الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المتشائل بين المسرح والرواية

سميح مسعود

2014 / 5 / 4
الادب والفن


أسعدني الحظ مؤخراً وشاهدت المتشائل رائعة إميل حبيبي في عمل موندرامي متميز في عمان ، بقيت على إمتداد ساعتين مشدوداً أمام الفنان الفلسطيني الكبير ذو المواهب الإبداعية المتعددة محمد بكري ، وهو يعرض بمفرده مشاهد موندرامية متميزة عرضها لأول مرة في عام 1986، وما زال يعرضها بنفس الحماس والتألق حتى الأن كما قدمها في عرضه الأول ، وما زال يحافظ على تأثيره الكبيرعلى جمهور المشاهدين ، يُبهرهم ويثير فيهم فيضاً من المشاعر الدفينة نحو بيوتهم وقراهم ومدنهم داخل فلسطين ، ونحو تداعيات النكبة التي أورثتهم حُزناً مزمناً.

تمكن الفنان محمد بكري على امتداد ما يزيد عن ربع قرن من استشعار الهم الفلسطيني بإحساس عميق ، من خلال الغوص في عمق مفردات نص رواية المتشائل الساخرة ، بلغة جميلة لفظاً ومعنى ، وبتلوين جذاب في الصوت، يرفع من مستوى أداءه صوتياً في تعبيره عن جراح شعبه بلكنة مؤلمة ، ويزيد من قدرته الفنية على تجسيد دواخل أحداث مليئة بالصدمات والنكسات على اتساع فترة زمنية طويلة ، يتحسس مواضع ألامها وأحزانها بتفاصيلها المختلفة بمؤثرات عاطفية ووجدانية ، يبثها إلى جمهوره بأسلوب ساخر مثيرفي مشاهد إبداعية متتابعة يمتزج فيها الضحك بالبكاء والحزن والجد بالهزل والتفاؤل بالتشاؤم ، يعكس بها باقتدار كبير مضمون نص " كوميديا سوداء " يخاطب جميع الحواس ، و تطول بها قامته كفنان موهوب أكثر وأكثر مع تأدية تلك المشاهد من " المتشائل " بتألق دائم على خشبة المسرح في عروضه المتكررة على امتاد أعوام طويلة .

عُرضت المسرحية في عمان في قاعة فندق ، غير مخصصة للأنشطة المسرحية ، ولا تتعامل مع دلالات ومؤثرات بصرية وضوئية وديكور وملابس وغيرها من التنويعات الأخرى التي يتمسك بها المسرح التقليدي ، اشتملت القاعة على سرير بسيط وضع بعناية أمام الجمهور ، يشبه السرير الذي يظهر دوما في عروض المسرحية ( ويرمز إلى أسرة مستشفىيات المجانين ) ... إكتظت القاعة بجمهور كبير ، نساء ورجال وشباب من مختلف الأعمار ، كان الكل بانتظار بدء العرض ، بانتظار سماع الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد ابي النحس المتشائل ، وسماع تفاصيل أحداث بؤس حكاية شعبه على امتداد سنوات الشتات الطويلة ، التي ابتدات بنحس النكبة اللعينة والهزيمة ، وما تلاها من نحوس أخرى وهزائم متواصلة ، ما زالت تحل بشعبه في الزمن الراهن .

في الوقت المحدد ، دخل محمد بكري من الباب الرئيسي للقاعة وهو يرتدي بدلة مهترئة قديمة ، ويحمل " مكنسة " طويلة يقبض عليها بيديه ، اخترق الصفوف باتجاه مقدمة القاعة حيث يوجد السرير البسيط ، واصل السير ببطء وهو يغني لجمهوره بصوته الجهوري أغنية من التراث الشعبي عمت فلسطين وبلاد الشام فيما مضى ، من كلماتها : " حيد عن الجيش يا غبيشي ، قبل الحناطير ما يطلوا / ماحيّد عن الجيش لويش وَاللي يعادي غبيشي يا ذله "

تحمس الجمهور لظهوره ، وفجأة ردد الجميع معه نفس الأغنية بصوت عالٍ، وعندما وصل إلى مقدمة القاعة ، توقف عن الغناء ... جال بعينيه على أرجاء المكان ، ثم وجه نظره نحو سيدة كانت تجلس في الصف الأول ، حياها ببضع كلمات مسموعة و قدمها للجمهور بأعلى صوته باحترام واضح قائلاً : " معنا الدكتورة راوية إميل حبيبي " سرعان ما صفق الحضور تعبيرا ًعن تقديرهم لوجودها بينهم في نفس المكان ، بما يوحي ويعبرعن التقدير المعنوي الكبير لوالدها مؤلف رواية "المتشائل " الشهيرة الأديب الكبيرالراحل إميل حبيبي .

بأداء صوتي متميز بدأ بكري في سرد دواخل " الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل " اتسع فعله التمثيلي من أقصى يسار القاعة إلى اقصى يمينها ، بحضوره وقدرته الفنية جعل منها خشبة مسرح واسعة ، رغم أنها غير مناسبة للعروض المسرحية ، وتمكن باقتدار أن يجسد شخصية " سعيد أبو النحس المتشائل " في أداء قل مثيله عبر به عن امتلاكه قدرة سحرية في الألقاء والحركة والتعبير والإحساس بالصدق في تقديم الشخصية ، وفي اختراق قلوب الجمهور بامتياز، حتى وفي إشراك الجمهور معه في أدائه ، وجعله جزءا من المشاهد المعروضة ، من خلال الحديث مع بعض الحضور ، ودعوة أكثر من سيدة للرقص معه على أنغام موسيقية هادئة معبرة تتلاءم مع سياق العرض ، كما وأشرك الجميع معه في ترديد عدة أغاني تتلاءم مع حكايا المسرحية المجبولة بمرارة الشتات والنفي والانكسار والقهر وبؤس الهزائم .

نجح الفنان القدير محمد بكري بأدائه الرائع أن يتحكم بحركاته وصوته وجسمه ويتألق بأفاق جميلة طيلة عرض مشاهده الموندرامية ، تمكن بجدارة من خطف إعجاب الحضور بعرضه المتميز ، كما نجح في همساته وكلماته ورقصه وأغانيه في خلط التفاؤل بالتشاؤم ، والبكاء بالضحك بانفعالات كبيرة ، وتمكن من تثبيت المكان في سياق مقاطع كثيرة ردد فيها حيفا وعكا والطنطورة والبروة وقرى ومدن فلسطينية اخرى غيرها ، وشدد فيها على حتمية البقاء والصمود في الداخل الفلسطيني رغم القهر والقمع والمصادرة .

تدور المسرحية حول رواية الأديب الراحل الكبير إميل حبيبي الموسومة " الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل " التي احتلت الترتيب السادس في تصنيف اتحاد الكتاب العرب لأفضل مئة رواية عربية ، وهي رواية ساخرة تم إختيار اسمها من دمج لفظي المتشائم والمتفائل فنتج المتشائل ، وتعبر عن انقسام شخصية الفلسطيني الذي بقي في بلده بعد النكبة تحت حكم الدولة المحتلة ، بين الحفاظ على هويته الفلسطينية العربية ، وبين إثبات الولاء للدولة المحتلة ، إتقاء لشرالسلطات ومخبريها إبان فترة الحكم العسكري .

تتكون رواية المتشائل من ثلاثة كتب تؤرخ للمراحل الأساسية في تاريخ القضية الفلسطينية من عام 1948 حتى عام 1974 ، يحمل الكتاب الأول إسم يُعاد وهي فتاة حيفاوية تمثل المرحلة السابقة للنكبة ، ويحمل الكتاب الثاني إسم باقية وهي طنطورية تمثل روح الصمود والمقاومة والتشبث بالأرض والهوية في وجه محاولات الإقتلاع والترحيل بعد النكبة ، حتى وقوع بقية الأرض الفلسطينية في الأسر مع هزيمة 1967 ، ويحمل الكتاب الثالث إسم يُعاد الثانية ، التي تجسد المرحلة الجديدة من الوعي الفلسطيني التي تبلورت بعد هزيمة 1967، وانطلاق العمل الفدائي ويرمز إسمها للعودة . وأما سعيد المتشائل في الرواية فإنه يرمز إلى الفلسطيني الذي لم يهاجر وبقي في وطنه بعد النكبة .

يظهر سعيد في الكتاب الأول وهو يبحث عن التكيف ويتلمس الأمن والأمان ، ويعبر عن استعداده لتقديم التنازلات التي تطلبها منه الدولة المحتلة ، ثم يظهر في الكتاب الثاني أسير إزدواجية غريبة ، في وقت حمل فيه ابنه السلاح ولاذ بالفرار والإختباء بكهف بعيد ، وينتهي الأمر بسعيد في الكتاب الثالث إلى الجلوس على قمة "خازوق " يرفض النزول عنه ، ورغم تغيره إلا أنه لم يتمكن من النزول إلى الناس لمشاركتهم النضال ، ولم يجد أمامه سوى الإستنجاد بكائن فضائي ، استجاب له وحمله إلى حيث الجنون .وبهذا أكدت الرواية على سقوط صيغة ازدواجية الولاء في الارض المحتلة ، وعلى صعود صيغة الفداء من أجل الوطن .

تتسم الرواية بتراكيب نصية ذات قيمة بنائية متميزة غير متبعة من قبل في الأعمال الروائية ، تمكن بها إميل حبيبي من تأسيس مقومات إبداعية جديدة تعتمد على استلهام التراث العربي والفلسطيني والأمثال والحكايات الشعبية ، واستخدام جمالية فائقة للغة المتبعة ، تتألق بها عبارات كثيرة يبتدعها المؤلف بسياقات توظيفية نصية في مجال السخرية والكوميديا السوداء بدفعات زاخرة بالمرارة والضحك والبكاء .

واللافت أن إميل حبيبي قد اعطى المرأة مكانة خاصة في روايته ، شعر بكينونتها وانسانيتها ، وأظهرها فيها كحبيبة وزوجة وأم ومناضلة مقاومة للإحتلال ، كما حَمل كتبه الثلاثة المكونة للرواية إسم امرأة : يُعاد وباقية ويًعاد الثانية . ولأهمية هذه الأسماء في إطار أسرة الراحل إميل حبيبي ، تحمل إحدى حفيداته إسم " يُعاد " وهي الإبنة الكبرى لابنته الدكتورة راوية وزوجها الكاتب سميح غنادري ، و تحمله كثيرات أيضاً من فتيات فلسطين ، لأنه يُعبر عن مشاعر العودة ، كا أطلق اسم يُعاد على فرقة الإنشاد الوطني ألتي تأسست في الجليل في سبعينيات القرن الماضي ، وهذا يوحي ويعبر عن سطوة البعد المعنوي للرواية في الراهن المعيش .



ا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-


.. فعاليات المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية في الجزاي?ر




.. سامر أبو طالب: خايف من تجربة الغناء حاليا.. ولحنت لعمرو دياب