مثقفون كبار لا يقلون أهمية عن المجموعة الأولى مثل ماركس، ومانهايم، وبورديو، وبومان). وهي انتقالة تتجاوز النقد والدحض والتفنيد إلى أسئلة جديدة أهمها التمثيل السياسي الذي يمارسه المثقف لقطاعات المجتمع المختلفة وشرعية هذا التمثيل.

الكلام بالنيابة وخيانة المثقفين

يقدم ديك بيلز Dick Pels في كتابة "المثقف غريباً: دراسات في الكلام بالنيابة" فهمه الخاص لدعوى خيانة المثقفين التي قال بها يوجين بندا وأحياها إدوارد سعيد في محاضراته عن المثقف. ولتوضيح فهم بيلز هذا لابد من التوقف قليلاً عند الأطروحة الرئيسة في كتابه المذكور. ينطلق الكتاب من كلام الشخص نيابة عن المجتمع أو ما يتصف بخاصية اجتماعية spokespersonship ويؤسس لأطروحة أن كل الأشياء (الاجتماعية) من موضوعات، وميول، وقوانين، ونماذج، وأسباب، وارتباطات، وتجمعات، ومصالح، ونوازع تحتاج إلى شخص يتكلم بلسانها أو وسيط يستحضرها ويمنحها وجوداً يُراد له أن يؤثر على الكيانات الأخرى في المجتمع. وتكمن أهمية هذا المنطق البديهي في أنه ينطوي على موقف نقدي متشكك في كل الدعاوى التي تحاول التستر على دور المتكلم بلسانها أو محوه وهي تقدم نفسها على أساس أنها دعاوى جوهرية كلية تتجاوز الشخص الناطق بلسانها وتوجد في حالة سيادة أنطولوجية في عالم مستقل يسبق التمثيل ويقرره سلفاً . لا يمكن للواقع أن يتكلم عن نفسه بنفسه دون "نقش" يتركه الشخص المتحدث بلسانه عليه. وهذه الدعوى لإبراز دور الفاعل البشري في طرح وتشكيل الرؤى الكبرى والأيديولوجيات التي تدعي الشمولية والموضوعية المطلقة أمر ضروري لتأكيد حتمية الفجوة بين المثقفين والسلطة السياسية من جهة والمجتمع من جهة أخرى.
يقول بيلز عن نظام الانتخابات والتمثيل الديمقراطي أنه يسمح عبر فسحه المجال لمجموعة من الأحزاب والقوى، بتأكيد الفجوة التي تفصل بين كل هذه الأحزاب والمجتمع الذي تدّعي تمثيله، فلو أنها كانت متطابقة معه لحق لها احتكار السلطة لوحدها. تكمن القوة السياسية إذن في الحقل الممتد بين الناخب والمرشح للانتخابات، وفي "الفراغ" القائم لا محالة بين جموع المنتخبين والهيئات التمثيلية. "بهذا لا يكون التمثيل بديلاً عن الديمقراطية المباشرة نرضاه على علاته لغياب بديل أفضل، بل هو الإجراء الدستوري الوحيد الذي لا غنى عنه لتوليد القوة السياسية ... ولابد للدولة من أن تخلق مسافة مناسبة تبتعد بها عن المجتمع لكي تتمكن من أداء عملها بطريقة مؤثرة."
بالرغم من نظرة بيلز الايجابية هذه للفجوة التمثيلية فإن بيير بورديو، على سبيل المثال، يرى أنها المصدر الأساسي للاغتراب السياسي. فالتمثيل والاغتصاب بالنسبة له يمثلان وجهين لعملة واحدة. يمكن للمتكلمين بلسان جماعة معينة لا أن يحلّوا محلها ويستحوذوا على صوتها حسب، ولكن على قوتها أيضاً. ويتساءل بورديو: أيهما يخلق الآخر؛ هل تخلق المجموعة من يتكلم بلسانها أم أن المتكلم بلسان المجموعة يخلقها؟ يمكن للدال أن يمثل المدلول، لكنه قادر أيضاً على خلقه وإدعائه واستثمار قوته. وتعني "الفتشية" السياسية بهذا المعنى أن هذه الوساطة قد تم التستر عليها. لكن بورديو يدرك، بالرغم من ذلك، أن الجماعة لا يمكن أن تكون مؤثرة إلا إذا تكلمت بصوت مشترك واحد، وهو ما يعني أن اغترابها السياسي مطلوب للتخلص من الاغتراب السياسي . الخطر إذن ماثل لا محالة، يمكن للمندوب عن المجموعة التي يمثلها أن يعتم على هذه العملية التمثيلية الحتمية فيدعي لنفسه الهوية التمثيلية كاملة. وهنالك مصادرات لا محالة، فالمندوب عن المجموعة يحتاج إلى أن يمحو ذاته عبر التماهي مع المجموعة أولاً ليستولي على سلطتها أخيراً. ويتحقق ذلك عادة بنقل النيابة من تمثيل البشر إلى تمثيل كيان يعلو على الجماعة نفسها (الشعب أو الله) يتيح له شطب نفسه كفرد أولاً، وكممثل لمصالح الجماعة الضيقة نفسها ثانياً. وهو ما يتيح له ممارسة عنف يكتسب طابعاً شرعياً على كل فرد من أفراد الجماعة التي يمثلها. وأخطر ما يحيق بهذا العنف الرمزي أن يكتسب هوية لاسياسية identitarian.
يرى بيلز في هذا السياق أن الخيانة الحقيقية التي يمارسها المثقفون هي تسترهم على هذه الثنائية بين التشيؤ (الكلام بلسان الحقائق وكأنها تتكلم بلسانها) والترجمة (التي تؤكد أن لكل كلام صفة تمثيلية محدودة). وهي ثنائية لازمة لا سبيل إلى تلافيها. يقول بيلز "الخيانة هي تقديم الشفافية بوصفها ‘نداءات تلفونية تأتي من الماوراء‘" .وهو رأي يناقض فهم سعيد للخيانة تماماً، فإدعاء الحياد الأخلاقي وإنكار أن للمثقف مصلحته الخاصة هو الخيانة عينها بحسب منظور بيلز. إن تأكيد بيلز على الكلام بالنيابة وعتمته الحتمية يحيلنا إلى مشكلة أخرى لم يعرها الفكر السياسي العربي ما تستحق من الاهتمام من قبل بينما قدمتها الانتفاضات العربية إلى الواجهة على كل ما عداها، وأعني بها مشكلة الشرعية.

بقية الدراسة على موقع مجلة الكوفة http://www.uokufa.edu.iq/journals/index.php/Kufa_Review/article/view/2337








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهاجمة وزير الأمن القومي الإسرائيلي بن غفير وانقاذه بأعجوبة


.. باريس سان جيرمان على بعد خطوة من إحرازه لقب الدوري الفرنسي ل




.. الدوري الإنكليزي: آمال ليفربول باللقب تصاب بنكسة بعد خسارته


.. شاهد رد مايك جونسون رئيس مجلس النواب الأمريكي عن مقتل أطفال




.. مظاهرة أمام شركة أسلحة في السويد تصدر معدات لإسرائيل