الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قلبُ أمّي لم تخنْهُ النظرة - قصة قصيرة-

عبدالكريم الساعدي

2014 / 5 / 4
الادب والفن


قلبُ أمّي لم تخنهُ النظرة
____________ ( قصة قصيرة )
كانت الحشود قوافل مسافرة نحو الجنوب، نحو الموت والخراب، تستجدي من الدروب رائحة بقاياها في ظلّ دموع خرساء مختنقة بالخنوع والحرمان ، يطلّ منها جفاف الزمن المخبّىء في ظلّ الحرب وأصداء اليأس ، قوافل من التوابيت وجحافل من النساء الملتفّة بعباءات الدموع والعويل والفزع وجنود يحلمون بالأياب ، كانت الأيام والليالي جراحاً نازفة بعصف الآهات ، تلثم شفاه الكون بالصراخ ، باحثة عن وجه الله في كونها المنسيّ في منعطف النيران والموت اليومي ،عند منعطف المقابر المختنقة برفات القتلى ، قتلى تبحث في الظلام عن بقايا كفن لعلّه يغطي بعض عوراتها . كنت أنا وأمي نلوذ بدمنا المحترق شوقاً لرؤية وجه أخي الذي عصفت به الأيام في دائرة المحنة وهو لمّا يزل في مقتبل أحلامه البريئة . كان مساء (الفاو )* غائماً ينقر قلوبنا بالرعب، ومساء وجه أمي مشرقاً بأمل أن تلقاه:
- لاتخشَ شيئاً ،سنلتقيه ، أنا أعلم أنّ الموت لايحزّ رقبة الورد، عليٌّ بستان ورد ! هكذا قالت لي أمي، كانت شعلة من الكبرياء ، وأنا بقايا رماد أرغب أن أغفو على ملامحه البريئة ،في ظلّ دموع أخفيتها خلف جدار الوجل.ولمّا اقتربنا من خلفيات وحدته العسكرية عند أطراف المدينة تركتُ أمي خلف الأسلاك الشائكة مفترشة تباريح قلبها مبلّلة ريق الكون بما تبقّى من أمل ،خلع المساء بُرقعه ولبس وجه َ الرعب المدجّج بالعتمة والتيه في احتمالات الفجيعة ، كان الضابط برتبة عقيد كرهته حين نهشتني مخالب عينيه بالموت قبل أن يمدّ يده بالسلام:
- مااسم أخيك ؟
- علي...
صاح على أحد الجنود وملامحه يعتريها الأنزعاج :
- أعطني قائمة أسماء الشهداء ؟ جفلتُ وطافتْ بي دهشة مطوّقة بحجب خفية على صمت سجلات الموت ، سطور تجهش بأسماء غابت في صمت الى الأبد، كان دمي مشنوقاً بالأرتجاف يرتجّ بحرارة القهر مثل عصفور صغير بيد طفل ، كنت أرقب عينيه عن كثب وهي تقلّبُ صفحات الماضي ، تجتاز الخطوط، خطوط الموت التي لعقت خفقات القلب بقسوة وأنا معلّق في قبضة عينين تهزأ بأنفاسي اللاهثة بأطياف الحنين وأصداء الذكريات، أخشى أن تفتح لي جرحاً في خاصرة العشق ،وممّا زاد ارتباكي كان يفاجأني كلّ لحظة وعيناه تقفان عند اسم علي، كنت كنصف ميت ،أذوق مرّ الهوان :
- ما اسم أبيه ؟
-...............
كنت أطوف حول ملامحي المختبئة بين السطور بخشوع ناسك، كان يشبهني تماماً..مرّت ثواني بعمر الكون وأنا أرتّل في المدى دعاءً له نبض خوفي وضعفي وأنين الأمهات ،وعيناي تدوران بين الأسماء المرثية وبين ظلّ أمي القابعة خلف أسلاك المنايا، إنها مسافة شهقة موت أو حياة ، مسافة ثماني سنوات رعب ، متّشحة بسواد القهر والحزن والتلاشي، تدور في قبضة الموت.ولمّا انغلق فضاء المجهول وختم على قلقي بالشمع تحررت من أسر كابوس العزاء، هرعت الى أمي ملوّحاً لها عن بعد بضوء أمل لعلّها تستظلّ به ، كانت فَرِحة لأنّه لم يمت :
- ألم أقل لك أن الموت لا يقدر أن يحزّ رقبة الورد ؟ أريد أن أراه .
ومضيتُ وحدي في سيارة الأرزاق الى وحدته على أمل أن تراه أمي ولو لدقائق ، مضيت والطريق إليه كما حدقة الموت يغمزنا بجنائز تترى ، تتقافز الأشلاء منها ،أشلاء افترستها شهوات جنرالات الموت البلهاء، كانت الحرب تنطلق من خلف غرائز الصمت فتفرّ الأجساد ويبقى الصدى معلقاً بغيمة يترجل منها دوي القذائف وأزيز الرصاص ، ينخلع من ظلّها صراخ وبقايا رماد مختلطاً بدخان يترقرق بدم يهذي بأحلام تحتمي بألمها . كان الطريق يلتهم بعض أنفاسي كلما توغلت في مسافات الموت ، مسافات بلا أزمنة ،تزدحم بالغموض والغضب في ظلّ عبوات ناسفة وضجيج المجنزرات وأمطار القذائف وبقايا شظايا ، والفضاء مشتعل بالأرق والنسيان وظمأ الغزاة . كان الطريق ضريراً قبل آخر خطوة ونحن قاب الموت أو أدنى ، كان الجندي الذي رافقني يحلم بموته في تمام صمت مضيء عند خليج السأم والأوهام ، يلتمس خطوات أقرب الى الجري فأدركت أننا نسير بلا ظل ، تقتفي خطواتنا مساحة شاسعة من المخاوف وأنّ الأرض تأخذ شكلّ الخنادق والسماء تحمل أدمعنا وظلال وجه أمي الذي ترك زيف المكان وجاء يسعى مرتعشاً في رحلة الأسراء حاملاً دفء أحضان الأمس . لمحت عن بعد ظلال جنود ،لوثت وجوههم سنين الدمار والخراب ، كانوا كالموتى يحملون بقايا تعب دفين تجمعهم حزمة من الجراح وباقة من طيوف الأسى ،يصطفون خلف جنائزهم في زمن بِيْعَ فيه الماءُ والنخل وصُودرتْ فيه خلاخيلُ الأمهات وجدائلُ الصبايا ورغيف الخبز، زمن زرع وجه صباحاتنا جرحاً وسط ضجيج الأناشيد وصهيل موائد العهر...كان عليّ أن أقتفي أثره ، أرقب أخباره وأنا أرسمه حلماً على قيد الحياة، وألقي السؤال بعد الآخر في موقد الفراغ لعلّه يزهر فرحاً، كانت الخطى رثة طاعنة بالتعثّر والموت ملقى بين خنادق صلبت على جدرانها أحلام الطفولة. أرخيت جفن العين وأطلقت في المدى وجه أمي ،كان النور خافتاً يسطع ويغيب بين خوافي الريح (أخذتْ يدي تضغط على قلبي بقسوة، وأنا ألمح شخصاً ما ، قادماً من بعيد... ) له ملامحي ، فبرزت عيناه من تحت السكون ملوّحاً ب(بيريته ) السوداء كطيف موشّ بالحنين، يتلو سيرة الخراب، تعانقنا عن بعد وخطواتنا لمّا تزل تحتل مواقعها والشوق محنّى بالدمع ،كان العناق مكتظاً باللوعة ومرايا الذكرى، تلاشينا وسط ينابيع العطش ونحن نكتم دموعنا في سعة من الحضور :
- لقد تأخرتَ كثيراً .
- نعم تأخرت كثيراً....
حينها لم يكن للدمع محلاً وأدركت أن قلب أمي لم تخنه النظرة.

* الفاو : منطقة في أقصى جنوبي العراق ، شهدت أعنف المعارك في ظلّ حرب السنوات الثمان من ثمانينات القرن العشرين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي