الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللمسة الأخيرة - قصة قصيرة -

عبدالكريم الساعدي

2014 / 5 / 6
الادب والفن


موجاتٌ من الصور المتلاطمة على جدار مخيلته تُظلّل شيئاً ما في داخله الملتهب بحمّى الاسى،استوى على كرسيه يتأمل لوحةً عارية،سبابتهُ تمتد بتساؤلات مبهمة ،ترتعش في وجه الاضطراب ،ريشته الراقصة فوق ألوانهِ تطلق صيحات ولادةٍ قيصيريةٍ ، ألوانهُ الزيتية ، كلماتهُ الحبلى بالأمنيات تنهالُ ضرباًعلى الزوايا المعتمة للوحتهِ العارية..أطَّرَ لوحته باللون الأسود ،فجاءتْ صيحته الأولى غاصةً باللون الأصفر،راسمة أقنعة تعتلي وجوهاً غريبة ، تتمحور حول صراخ مغلّف بالخداع،تكمّم أفواهاً خرساء بفخذين عاريتين لامرأة فقدت جسدها عند منعطف الجوع والحرمان.ضربتان متتاليتان لريشته المنغمسة بألوان قاتمة ،تمطر فوقَ بقعةٍ غاصةٍ بالوقاحةِ صليلَ الجنسياتِ المتعددةِ ،تظهر له حناناً شفيفاً متكئاً على ظلال الراحلين نحو الشمس،لكنّهُ سرعان ما هشّمَ أطرافَ الصّليلِ بأمطار تشرين المعانقة لآثاث البيوت الباكية، لتطوفَ أزقةَ المدنِ المنكوبة...لم يتبقَ من مساحةِ لوحتهِ إلا بعضُ الفراغات المتبعثرة رسم عليها وجعَ عشر سنين مطعّمةً بوعود عرقوب، وفي بقعة أخرى خبّأ ماتبقى من أحزانهِ في حقيبةِ سفرٍ،تحوكَ أحلامَهُ بخيوط لعابها اللزج، فتفوح منها رائحةٌ مثل رائحة النفط الكريهة.وبعد أن ظلّلَ الفراغات المُلتفة حول وجع الصور المتداخلة ظهرتْ خارطة المدن المنكوبة متقلصةً ، لم يفقه من تضاريسها شيئاً سوى أنّها فقدتْ منطقتها المحايدة ،أما الأرض ذات السحنة السمراء بدأتْ وكأنّها تومضُ بألسنة ملتهبة بأحقاد موهومة......وحين رسم بكلماتهِ كلَّ طيوفِ الفقراء بين مقلتي قصته اختنقَ بالنهايات، ولم تُبدِ رشيتهُ رغبة ًبضربةٍ أخيرة لتنهي ما بدأه، وقبل أنْ يتركها جانباً وهو متأملاً اللمسة الأخيرة ،تدحرجَ على هتاف المتظاهرين ، لأسقاط البقع المظلمة من فوق نصب الحرية ، وإزالة خرائط العار.... كان الصمتُ يستقرفي خاصرة المارّين، اعترضهُ أحدهم بتساؤل مستعتباً إياه بترك موقعه :
- ما فائدة النداء، واذان الطرقات والجدران صمّاء، نامتْ على أمنيات لاتأتي أبداً؟ لم يأبه لكلامه،وانطلق ليلْحق المتظاهرين ،صوت آخر يعترضه :
-ما الذي أتى بك هنا ؟ لانريد أن تترك موقع الشهادة ، كنْ عيناً تلتقط بكلماتك صور التحدي .
- أريدُ إتمامَ قصتي ...
الطريق المارّ فوق مملكة الأحتراق يستعيد خطواته المنسيّة قرب المقاهي الصادحة بأصوات شجية ،المكتبات تمرّ حانية على ليله الغارق بقصصها الحزينة ، العربات المتجولة بدأتْ تستقر في أماكنها قرب دور السينما المتكأة على صدر الخوف ... كلُّ شيء فقد ملامحه إلّا حناجر الجراح نقشت فوق سواقي الزمان وفوق جغرافية المكان ممرّات عبور ،الذين عرفهم بالأمس أصبحوا أطيافاً ،خيطَ دخانٍ يعانق الفراغ ... بكى كثيراً حينما مرّ بالأماكن التي كانت تحيا بأسمارهم وتلتحف دفء السهر . كان يمشي بين المتظاهرين بألمِ امرأةٍ أحبّها ووجعِ نهايةِ قصتهِ ، وحين مرّ بالمكان الشاهد على وهج حبّهِ ، قلتُ لهُ :
- ألم تتزوجها ؟ أجابني بمنطقٍ هادىء:
-ما خرجتُ مع هذه الجموع إلّا من أجلها ، لقد أكل السجن أحلامنا....وحين التهبتْ عيناهُ ببريق أملٍ لاح له نهاية الطريق ، تقدّم الجموع يهتف برغبتهِ ، يلوّح بآهات خياله الخصب ، تنزاح قضبان الأنتظار شيئاً فشيئاً ، ولمّا لم يبقَ أمامهُ غير الفرح راح ينشد أغنية من خلف ألفي سنة :
( اطربْ مادمتَ حيّاً ، لاتستسلمْ للأحزانِ ،
واعملْ كثيراً لأنّ الحياةَ قصيرةٌ ،
وسرعانَ ما يداهمنا الموتُ ....... )
وما يدري أنّه يدورُ في فلكِ الأنتظار ليعصفَ به صراخُ الأقنعةِ التي تعتلي وجوهَ الغرباء،تطلقُ عليه غرائزَها اللزجة ، يتكررُ موتهُ ، تنتابهُ حيرة :
-إنّها مازالتْ تنتظرني .. وحينَ هبّتْ رائحةُ موتهِ الأخير تقبّلَ فكرة الوداع ، ولمّا لم تكنْ أنفاسُهُ قادرةً على وضعِ نهاية لقصتهِ الأخيرةِ ، جاءَ الموتُ ليشي بالخاتمةِ .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي