الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جدل الهوية الطبقية والهوية الوطنية

سعد محمد رحيم

2014 / 5 / 3
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


غالباً ما ارتبط وعي الهوية الطبقية في العراق، بالهوية الوطنية. وإذا ما عرفنا أن الإحساس بالانتماء إلى الهويات الموروثة كالدين والطائفة والعشيرة يعتمد الجانب الوجداني/ العاطفي فإن الانتماء الطبقي ووعي الهوية الطبقية لهما طابعهما الواقعي/ العقلاني، لذا فوعي الهوية الطبقية يعكس شعور المرء بذاته وإدراكه لمصلحته كونه إنساناً اجتماعياً/ اقتصادياً له وظيفة اجتماعية وقضية محددة. وهذا ما يجب أن يقوده بالضرورة إلى التضامن مع أبناء طبقته من جهة، وأن يحلم ببناء دولة قانون ومؤسسات مدنية ركيزتاها الديمقراطية والعدالة الاجتماعية من جهة أخرى. لذا وضع اليسار، على الدوام، المشكلات الاجتماعية في القلب من اهتماماته الفكرية وممارساته السياسية، ومسعاه الوطني.
إن شرط تأسيس الدولة الديمقراطية المدنية القائمة على مبدأ المواطنة هو مع غلبة الاعتبار للانقسام الأفقي/ الطبقي للسكان على حساب الانقسام العمودي/ الاثني والعشائري. أي أن الأفراد الذين يمنحون الأهمية لهويتهم الطبقية بوعي يكونون قادرين للمساهمة في ترسيخ أسس دولتهم الوطنية. ولكن حين تضعف الدولة في أن تكون الضامنة للحد الأدنى من العدالة الاقتصادية والاجتماعية، وتأكيد حقوق المواطنة في الأمن والحريات المدنية والعيش الكريم، ستنتعش الهويات ما قبل الدولتية، وتبدأ حالات تضييق حدود الانتماء. فالتقسيم على أساس الدين والعرق سيفضي إلى تقسيم آخر في إطار الدين الواحد إلى طوائف، ومن ثم إلى جماعات. فيما يجري التقسيم في إطار العرق مناطقياً وعشائرياً. ثم ستحدث تقسيمات أخرى في داخل هذه البنى. أي أن المجتمع ألأهلي قابل للانشطار على الدوام. وهذه التقسيمات تكون غالباً ذات طبيعة تناحرية/ صراعية من أجل الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من السلطة والمكانة والثروة. وما يساعد على هذا المأزق الاجتماعي والوطني هو نمط الاقتصاد الريعي. وإذن بقدر ما تغادر الدولة عقلية ومنطق الاقتصاد الريعي وطرقه وآلياته وما يفرز من بنى فوقية استبدادية ومتخلفة نحو الاقتصاد القائم على التنمية والإنتاج والتقسيم الاجتماعي للعمل بقدر ما تهيء عوامل رأب التصدعات المجتمعية وتجاوزها، وتعزيز الهوية الوطنية. فعلاقات الإنتاج الجديدة ومغادرة النزعة القدرية الاتكالية لابد من أن ترافقه خريطة اجتماعية طبقية جديدة، وخريطة مغايرة للهويات ومحتوى آخر، أكثر غنى ووضوحاً وتحديداً، لهذه الهويات.
إن الهوية الطبقية ليست النهائية والوحيدة للأفراد.. وقد يشعر الإنسان أيضاً، حتى مع الأشكال الحادة للصراع الطبقي، بالولاء لعائلته وأصدقائه وفريقه الرياضي ومهنته والمؤسسة التي ينتمي إليها والمنطقة الجغرافية التي يسكنها ودينه ووطنه ولكن بدرجات متفاوتة. وفي المجتمعات ذات الظروف الإيجابية السويّة غالباً ما تبرأ تلك الهويات من داء العصبية المولِّدة للكراهية والانقسام والعنف. وإذا افترضنا أن التهديد الذي يتوقعه المرء، أو يتعرض له فعلياً، يغدو عاملاً حاسماً في اختياره لهويته فإن ما سمّي بدولة الرفاه الاجتماعي في الغرب الرأسمالي والتي حققت مكاسب ملموسة نسبياً للطبقة العاملة بفضل عمليات النهب الاستعماري وتطور التكنولوجيا وتحقيق الوفرة قد خلقت الشروط لصالح انتماءات أخرى للعمال غير الانتماء الطبقي. وفي هذا السياق عملت السلطات الرأسمالية دوماً على إضعاف الشعور بالانتماء الطبقي لصالح الشعور بالانتماء الديني والعرقي عبر افتعال الأزمات، هنا وهناك، لتسهل عليها خوض حروبها الإمبريالية، وبذا كانت تضرب أكثر من عصفور بحجر واحد. ففي مستعمراتها ومناطق نفوذها عملت الرأسمالية على رسم خطوط تقسيم نهائية وحادة بين الأمم والجماعات كي تنقل الصراع من بُعدها الطبقي إلى بُعد آخر مموّه هو البُعد العرقي والطائفي والديني، فذلك هو الفضاء الذي تستطيع فيه الاستمرار كنظام اقتصادي/ اجتماعي قائم على الاستغلال ونهب ثروات الآخرين.
يشكل غياب العدالة نوعاً حاداً من التهديد، وفي مثل هذه الحال يصبح منطقياً، على الصعيد النظري في الأقل، الكلام عن الوعي الطبقي والتضامن الطبقي والصراع الطبقي، ولكن حين يُصاحب غياب العدالة أنواع أخرى أعتى من التهديد كتهديد الوجود الإنساني والحياة الإنسانية يصبح الشعور بالانتماء الطبقي قضية مؤجلة. وإذن فإن الهوية الطبقية والإحساس بها تضعف في مواسم الازدهار والراحة، كما في مواسم الأزمات القومية الخانقة كالحروب الداخلية والخارجية. وكانت الدول الاستبدادية والفاشية فضلاً عن الدول الرأسمالية تلجأ إلى إشعال الحروب في سبيل امتصاص النقمة الاجتماعية في الداخل لسحب الشرعية والمبررات عن مطالبات مواطنيها وذلك بزعم الدفاع عن القيم الوطنية والدينية العليا أو مصير البلاد المهدد.
إن موضوعة ( صراع الحضارات ) هي واحدة من أخطر أطروحات الرأسمالية المعاصرة التي ابتكرتها لمواجهة الأطروحة الماركسية حول صراع الطبقات، وهي مكمِّلة، من ناحية ثانية، لموضوعة ( نهاية التاريخ )، وإن بدت مناقضة لها في الظاهر. وقطعاً لا تكتفي الرأسمالية المتغوِّلة بالتقسيمات الكبرى بين الحضارات والتي تصنِّفها بحسب هنتنغتون من منظور الدين؛ الغرب المسيحي والهندوسية والبوذية والإسلام. بل إنها تتمادى وتكرِّس تقسيمات مضافة داخل التقسيم الرئيس وهذه المرة ذات طابع مذهبي.. إن العالم الذي يسهل التحكّم به على وفق هذه الاستراتيجية هو العالم المقسّم بفواصل قاطعة ودامية بين الطوائف والأعراق والأديان.. وهو ما عملت عليه الولايات المتحدة في أثناء احتلالها للعراق بدءاً من 9/ 4/ 2003.
بالمقابل نجد أن التناقض الطبقي في البلدان المتخلفة أو ذات الاقتصاديات الريعية ينحجب خلف التهميش الذي يطول الأقليات والجماعات والشرائح الأكثر فقراً.. فيتخذ الصراع الطبقي قناعاً عرقياً أو طائفياً.. فجزء من الصراعات العرقية والمذهبية والطائفية هي في جوهرها وحقيقتها ما هو إلا صراع طبقي مقنّع جرى تمويهه.
الهوية الطبقية مكتسبة، وقابلة للتحوّل.. والانتماء الطبقي ليس نهائياً وقارّا مثلما هو عليه الأمر ( نسبياً ) مع الانتماء العرقي أو الطائفي. وما يحصل من حراك اجتماعي يجعل أمر الصعود والهبوط بين الطبقات مسألة طبيعية وحتمية حيث تتغير البنى الاجتماعية ـ الاقتصادية مع التغيرات الحاصلة في بنى المُلكية والإنتاج والسلطة والتعليم. والحالة تختلف نوعاً بين اقتصاد ريعي قائم على هبات الأرض ودرجة سخائها، وبين اقتصاد بضاعي قائم على مبدأ العمل الاجتماعي المنتج، وتقسيم العمل، وخلق القيمة الفائضة.
حين أفصح ماركس وأنجلس في البيان الشيوعي عن شعارهما المدوّي: "العمال لا وطن لهم، يا عمّال العالم اتحدوا" كانا يتحدّثان عن أوضاع اقتصادية/ اجتماعية في دول/ أمم مكتملة الشروط والبنيان أو كانت في طريقها إلى الاكتمال، بعد أن أنجزت البرجوازية مهمتها التاريخية في تقويض بنية النظام الإقطاعي وبناء دولها القومية وإقامة أسس نظام رأسمالي/ صناعي بعلاقات إنتاج مختلفة تماماً. وكان المجتمعان المدني والسياسي قد نضجا، هناك، إلى حد بعيد. وكانت ثمة مؤسسات ليبرالية مسندة بقواعد قانونية ذات طابع علماني.. كان ذلك سياقاً تاريخياً حضارياً خاصاً بإطاريه الزماني والمكاني. من هنا لا يعقل تقديم تلك الوصفة بشكلها المجرد حلا للمشكلة الاجتماعية/ السياسية في بلدنا لأننا ببساطة نتحدث عن ممكنات وشروط تأسيس دولة/ أمة مدنية وعصرية ما زالت حلماً في الضمائر والعقول، حيث المجتمع ما يزال يعاني من انقسامات ما قبل دولتية، وحيث الدولة ( أو شبه الدولة ) بسبب طبيعة اقتصادها الريعي ما زالت عاجزة عن ترصين تقاليد ديمقراطية وتحقيق تنمية اجتماعية حقيقية وضمان السلم الأهلي.
ليست للهويات الناشئة إلا سرديات تبقى في طور التشكّل، وهي غالباً ما تكون قائمة على ذرائع واقعية ـ تاريخية ملموسة، وتعتمد وقائع الحياة اليومية التي تحيلها إلى ذاكرة حية ورموز، وتكسبها بعداً اسطورياً. فالكفاح الطبقي هو بصدد إنشاء سرديته باستمرار. لا تعيد سردية قديمة موهومة.. إن سردية كومونة باريس ( في سبيل المثال ) هي ملهمة، لا شك، لكن الطبقة العاملة، والطبقات الفقيرة، والمتوسطة بشريحتها الدنيا، التي تناضل في الحاضر من أجل حقوقها المسلوبة لا تتحدث عن حقوق ضائعة لعمال الكومونة، بل عن حقوقها هي في الحاضر التاريخي. وهذا على عكس سرديات الهويات الموروثة، لاسيما تلك التي ينعتها أمين معلوف بالقاتلة، وهي ما يغذّي جزءٌ كبير، أو صغير، منها، عنصر التخييل، إن لم نقل التلفيق.. والصراعات التي تقع في ضوئها أو بوحي منها لا تكون مستندة، في معظم الأحايين، على أسس واقعية وطيدة في الراهن. وحتى لو كانت تلكم الأسس مثبتة وموثوقة بالأدلة القاطعة، فهي غالباً ما تكون فاقدة لمسوِّغاتها التاريخية. وعبر القرون قُتل ملايين الناس لأسباب هي في حقيقتها محض تلفيقات وأوهام. وأخطر هذه الصراعات هي التي تؤججها مؤسسات تتبرقع بالقداسة وتدّعي الدفاع عن حقوق جماعتها.
يتصل التناقض الطبقي جدلياً بجملة تناقضات أخرى اجتماعية وسياسية وثقافية، وكلها تمثِّل بوحدتها الجدلية صورة عن أزمة وطنية عامة. ولأننا لا نستطيع تصوّر بنية فوقية متقدمة مع بنية تحتية/ اقتصادية تعاني من اختلالات هيكلية وتخلّف قوى الإنتاج فإن التمثّل الطبقي للمعضلة في كليتها لابد من أن تتخذ بُعداً وطنياً عاماً، لا فقط لأن الأغلبية من شرائح المجتمع تشعر بالظلم الاقتصادي والاجتماعي، بل، وأيضاً، لأن هذه المشكلة ليس بالمستطاع حلها بمعزل عن قضية بناء الدولة/ الأمة الحديثة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - العمال لا وطن
عبد الحسين سلمان ( 2014 / 5 / 3 - 12:57 )
الزميل سعد
تحية
تقول:
حين أفصح ماركس وأنجلس في البيان الشيوعي عن شعارهما المدوّي: -العمال لا وطن لهم، يا عمّال العالم اتحدوا-
1. العمال لا وطن لهم ليس شعاراً...
هذه الجملة جاءت ضمن سياق, الرد على التهمة التي تقول:
يُتهم الشيوعيون بكونهم يريدون القضاء على الوطن والقومية.
فالعمّال لا وطن لهم. فلا يمكن أن يُسلب منهم ما لا يملكونه...
وليس بمعنى homeless

2. إما ..يا عمال العالم اتحدوا...فقد وردت في نهاية البيان الشيوعي...ولم يقل ماركس ...يا عمال..بل قال..في النص الاصلي الألماني....
“Proletarier aller Lä-;-nder, vereinigt euch!
يا بروليتاريا
وهناك فرقاً كبيراً بين البرولتيارية والعمال بالمفهوم الماركسي

مع الشكر

اخر الافلام

.. مراسل العربية : معبر رفح ما زال مفتوحا من الجانب المصري


.. صباح العربية | العمل الفردي أفضل من الجماعي؟.. دراسة ترد بال




.. هاتفك المسروق مغلق؟.. لا داعي للقلق! إليك خطوات لاستعادته بس


.. للمرة الثانية.. إدارة بايدن تعطل صفقة أسلحة أميركية لإسرائيل




.. صباح العربية | 4 أسباب توضح فعالية العمل الفردي أكثر من الجم