الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


منزلنا الريفي (46)

عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .

2014 / 5 / 4
الادب والفن


همس الطفولة (3)

حينما قررت عائلتها الرحيل، وعدتني حسناء بأنها إذا ما أتيحت لي الفرصة يوما، بأننا سنعيد تمثيل فيلم " كوادلوبي " بمعية المهدي وأخته حنان، لقد رحلت البراكة المشؤومة إلى مستقرها، وها هي تجد لها موطئا قرب الوادي .
لقد عاشت هذه البراكة المثلثة السقف مغتربة كما عاش أهلها مغتربين، رفضت حسناء أن تغترب معها، وظلت ملتصقة بالأرض، وكانت تدمع عبرات غزيرة، يهددها الأب، تتوسل إليها الأم، لكنها أبت، كانت تسمع نداءا خفيا من الأرض، تذكرت صرختها الأولى وهي تعانق الحياة، تذكرت نسمة الأوكسجين الأولى كما تذكرت هؤلاء النساء اللواتي قمن بلفها في ثوب أبيض كما تلف الأرض موتاها، كل هذه اللحظات اجتمعت في همسة أشبه بزخة مطر .
سقطت البراكة الخشبية ذات يوم، انتهت حياة، بدأت حياة أخرى، ظل هذا الانتقال غصة في حلق حسناء، لكنها لم تبتلعه إلا مع توالي الشهور والأعوام .
كانت حسناء فتاة جميلة، كان وجهها أبيضا محبكا بشكل جيد، أما عيناها فكانتا سوداويتين واسعتين تعلوهما رموش من حرير، كان شعرها بحرا يعبق بالأمواج، هي ترتج كقلب يضج بالحياة، تنسدل المياه على طول الضفاف، بينما شعرها ينسدل متموجا في كل الجهات، كان أملسا يشبه خرير المياه .
كنت أنت المخرج، وكنت أنت الممثل، في طفولتنا نكون كل شيء، نكون كل الطاقات التي تتأهب للنبوغ والظهور، وبينما ينطلق السباق، ومع توالي المسافات تكون كل الطاقات قد نضبت، لم تجد من يعبئها، ومن يشحنها بزفرة حياة جديدة، فترى طريق الطفولة، وقد لفتها الأشواك، وأحاطتها الحواجز والجدران، هكذا نموت ونذبل كما ذبل الآباء .
كنت أنت من تحدد الأدوار، تأخذ دور الزوج ألفريدو ، بينما تعطي لحسناء دور الزوجة كوادلوبي ، تقبل ذلك بكل سرور، في حين تعطي للمهدي دور الابن، يقبل ذلك على مضض، أما أخته فتأخذ دور لويزة المربية .
قرب الحظيرة، بنينا دارا صغيرة من الأحجار، وغيرنا ملابسنا، وارتدينا أخرى أنيقة، فقررنا الزواج ذات مساء، لم يحضر أحد من المدعوين الافتراضيين والحقيقيين، كان الأهل يرونا ذلك مجرد هراء، ولا يبالي أحد مما نقوم به، ولما تسأل أحدا من الأهل حول ألعاب الأطفال، يرد عليك : الأطفال لا يعرفون شيئا، وبمجرد أن يكبروا، فإنهم سينسون هذه التفاهات، الحياة شيء آخر، إنها أصعب مما يتصور الأطفال، فليست مرحا، بل إن الحياة فوضى وشقاء، لهذا نتركهم يلعبون، حتى يحين دورهم ، في طفولتنا، لم يكن لدينا الحق في أن نلعب، ولم يشرحوا لنا سبب ذلك، كانوا يعتقلوننا بين القطعان، ولكن رغم ذلك كنا نسرق لحظات نلعب فيها، حتى لو كلفنا الأمر في أن نبيت في العراء متقلبين ذات اليمين وذات الشمال بين ركام التبن الذي يسمى محليا بالنادر .
ينسى الأهل أن حياتنا تتبلور في هذه اللحظة، وأن مستقبلنا ينسج في هذه الآونة، وأن عبر تلك التفاعلات التي بين الأطفال تتبلور أسمى القيم الإنسانية، كم كنت أتمنى أن يشاركنا الأهل فيما كنا نقوم به ذات يوم من الأيام، غير أن هذا لم يحصل، فالأهل يسكنهم الموت والعذاب والبؤس، غادروا حياتهم لما كانوا أطفالا، ذبلوا كما تذبل الزهور في الصيف، وتتحول إلى أشواك سامة، كانت تهديدات الأهل كالقيح الطافح التي تثيره تلك الأشواك فوق جلودنا .
لم يحضر أحد إلى عرسنا، حضر فقط أربعة شخوص، تقنع المهدي ولعب دور حميد الطعارجي ، بينما حنان لعبت دور الشعيبية العونية ، آوى العريسان تحت سقف الدار الحجرية، وفي الوقت الذي كنا نمضي فيه، كنت آخذ بيد حسناء، كانت تضحك ضحكة خجولة، أعجبني الأمر، فعلمت أنها تحبني، عرفت ذلك، وكانت وجنتاها تتورد من حين لآخر .
مضت ليلة جميلة سكنها المجون، اخترقتها أضواء من شموع، وصوت حنان الرخيم كان يعتلي شجرة ذات غصون، أما "طعريجة " المهدي فكانت كتغريد عصفور، كل الأحداث لفها ذلك الليل البهيم، وقذف بها في معسكرات الزمن السحيق، لمن تغني والضوء البهيج رحل إلى الأفق وحل هناك بعيدا بعيدا في البعيد ...
ذات صباح، سقطت الدار، ولم نعرف من الذي أسقطها، فبقينا في العراء، فقررت حسناء أن نسكن في منزل جدتي الحجري، وهناك قضينا شهر العسل .
عبد الله عنتار / الأحد 04 ماي ( أيار) 2014 / المغرب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شخصية أسماء جلال بين الحقيقة والتمثيل


.. أون سيت - اعرف فيلم الأسبوع من إنجي يحيى على منصة واتش آت




.. أسماء جلال تبهرنا بـ أهم قانون لـ المخرج شريف عرفة داخل اللو


.. شاهدوا الإطلالة الأولى للمطرب پيو على المسرح ??




.. أون سيت - فيلم -إكس مراتي- تم الانتهاء من تصوير آخر مشاهده