الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دلبرين في شهرزاد / عامودا

جوتيار تمر
كاتب وباحث

(Jotyar Tamur Sedeeq)

2014 / 4 / 30
الادب والفن



خرج دلبرين من بيته في ذلك المساء وهو يركض ليلتحق باقرانه واصدقائه الذين تم ابلاغهم من قبل مدير المدرسة التي يدرسون فيها بانهم مدعون الى مشاهدة فلم في السينما، فكيف يقاوم الاطفال مثل هذه الدعوة لاسيما نحن نتحدث عن مكان ينتشر الفقر فيه بشكل ربما لايخفى على متابع وناظر، ودلبرين كان واحداً من بين خمسمائة طفل اخر الذين ركضوا ووجوههم تحمل تباريج الفرح، والسنتهم تغني وترتل سنذهب الى السينما، وسنشاهد فلم، وكأنهم كانوا مستعجلين بركضهم للذهاب الى قدرهم المجهول بنظرهم وغير المجهول في نظر البعض الاخرين بالاخص القائمين على السينما والواقفين وراءهم.
دلبرين طفل في الثانية عشرة من عمره، بشرته بيضاء تميل الى الاحمر بالاخص عندما تبرز عليه ملامح الخجل..شعره قصير يمزج الاحمر والشقر، نحيل جسده ضعيف جدا بحيث من يراه كان يقول له بان الريح ستكسر قامتك فكان يبتسم في وجوههم ويمضي في طريقه، حمل في ذلك اليوم امانيه بالدخول الى السينما لاول مرة في حياته، فظروفهم المعيشية لاتساعده على شراء بطاقة السينما ومشاهدة الافلام، لاسيما ان والدته ربة بيت دون عمل وهي انسانة تنبعث من وجهها ملامح الصفاء والنقاء، طويلة جميلة وناعمة على الرغم من ان الظروف القاسية التي تعيشها قد خلفت على ملامحها بعض التجاعيد الا انها مع ذلك لم تزل نظرة، ووالده في ربيع عمره، لم يستطع ان ينهي دراسته بعد الزواج حيث ترك دراسته والتحق بحقله، ومن كثرت العمل والجهد الذي يبذله غزا الشيب رأسه، ولان قوت الاهل اهم من المظاهر نراه دائما في الحقل وعلى الرغم من ان ما يجنيه لايكفي سوى لقوتهم اليومي وبعض المصاريف الثانوية والتي لاتتكرر كثيراً مثل شراء بعض حاجيات المدرسة لابنه الوحيد..الا انه ما ان يعود للبيت حتى يبتسم في وجه زوجته وابنه دون ان يظهر لهم ما يعانيه من ألم وتعب جراء العمل اليومي المستمر.
دلبرين في مسائه ذاك كان قد رسم ملامح شهرزاد في مخيلته، لكونه قبلها لم يدخلها وكل ما يعرفه عنها هو انه كان يمر امام بوابتها دون ان يسمح لنفسه حتى بالتفكير يوما بدخولها..وشهرزاد هذه كانت احيانا تعج بالاصوات الا انها كانت اصوات غريبة على دلبرين وعلى الكثيرين ممن خرج في ذلك المساء من الاطفال لكونهم كانوا لايملكون كما قلت سابقا المال ليدخولها.
وصل دلبرين الى الشارع المؤدي للسينما وهو لم يزل يركض..وكأنه لم يكن وحده الراكض حيث وجد الكثيرين قد سبقوه الى شهرزاد..والتقى امام بوابة السينما ببعض اصدقائه الذين يعرفهم وببعض الاخرين الذين لم يكن يعرفهم ولكن ذلك لم يكن مهما طالما ان هدف مجيئهم الى ذلك المكان واحد، كان الظلام قد ادلى بدلوه والسماء قد التقطت تراتيل اهالي المدينة ..وتنتظر ان تهب تلك الارواح الى دورها لتقدم قرابينها من التراتيل الجديدة... الا انها في ذلك المساء كانت على موعد مع تراتيل من صنف اخر، تراتيل ليست بغريبة عليها، لكنها في الوقت نفسه تراتيل تناجيها تارة وتمقتها تارة اخرى..لكونها امتزجت بانين ارواح نظرة لم تعرف معنى الخطيئة بعد.
التمت تلك الجماجم الصغيرة وتلك الاجساد النظرة ..والارواح النقية امام بوابة شهرزاد ونظموا دخلوهم الى القاعة وجلس الاطفال في هدوء تام منتظرين الفلم الذي تم دعوتهم لمشاهدته والتي من المفروض ان يذهب الريع الذي قد يجمع منه الى اطفال اخرين في بلد شقيق انتفض اهله بوجه مغتصبيهم في ثورة عرفت بكثرة شهدائها..ولم يكن احد من هولاء الاطفال ولا ذويهم يعرفون بان القدر يخبئ لهم ما لايتوقعونه.
كان دلبرين من الاوائل الذين دخلوا صالة العرض لهذا كان جالساً في المقدمة، وكأن روحه كانت تشم رائحة غريبة او تشعر بامر غريب لذا كان يلتفت كثيرا للوراء وينظر الى اصدقائه وكأنه في نفسه كان يشعر بفجيعة ما او خوف ما..لهذا لم يستمتع بمشاهدة الفلم الذي اصلا لم يكن فلماً مخصوصاً للاطفال..فهو من عنوانه" جريمة في منتصف الليل" يوحي بالكثير من العنف الذي لايتناسب مع اعمارهم.. ولكنه في الوقت نفسه اسم لواقع اصبحت ملامحه تظهر لاصحاب الاقدار ولن يقف وراء تلك الجدران يترقبون المجهول المعلوم لديهم والمجهول غير المعلوم لدى هولاء الاطفال.
في خضم الاحداث العنيفة ضمن سيناريو الفلم انتقلت شرارة من اللهب الى الشاشة البدائية فالتقطتها وانتشرت النيران بسرعة البرق في الشاشة وفي باق الملحقات التابعة لها، ظن الاطفال بانها من ضمن مشاهد الفلم نفسه، الا انها كانت القدر المجهول الذي اصبح معلوماً من تلك اللحظة حيث التهمت النيران كل شيء فانتشر الدخان في ارجاء الصالة ولانها كانت قد اقفلت باحكام ولاتوجد مخارج مفتوحة فيها فقد التهمت النيران والدخان الارجاء وبدأت بحصد الارواح النظرة وتلك الاجساد النحيلة من سوء التغدية اصلا، ومن الجوع الدائم..بدأ الهلع تراكضت الاقدام مسرعة نحو المخارج وضاع دلبرين الذين كان في المقدمة بين الصدمة التي اصيب بها وبين دهشة الحريق ورعب الصرخات التي اجتاحت كل زاوية من زوايا شهرزاد.. تسابقت النيران نحو الاجساد من الداخل، وتسارعت السنة الدخان من الخارج، وظل القائمين على السينما والقائمين على المدينة من ازلام النظام الحاكم يشاهدون الوضع دون ان تهزهم صراخات الاطفال، حتى السماء وقتها جفت ولم تمطر وتلبي نداء تلك الارواح بالخلاص..اجتمع الاهالي وبداوا بنقل المياه بالايدي والافواه وكل ما يقع بين ايديهم الى موقع الحريق الى شهرزاد التي خانت الاطفال .. وبدأوا باطفاء الحريق دون ان تتحرك آليات الحكومة.
برز احد الرجال وقتها وحمل على عاتقه الحمل الكبير هذا، حيث التف حوله المئات من الاهالي واستطاعوا بعد عمل وجهد وسعي ان يخمدوا النيران التي التهمت وقتها الكثير من الاجساد، فمن الخمسمائة لم ينجوا الا ميئتين وخمسة عشرة روح اما الباقي فقد التهمها النيران والدخان وحصدت ارواحهم.. وقتها ارتفعت رائحة تلك الاجساد الملائيكية الى السماء فامتزجت بتراتيل اهل السماء.. ولان السماء لم تكن وقتها تبالي فقد تركتها لتتراكم وتوضع بعضها فوق البعض.. بعد ساعات من العمل والجهد استطاع الاهالي من ترميم بعض الجثث واعادتها دون اعادة الروح اليها، فوضعت في عربات خشبية مهترئة الهيكل والدواليب ونقلت الى احدى دور العبادة لتشيع بعدها الى مقابرها، وعلى الرغم من العديد منها ظلت بدون هوية حيث لم يتعرف احد عليها وذلك لكون الحريق قد التهم كل ما قد يؤدي الى معرفة هويتهم.
والد دلبرين وامه كانا من ضمن الحاضرين في تلك الموقعة وكانا ممن تعرفا على جثة ابنهم الذي قبل ان يختنق بالدخان ويحترق ساقيه كانت الارجل قد داست على جسده النظر والنحيل فكسرت عظامه جميعها، وكأن ما كان يقوله له الناس كان من ضمن السيناريو المعد له في تلك الليلة..اخذا جثة ابنهم ودفناه في المقبرة التي جمعته باصدقائه الاخرين مرة ولكن بعيداً عن شهرزاد... اما باقي الجثث التي لم يتم التعرف عليها فقد دفنت في مقبرة جماعية وكأن الاهالي ارادوا منهم ان يمتزجوا ليسطروا حلقة جديدة من قصة الغراب.
12/9/2004








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو


.. في عيد ميلاد عادل إمام الـ 84 فيلم -زهايمر- يعود إلى دور الس




.. مفاجآت في محاكمة ترمب بقضية شراء صمت الممثلة السابقة ستورمي